المسلمون يحتفلون الآن بالعيد الأربعين بعد الألف وأربعمائة عام علي الهجرة النبوية الشريفة. خريطة العالم الإسلامي شديدة البؤس مثيرة لاقصي درجات الخوف والقلق محبطة إلي أبعد درجات الاحباط وكثير من الأمراض التي أصابت الجسد الإسلامي من النوع الذي لا يرجي برؤه سواء علي المدي البعيد أو القصيرطالما استمر المسلمون في غيهم وضلالهم المعهود. الاحتفال بهجرة النبي صلي الله عليه وسلم هذا العام مختلف تماما نظرا للحالة المزرية التي وصل إليها المسلمون وحالة الاستهداف المتواصلة لهذا الدين واتباعه والتي فاقت كل الحدود علي مر العصور والمغلفة بإطار حديدي من العجز شبه الكلي للأمة.. المدهش أن الأمر لم يتوقف عند الأعداء من الخارج ولكن انقسم المسلمون علي أنفسهم فكانوا أشد قسوة علي أنفسهم ودينهم من الأعداء. وحتي لا نتهم بالمبالغة في جلد الذات لابد من الاعتراف بأن العالم يعيش أزمة أخلاقية طاحنة وأزمة دينية عويصة وأزمة اقتصادية مفزعة وأزمة اجتماعية مهلكة وأزمة حضارية شديدة التعاسة أزمات بعضها فوق بعض كثير منها أشد حلكة وسوادا من الليل البهيم. يزيد من صعوبتها سلسلة من الفتن المتتابعة والمتراكبة فتن تدع الحليم حيران آسفا! العالم الإسلامي يعيش حالة من التيه العقلي والتشتت الفكري والتفرق المقيت والتمزق الديني الحالق تشعر وكأننا في عالم بلا مصلحين فهم إما غائبون أو مغيبون اندثروا أو انقرضوا . تمر الأحداث وتقع الزلازل الاجتماعية والطبيعية وتظن معها ان الافاقة قد حدثت وان نوبة الصحيان قد أطلت وأظلت لكن تفاجأ بأن الأمور تزداد سوءا وكأنك أمام سراب.. سراب ممن يحسبه الظمآن ماء حتي إذا جاءه لم يجده شيئا! أسئلة كثيرة تتسارع وتقفز إلي الأذهان من هول ما تري وتسمع وتشاهد من أحداث ووقائع يومية.. هل نحن مسلمون بجد؟ هل نحن ملتزمون وحريصون علي ديننا؟ هل نحن قريبون من الله ومستعدون لنصرة دينه والدفاع عن سنة نبيه صلي الله عليه وسلم؟ تري لو كان الرسول حيا بين ظهرانينا الآن.. هل سنكون من فريق الأنصار الذين آووا و نصروا وعزروا ووقروا أم من المهاجرين الذين ضحوا بكل شيء بأموالهم وأولادهم وأنفسهم في سبيل الله؟! هل نحن من الذين آمنوا معه ونورهم يسعي بين أيديهم وبأيمانهم ويقولون ويتمنون أن يتمم لنا ربنا نورنا ويغفر لنا ويرحمنا؟! هل نحن مخلصون لديننا فعلا.. مخلصون لله وللرسول وللوطن أم ان الإخلاص للأفراد والجماعات اياها هو المقدم؟ّ هل نحب الرسول صلي الله عليه وسلم حقيقة أم ان الأمر مجرد كلام لا يتجاوز الحناجر والاذان؟! هل نعلم أولادنا معني الحب الحقيقي لله وللرسول أم تركناهم وشأنهم نهبا لمن يريدون السيطرة عليهم لهواة ومحترفي اللعب والعبث بالعقول؟! هل لدينا نخب واعية ومدركة للواقع ومستشرفة لافاق المستقبل مثل هؤلاء الرجال الذين كانوا حول الرسول ومعه؟ هل لدينا أمل أو حتي حلم بأن تكون لدينا نخب من هذا الطراز القادر علي التحدي والذي يملك الجرأة في الحق ويضحي بكل ما يملك من أجل الدين ومستقبل الوطن؟ هل يمكن أن نحلم بنخب ليس في قاموسها العام والخاص مصطلحات من قبيل الفساد والانتهازية والدكتاتورية والحنجورية وما قرب إليه من قول أوعمل؟! هل نحن قادرون علي استيعاب الأسس الحضارية لبناء الدولة والتخطيط للمستقبل والعمل علي إقرار السلم والأمان الديني والاجتماعي لكل فئات وأطياف المجتمع؟ أتوقف كثيرا بكل إعجاب وفخر أيضا أمام الحالة الأخلاقية والإنسانية غيرالمسبوقة في الهجرة النبوية رغم إنها لم تنل الحظ الوافر أو الواجب من الدراسة والتحليل لسبر اغوارها وكشف أسرار ما وراءهاپ وكيف صنعت الدعوة المحمدية الوليدة آنذاك تلك الحالة العبقرية من السمو الأخلاقي والعلاقات علي مستوي الأفراد والجماعات وعلي مستوي الحب لله والرسول صلي الله عليه وسلم.. من أين كان هؤلاء يمتاحون كل هذا النبل والرقي الحضاري والحضارة لا تزال في المهد؟! في تصوري وحسب معلوماتي المتواضعة فلم يكن هناك مثال أو نموذج سابق لما حدث حتي يقال إنهم ساروا علي نهجه واتبعوا دربه وهداه سواء المهاجرين أو الأنصار.. وما فعله النبي صلي الله عليه وسلم أيضا يدخل في باب السوابق التاريخية والإنسانية في التمكين والتأسيس للدولة الحديثة والتمكين لها لذلك فعلت كل القواعد والمبادئ التي ارساها فعل السحر في المجتمع الجديد بفضل ما تم إقراره من نظم جديدة في المعاملات والعلاقات الشاملة وما خلقته من نماذج بشرية متفردة في القيم والأخلاق والسياسة والاقتصاد والحرب والسلم والعلاقات الاجتماعية. الفكر السياسي المعاصر والقديم من قبله لم يعط تلك الفترة ما تستحق من الدراسة والفحص والتمحيص واكتفي الجميع علي ما يبدو بالعبور أمام كلمات وعظية إنشائية عاطفية منبهرة يرددها الدعاة وبعض المؤرخين ولم تتم محاولات مكتملة لترسيخ نظرية سياسية متكاملة وواضحة المعالم والأركان يمكن الإفادة منها والبناء عليها في عملية تطوير وتحديث الفكر الإسلامي بصفة عامة علي الأقل بالقياس لما حدث مع النظريات السياسية إياها والتي وصل الحماس لها ومعها حد الهوس الفكري والسياسي والاجتماعي وكأن الدنيا لم تعرف غيرها! حدث الهجرة العظيم أحدث زلزالا كبيرا في مجتمع المدينة والمجتمع المكي أيضا علي المستويات كافة بدءا من فكرة الهجرة نفسها والإعداد والتخطيط لها وطريقة التنفيذ بكل محاورها ودلالاتها وحتي في دخول الرسول صلي الله عليه وسلم إلي المدينة وطريقة الاستقبال ومن باب الدخول من ثنيات الوداع ويكاد يتوقف الجميع فقط عند الانشودة الجميلة المشهورة .. طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ويتناسون الدلالات والرسائل المهمة من وراء اختيار هذا المكان علي وجه التحديد والذي كان موضوعا في باب الاستحالة ان يقربه إنسان متوجه أو يرغب الدخول إلي يثرب فقد كانت ثنيات الوداع معروفة بسيرتها في قطع الطرق وسيطرة مجموعات الأشرار عليها في ذاك العهد البئيس ليتحول فجأة إلي مكان يفج من النور وتعلو منه اهازيج الفرح والسرور وتشرق الأرض بنور ربها وضياء نبيها الخاتم صلي الله عليه وسلم وترتفع أصوات النساء تصدح بكلمات غاية في الرقة والعذوبة والمحبة.. طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع جئت شرفت المدينة مرحبا يا خير داع. ** أجمل وصف للمهاجرين والأنصار جاء في سورة الحشر يقول تعالي "لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَي أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةى وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".