ركب السيارة بسرعة وكأنه هارب من جريمة خطيرة حيث تلفت حوله عدة مرات قبل أن ينظر لي نظرة تهديد قائلاًً:إطلع علي طول ومش عايز كتر كلام..فقلت مندهشاً:طب اطلع علي فين يعني؟ فرمقني بنظرة من قد فاض به الكيل قائلاً:مش مهم وفلوسك هتاخدهم علي داير مليم!هنا أدركت أن الرجل لابد وأنه زبون هارب من مستشفي العباسية ولم يكن هناك بد من الانصياع الكامل لارادته خوفاً من أي رد فعل غير مضمون..وبعد لحظات فوجئت به يشير للعداد وهو يسألني:ده عداد إيه؟ فقلت:ده عداد الاجرة ولامؤاخذة لكن لو سيادتك ممعكش فلوس ولا يهمك اعتبرالاجرة وصلت فصاح قائلاً:مبقاش غيرك انت كمان اللي تبقشش عليا قلتلك اجرتك هتاخدها وعليها بوسة أنا بسألك لأني كنت فاكرة عداد للكلام مش المسافات(!) فسألته مندهشا يعني إيه عداد كلام؟ فقال بسرعة:أبدا ياسيدي الست هانم مراتي بتتهمني دايما بأني قليل الكلام وبأنها بتشحت مني الكلام..وبأنني أتعامل مع الكلام زي ماكون هادفع رسوم وضرائب علي كل كلمة أقولها!فقاطعته متسائلاً:بس مفيش دخان من غير نار ياتري إيه إللي مزعلها منك قوي كده؟ فقال وقد بدأ يطمئن للكلام معي:أبدا ياسيدي أصلي محسوبك من النوع قليل الكلام والوليه مراتي دي راكبها عفريت بيخليها متخيلةأن الرجل اللي ساكت علي طول حتما ولابد يكون »عامل عملة «..وكل ما احاول أقنعها بأن قلة كلامي ما هي إلا قلة حيلة تمصمص شفايفها وتقولي:ده أنا اللي قليلة البخت معاك..ياخاين العشرة والعيش والملح..إنت أكيد ساكت عشان بتحب واحدة تانية وبتفكر تتجوزها عليا..عايز بعد العشرة الطويلة دي تجيبلي ضرة؟حاولت اسكتها وادخل بيها في حوارات عشان تتلهي مفيش فايدة وكل كوم واللي حصل لما حكيتلها حكاية الشحاتين كوم.شعرت بفضول شديد لسماع بقية قصة الرجل فسألته قائلا: شوقتني يا استاذ إيه حكاية الشحاتين دي وعملت إيه مراتك لما سمعتها؟ فقال:أنا كنت باحكيلها علي الناس اللي بقت بتشحت بمناسبة ومن غير مناسبة زي الناس اللي ممكن توقفك في الشارع تشحت منك مع انهم ناس عاديين زيي وزيك أو مثلا الكناسين في الشوارع إللي سابوا كنس الشوارع وتفرغوا للشحاته..وفي عز ما أنا منهمك وباحكيلها إذ فجأة ألاقي مراتي بتوقلي إنها هي كمان عايزة تبقي متسولة ولما اعترضت بشدة وقلتلها إننا أه بنعاني يعني والحمدلله من مصاريف التعليم والاكل والشرب زي كل بيت في مصر لكن الأمر موصلش لدرجة إني أسمحلها تشتغل لا وتشتغل ايه شحاتة يعني مش موظفة أو مدرسة كنا قلنا أهي وظيفة محترمة لكن شحاتة؟ ده حتي عيب ومايصحش..أي نعم كثير جدا من المصريين أصابهم داء التسول اللا إرادي خاصة في شهر رمضان لكن ده مش معناه إني أقبل أبداً إن مراتي تشحت في الشوارع حتي لو نموت من الجوع..وفي عز ما أنا بابكتها ألاقيهالك ياسيد بتضرب كفا بكف وتقولي إني فهمتها غلط وان ده مكانش قصدها أبدا وأنها يعني قال ايه قال مستعدة تبقي شحاتة من نوع خاص وهو أن تتسول مني الكلام مقابل أن تدعو لي بشوية أدعية من إللي قلبي يحبهم!!