ميلاد المسيح عليه السلام ليس عيداً للمسيحيين فقط ولكنه عيد للمسلمين والمسيحيين.. فالمسيح هو نبي من أنبياء الله جاء بمعجزة تاريخية خالدة سجلتها كل الكتب والشرائع السماوية للتوراة والإنجيل والقرآن. كما أن المسلم لا يعد مؤمناً أو مسلماً أصلاً إلا إذا آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.. أي أن الإيمان بالمسيح عليه السلام هو أصل من أصول الإيمان كالإيمان بالنبي محمد صلي الله عليه وسلم وأي مخالفة لهذه الشروط تدخل الإنسان في دائرة أخري لا علاقة لها بالإيمان.. ومع ذلك.. وما أن يهل علينا عيد الميلاد حتي تكثر الفتاوي من اتجاهات مشبوهة يطلقون علي أنفسهم مسميات مختلفة ولكن كلها تتمسح بالدين ليزعموا بأن تهنئة المسيحيين في عيد الميلاد حرام.. من أين أتي هؤلاء بتلك الفتاوي مع ان آيات القرآن صريحة وما المقصود منها وماذا يقول القرآن والسنة في هذا الخصوص؟. البر والقسط طرحت السؤال علي علماء الفقه والشريعة الإسلامية وكانت اجاباتهم حافلة بالمفاجآت. الدكتور محمد عبدالستار الجبالي أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة الأزهر يندهش من تلك الفتاوي البعيدة عن الدين وعن القرآن والسنة.. ويستعرض الدكتور الجبالي آيات القرآن التي تدعو إلي المعاملة الطيبة للبشرية من أي دين فيقول سبحانه في سورة الممتحنة موجهاً حديثه للمسلمين: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم.. إن الله يحب المقسطين.. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا علي إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون". ويلاحظ من الآية الكريمة عدة ملاحظات مهمة.. ان الآية تبدأ بحرف النهي "لا" ليؤكد علي حقيقة أن الله في عليائه يأمر المسلمين ليس ببر أهل الديانات الأخري فقط ولكن بالبر والقسط. ثانياً: ان المعاملة الطيبة لا تخص ديناً بعينه ولا أهل الكتاب وحدهم وإنما هي معاملة للبشرية كلها مادامت الشروط قد توفرت وهي المذكورة في الآية الكريمة: "لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم". ثالثاً: إن الله عز وجل عقّب في نهاية الآية بقوله: "إن الله يحب المقسطين" أي ان الله يحب العادلين بصفة عامة ومنه العدل مع أهل الديانات الأخري والمعاملة الطيبة لهم وبرهم والقسط إليهم.. ومعني ذلك أن المسلم إذا خالف هذه الآية فإنه يدخل في دائرة التحريم.. وهو تحريم يبعدك عن حب الله عز وجل.. فكيف تتجاهل تهنئة المسيحيين وتدعي أن هذا لا يغضبهم وانه لا علاقة له بالمعاملة التي أمر بها القرآن. إن التعامل بهذه الطريقة هو سوء وشر نهي عنه الدين والقرآن بآيات صريحة واضحة أمرتنا بالبر والقسط للبشرية كلها مادام لم يعتد علينا أحد منهم.. فإن حدث اعتداء فلهذا شأن آخر.. ليس للمسلمين حق رده فقط ولكن الاعتداء من أي أحد علي أي فرد هو ظلم يجب رده ولا يقتصر هذا علي دين دون دين أو فرد دون فرد. أم أولادك أخطر من ذلك فإن الإسلام أباح للمسلم أن يتزوج من الكتابية مسيحية كانت أو يهودية.. فهل تعتبرها أهلنا وأم أولادك ثم تتجاهل تهنئها بعيد ميلاد المسيح وهو أهم عيد يتعلق بعقيدتها.. فماذا يكون شعورها تجاهك؟.. هل هو شعور بالرضا أم الغضب.. إن من العبث أن يتجاهل هؤلاء كل هذه الحقائق ثم يفتوا في أمور بأخطاء تخالف صحيح الدين وتخالف العقل والمنطق السليم. إن التصرف الذي يوجبه الإسلام مع زوجتك الكتابية أن تفرح معها بعيدها وأن تحتفلا به سوياً وأن تهنئتها بما يليق بكما كزوجين ولا علاقة لك بدينها لأنك غير مطالب بإجبار أحد علي الدخول في الإسلام. ولذلك فإننا نوجه التهنئة لإخواننا المسيحيين شركاء الوطن ولا نقول لهم إلا حسناً. ولكن هل توجد قواسم مشتركة بين الشرائع السماوية بصفة عامة. أجاب الدكتور محمد عبدالستار الجبالي: إنه توجد قواسم مشتركة كثيرة.. فكل المسائل التي تتعلق بالمعاملة الطيبة هي قواسم مشتركة مثل تحريم الربا والقذف والزنا والسرقة وغيرها. وكل المسائل التي تتعلق بالنواحي الأخلاقية قواسم مشتركة مثل تحريم الكذب والغيبة والنميمة والتحلي بالصدق والكرم