مر يوم 18 يونيو كأي يوم عادي في مصر.. ربما ميزه زحام الطرق للعائدين من اجازاتهم ليبدأوا عملهم في اليوم التالي. لم يفكر أحد فيما يمثله هذا اليوم في تاريخ مصر. ولكن الذين عاشوا عمرهم.. أو بمعني أصح زهرة شبابهم- كأجيالنا- يحلمون برحيل المستعمر الإنجليزي.. يعرفون قيمة هذا اليوم في تاريخ مصر.. انه يوم جلاء المستعمر البريطاني عن مصر بعد احتلال دام 74 عاما. لقد عاشت أجيالنا علي شعارات كنا نرددها أطفالا صغارا.. ثم شبابا يافعين.. شعارات تقول في عفوية وصدق أيضا.. عن خروج المستعمر الإنجليزي "الجلاء بالدماء".. بل كنا نزيد في حماسنا.. ونحن ننادي بتحرير وادي النيل كله من الاستعمار البريطاني.. شماله وجنوبه.. مصره وسودانه.. كنا في مظاهراتنا الطلابية نهتف قائلين: "مصر والسودان لنا.. وانجلترا إن أمكنا".. أي أن طموحاتنا لم تكن فقط خروج المستعمر البريطاني من وادي النيل.. وانما أيضا ان نعبر البحر والمحيط ونصل إلي الجزر البريطانية فنحتلها.. أحلام شباب كان يتقد وطنية.. ويضحي بنفسه جيلا بعد جيل يثور من أجل حرية وطنه.. ويتحرك زعماؤه في كل أنحاء العالم مطالبين العالم بمساندته في قضية عادلة.. ندعو إلي إنهاء الاحتلال البريطاني لمصر.. ننادي بالاستقلال والحرية.. وإنهاء الاحتلال.. ويأتي حادث دنشواي في 13 يونيو 1907 ليكون الشرارة التي توقظ الكفاح المصري ليؤلب زعماء مصر العالم كله ضد الاحتلال وقسوته.. مصطفي كامل.. محمد فريد.. سعد زغلول.. ويقوم الشعب المصري عن بكرة أبيه بثورته في عام 1919 التي تحل ذكراها المئوية في العام القادم.. ولا تحقق الثورة كل ما أرادته.. ولكنها تحقق عدة خطوات إلي الأمام في مسيرته نحو التحرر والاستقلال.. مع استمرار الاحتلال قائماً ومتمسكاً بالبقاء.. ويدفع الشباب من دمائه الشهداء تلو الشهداء في انتفاضات لا تتوقف.. إلا لتبدأ.. وصولاً إلي الكفاح المسلح في مدن قناة السويس حتي تصل إلي معركة الإسماعيلية.. التي يستشهد فيها العشرات من شرطة مصر بعد صمود مشرف في وجه المحتل الإنجليزي وتشهد القاهرة في اليوم التالي لهذه المعركة حريق القاهرة في 26 يناير 1952.. وكان في مظهره احتجاجاً علي معركة غير متكافئة.. ورفضاً للاحتلال البريطاني.. ولكنه حريق لم يعرف من دبره.. وإنما المستفيد منه يشير إلي من دبر ومن نفذ.. لقد توقف الكفاح المسلح ضد المحتل البريطاني في مدن القناة.. وأصابع الاتهام اتجهت إلي جهات عديدة.. ولكنها لم تخل أبداً من بصمات جماعة الإخوان.. وهو نفس اسلوب الحرائق التي أشعلوها في جميع أنحاء البلاد بعد ثورة 30 يونيو 2013.. وتعيش البلاد بعد حريق القاهرة دوامة تغيير متواصل للحكومات بعضها لا يعمر إلا لساعات ليفضي إلي ثورة يوليو 1952.. التي بدأت بحركة مباركة يقودها الجيش.. انضم إليها كل الشعب مؤيداً ومباركاً.. لتصبح ثورة يشارك فيها الجيش والشعب.. وليكون د.طه حسين أول من يطلق عليها ثورة.. بعد أن رأي فيها كل عناصر الثورة.. التي كانت لتغير وجه الحياة في مصر. وكان حلم اخراج المحتل الإنجليزي من مصر علي رأس أولوياتها.. كان لابد لها من انهاء وجود المستعمر الذي بدأ احتلاله في 11 يوليو 1882 حين ضربت مدافع الاسطول البريطاني الإسكندرية.. فعاد الكفاح المسلح إلي مدن قناة السويس.. ليبدأ قادة ثورة يوليو مفاوضات انهاء هذا الاستعمار.. بينما أبناء مصر يواجهون المستعمر في قواعد هذا الاحتلال علي امتداد قناة السويس.. وبينما جمال عبدالناصر يفاوض من أجل إنهاء الاحتلال كانت جماعة الإخوان تخون الوطن وتحرض الانجليز علي عدم الاستجابة وعدم الخروج.. وتعده بالتعاون معه عندما تستولي علي الحكم.. كانت الجماعة تأمل أن تستولي علي الحكم إما بالسيطرة علي حركة الجيش وإما بالانقلاب عليها.. وقد فشلت في الحالتين.. وكان لابد من الصدام معها.. وأن يتطور الأمر إلي محاولة اغتيال عبدالناصر في اكتوبر 1954 بعد توقيعه اتفاقية الجلاء مع الانجليز وتنطلق رصاصة الإخواني محمود عبداللطيف تجاه شرفة مبني بورصة الإسكندرية. حيث كان جمال يلقي خطابه.. ولكن رصاصات القناص الاخواني تخطئ عبدالناصر.. وتتصاعد المواجهة مع الإخوان.. أما اتفاق الجلاء فيمضي في طريقه.. بينما بريطانيا تخطط من ناحية أخري لكي تعود إلي مصر محتلة مرة ثانية.. فما أن تخرج في 18 يونيو 1956 حتي يؤمم جمال عبدالناصر شركة قناة السويس في 26 يوليو 1956 وتتعرض مصر بعدها للعدوان الثلاثي في 29 اكتوبر 1956 من انجلترا وفرنسا وإسرائيل وكل طرف من أطراف هذا العدوان كان له أسبابه وأحلامه أيضا.. وكان حلم بريطانيا أن تعود مرة أخري إلي احتلال مصر بعد أن خرجت في 18 يونيو 1956 ولكن مصر هزمت العدوان وكانت حرب السويس نهاية الامبراطورية العجوز وكانت هذه الحرب حداً فاصلاً لما كان قبل السويس وما بعد السويس.. وما بعد السويس كان عالماً آخر بكل المقاييس.. وهذا حديث آخر. تبقي هنا اليوم نقطتان.. أن 18 يونيو هو عيد الجلاء.. وإن كان الانجليز قد رحلوا عن مصر قبل الموعد المحدد.. فقد خرجوا في جنح الظلام في 13 يونيو 1956 خرجت آخر جحافلهم من مصر.. بلا عودة.. أما الأمر الآخر فهو أن 18 يونيو 1956 كما كان نهاية للاستعمار البريطاني في مصر كان اليوم نفسه في عام 1953 نهاية عصر الملكية في مصر.. وإعلان الجمهورية لأول مرة.. وهكذا يأتي هذا اليوم.. فلا يتذكر أحد عيد الجلاء.. ولا عيد الجمهورية!!