لم أستطع أن أمنع نفسي من الابتسام وأنا أسمع الحكاية اللطيفة من الرجل الذي أوشكنا أنا وهو أن نصبح أصدقاء فطلبت منه أن يكمل هذه الحكاية التي تصلح أن تتحول لفيلم سينمائي يكسر الدنيا فقال وهو يبتسم أيضا لأول مرة : بصراحة مخبيش عليك في الأول حسيت ان مراتي بتضحك أو بمعني أصح بتقطمني لأني مش باتكلم معاها كتير لكن لقيت الموضوع معشش تمام في نافوخها وسيبت البيت قلت يمكن لما أغور من وشها تهدا وتنسي الحكاية دي لكن لما رجعت بالليل لقيت أغرب منظر ممكن حد يتخيله ..لقيتها قاعدة مستنياني قدام باب الشقة وحاطة بنتنا الصغيرة في حجرها وأول ماسمعت صوت رجلي علي السلم بدأت تهز البنت في حجرها وتمد يدها لي وهي بتقول:والنبي يابيه..كلمة قليلة تمنع بلاوي كتيرة ..ساعدني في الأيام المفترجة دي..أنا باجري علي كوم لحم ومحتاجة كلمة حنينة من جوزي إللي بيبخل عليا بالكلام ..في أول مرة طنشت لكن لقيتها في اليوم اللي بعده ماسكة روشته دكتور نفساني وهي بتقولي:مريضة وحياتك يابيه والدكتور كتب لي علي العلاج ده..ربنا ياخدني لو كنت باكدب..ساعدني يابيه في الأيام المفترجة دي..بصيت في الروشته لقيت مكتوب فيها ان المريضة بتعاني من صمت جوزها وتحتاج إلي حكايتين تلاتة في اليوم..بصراحة حسيت إن الموضوع خطير فعلاً فبدأت اقعد كل يوم جنب مراتي قدام باب الشقة والبنت الصغيرة في حجرها وأنا أطبطب بايدي علي كتفهاوأحكيلها كل اللي شوفته في الشغل والشارع والمواصلات والبنت الصغيرة تبحلق فيا مش فاهمة حاجة لحد من كام يوم كده رجعت وحكيت لها لزوجتي كالمعتاد وقمت عشان ادخل الشقة ومراتي عمّالة تدعيلي وفجأة لقيت بنتي الصغيرة نطت من حجر امها واتشعبطت في بنطلوني ومدتلي ايدهابباكو مناديل وبتقولي:والنبي يابيه تساعدني .. بصيت لها مستغرب لقيتها بتقول:يرضيك يعني يابيه أقعد في حجر امي مستنياك طول اليوم بلوشي..حطيت ايدي علي كتفها أطبطب عليهاوبدأت أستعد لأحكيلها حدوتة لقيتهابتزيح ايدي وتقوم منتفضة وهي بتقول: هو سيادتك يابه لسه حاتحكيلي حدوتة..إيدك علي خمسة جنيه..شغل الحواديت ده مايكلش معايا..وأول مالهفت مني الخمسة جنيه رجعت جري علي حجر امها وهي بتقول:اهو كده تبقي النومة دي ليها فايدة وادت الفلوس لامها وهي بتقول:قطيعة محدش بياكلها بالساهل !!لم أتمالك نفسي أكثر من هذا حيث ركنت علي جنب ودخلت في هيستريا ضحك خشيت معها أن يقوم الرجل بقتلي أو حدفي من التاكسي علي أقل تقديرلكن الرجل دخل معي في نوبة ضحك هستيرية أيضا ثم وجدته يتأهب لكي يغادر السيارة قائلاً لي وهو يشير للعداد:حسابك كام ياسطي؟ فقلت له: لهو حضرتك فاكر إن ده عداد فلوس؟ فقال:اومال عداد إيه سعادتك؟ فقلت ضاحكا:عداد كلام وانت الصادق فضحك من جديد هو يلقي في حجري بورقة بعشرين جنيها ويغادر السيارة وهو مايزال يضحك فوضعتها في جيبي وانطلقت لأبحث عن زبون جديد وأنا اردد مع نفسي:فعلا محدش بياكلها بالساهل!