السؤال مهم وخطير وإجابته محيرة.. غير أنك لا تعثر عليها إلا في مسجد رسول الله -صلي الله عليه وسلم- لماذا ارتضي الرسول أن يقضي بقية حياته في المدينةالمنورة. وأن يلقي ربه ويدفن فيها رغم أن الله نصره علي أعدائه وفتح له مكة فتحا مبينا. وكان عفوه العام عن أهلها الذين عذبوه وقاتلوه وأخرجوه وتربصوا بالدعوة وأبنائها وأذاقوهم الويل والثبور.. لماذا لم ينتقل النبي فورا إلي مكة وهي أحب بلاد الله إلي الله وأحب بلاد الله إلي الرسول. وهو الذي قال عند هجرته منها مكرها قولته المشهورة: "ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت" ومن الطبيعي أن الإنسان يوصي بأن يدفن في البلد الذي يهوي إليه قلبه. فلماذا لم يعد وقد أصبحت له ولجيشه السيادة علي الحجاز كله بعد انتصاره الساحق علي قريش وتدمير قواعد اليهود والمنافقين وكل من ساعدوهم في حنين والطائف وكل الحشود في غزوة الخندق. إن الإجابة واضحة للعيان بمجرد زيارتك قبر الرسول -صلي الله عليه وسلم- وروضته الشريفة.. الإجابة في هذه الحشود المحتشدة وراء الحواجز وملايين العيون المتربصة بالأبواب المتلهفة شوقاً وحباً وحناناً منتظرة إشارة البدء لتهرول مسرعة نحو رسول الله تخترق حاجزا وراء الآخر لتظفر بالصلاة في روضته.. أفواج وراء أفواج.. ما إن تعود حتي تتشوق للروضة مرة أخري.. أراد الرسول ألا يشق علي محبيه ومريديه أكثر من هذا ففضل أن يدفن في المدينةالمنورة ليخفف الزحام ويرحم محبيه حتي لا يتجمع كل هذا الحشد الهائل مرة واحدة علي قبر الرسول كما يحتشدون مرة واحدة في عرفات. ومع ذلك لابد أن تصيبك الدهشة والذهول وتتساءل عن سر كل هذا الحب لملايين الجماهير التي تندفع بكل ما أوتيت من قوة نحو قبر الرسول لا يدفعها لذلك إلا حبه ورجاء شفاعته.. فالرسول ليس حياً بيننا ليوزع الهبات والعطايا أو يمنح الترقيات والعلاوات أو يقلد الأوسمة والنياشين .. إنه الحب فقط يقذفه الله في قلوب الجماهير وهي عطية يعطيها الله لمن يشاء من عباده لحكمة لا يعلمها إلا هو.. ثم يقولون بعد كل هذا الرسوم المسيئة.. أي رسوم وأي إساءة.. إن التافهين لا يسيئون أبدا إلي العالين.. أي علو لرسول الله.. إنه علو أعلي من السماء.. فقد اخترق الرسول السموات إلي سدرة المنتهي.. أي منتهي إن منتهاه إلي مولاه.. "وأن إلي ربك المنتهي" ولكن الرسول هو البشر الأوحد في العالم الذي انتهي إلي ربه حيا جسدا وروحا وغشي سدرة المنتهي وتمتع بجنة المأوي.. وانتهي إلي ربه ميتا عندما صعدت روحه إلي بارئها وتفتحت لها كل أبواب السماء لتتسابق ملائكة الرحمن في استقبالها وتكريمها في موكب ملائكي مشهود وليخلد الرسول بجوار ربه في جنة الخلد أبد الآبدين.. فسلام عليه يوم بشر به الأنبياء.. ويوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا.. نسألك يا رب ألا تذلنا إلا لك.. وأن تأذن لحبيبك بالشفاعة لنا "يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولا". المحرر