وغيرها.. هي كلها قواسم مشتركة بين كل الشرائع السماوية. الدرجة الأولي الدكتور إبراهيم الخولي أستاذ ورئيس قسم الشريعة بكلية الحقوق يقول: انني أستاذ للشريعة وباسم الإسلام أهنيء كل الآخوة الأقباط بعيد الميلاد المجيد.. ولا يقول بالفتاوي الخاطئة التي تفتي بخلاف ذلك إلا عدو للمسلمين والمسيحيين ولهذا البلد. إن المسلم عندما يتزوج كتابية فإنها تصير بالنسبة له من أقرباء الدرجة الأولي كالأم والأب وهذا معناه انها أصبحت أقرب إليه من أخيه لأن الزوج وزوجته تتوحد آمالهما وآلامهما في الحاضر والمستقبل. كما ان أولاد المسلم المتزوج من مسيحية يجب أن يدفع أولاده إلي تهنئة أخوالهم وخالاتهم وجدتهم والدة أمهم.. وهذه هي معاملة الإسلام التي طالبنا بها وعندما قال سبحانه وتعالي في سورة العنكبوت: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم" فصلة القرابة التي تتوطد بهذا الزواج هي في حد ذاتها وحدة.. بل هي نموذج لوحدة لا يمثل الدين أي عائق أمامها.. إضافة إلي ذلك فإن جاري المسيحي أقرب إليّ من أخي البعيد عني ولذا فإن الحديث واضح في هذا الخصوص "مازال جبريل يوصيني بحق الجار حتي ظننت أنه سيورثه" ويلاحظ أن الحديث النبوي تكلم عن الجار ولم يفرق بين مسلم وغير مسلم.. بل إن الجيران بصفة عامة من أي دين سماوي أو وضعي لهم الحق في أن تتعامل معهم معاملة طيبة. كما أن سورة الإنسان بها آية تتحدث عن حقوق المحارب الأسير ولم تشترط أن يكون مسلماً.. بل إن المحارب الأسير في الغالب الأعم يخالفك في الدين ومع ذلك فإن الآية تعطيه حقوقاً لم تعرفها المنظمات الدولية لحقوق الأسري حتي الآن "ويطعمون الطعام علي حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً". فأنت لا تتعامل مع الأسير المخالف لدينك معاملة طيبة فقط ولكن تطعمه من أفضل ما تحب.. وهذا شرط ضمن شروط الأبرار. فإذا أضفنا إلي ذلك ان أقباط مصر لهم خصوصية نبوية لأن النبي صلي الله عليه وسلم حرص علي أن يوصي جميع المسلمين بحديث نبوي صحيح "فاستوصوا بأهلها خيراً" فإنك لابد أن تعرف مدي الأهمية التي أعطاها الإسلام لضرورة المعاملة الطيبة للمسيحيين والكتابيين والبشرية بصفة عامة ولأقباط مصر بصفة خاصة.. وقد حرص صحابة رسول الله علي حراسة كنائس المسيحيين في مصر وعلي توفير الأمان لهم لممارسة عبادتهم بحرية وعلي عدم المساس بأي دور عبادة تخصهم وهذا هو ما علمناه إياه الإسلام. الشيخ سيد زايد مدير مجمع الدير الإسلامي ببني سويف وإمام وخطيب بوزارة الأوقاف يقول: إن الإسلام احتفي بالمسيح عيسي عليه السلام احتفاءً هائلاً كما احتفي بأمه مريم وأهلها وسمي سورة باسمها وسورة أخري باسم أهلها "آل عمران" ووصف القرآن المسيح عليه السلام بالوجيه واصطفي العذراء مريم علي نساء العالمين وخلد ذلك في قرآن يتلي إلي يوم الدين "يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك علي نساء العالمين" وإذا كان المسيحيون يلقبونها بأم النور فهي عندنا أم الأنوار. كما ان الرسول صلي الله عليه وسلم تزوج من زوجتين مسيحيتين مارية القبطية وصفية بنت حُيي بن أحطب.. فكيف يتزوج الرسول من مسيحيتين ثم يفتي الجهلاء بعدم تهنئة المسيحيين.. هذا جهل مركب وإذا أفشاه صاحبه وسط الناس فلابد من محاسبته لأنه لا يؤذي المسيحيين فقط بل يؤذي المسلمين قبلهم وويشوه دينهم ويدعي عليه ما ليس فيه.. ولا أعتقد أن أمثال هؤلاء ينطلقون بهذه الفتاوي لوجه الله بل إن المؤكد ان لديهم مآرب أخري لهذا البلد. إن النبي صلي الله عليه وسلم وهو يوزع أضحيته في عيد الأضحي يأمر أهل بيته: "ابدأوا بجارنا اليهودي.. اليهودي وليس الصهيوني".. فهل يفعل الرسول ذلك مع اليهود ويتجاهل المسيحيين. أرجوكم أوقفوا هذا العبث بالدين والقرآن والسنة.. واعلموا أن تهنيئة المسيحيين هي عبادة في الإسلام أكد عليها القرآن والسنة ووصي بها نبي الإسلام قبل وفاته وقال: "من آذي ذمياً فقد آذاني" ولا شك أن تجاهل تهنئة المسيحيين هو أذي لهم وليتأكد من يفعل ذلك انه يؤذي النبي محمداً صلي الله عليه وسلم قبل أن يوجه الأذي لأي مسيحي أو قبطي.