في عام الف تسعمائة وثلاثة وسبعين وقف طالب في مدرسة السيدة حنيفة السلحدار الثانوية في مصر الجديدة. وقال مخاطبا أستاذ التاريخ :"يا أستاذ المعلومة التي تقولها غيرصحيحة.. فالزعيم أحمد عرابي مات في مصر وليس في المنفي كما تقول". رغم أن المفاجأة أخذت الأستاذ حمزة لعدة ثواني حدث خلالها لغط داخل الفصل. إلا أنه إستعاد زمام المبادرة وأمر الطالب أن يحضر الحصة القادمة المرجع الذي أخذ منه المعلومة. حضر الطالب في الحصة التالية وجميع طلاب الفصل ينتظرون مواجهة حاسمة يخسرها الطالب . وبمجرد دخول المعلم قدم له موسوعة تاريخية احضرها من مكتبة والده التي ورثها عن جده عبد الرؤوف السجيني. ووسط صمت الطلاب وترقبهم قال الأستاذ بصوت عال: "زميلكم معلومته صحيحة .. وأعتذرله أمامكم جميعا". لم يستنكف المعلم . الذي يعلم جيدا رسالته ودوره في بناء أجيال نافعة علميا وأخلاقيا. من الإعتراف بالخطأ . ولم تأخذه العزة بالإثم كما يحدث لغالبية المعلمين حاليا. بل الأكثر من ذلك شجع الطالب علي تأسيس جمعية تاريخية إستفاد منها جميع طلاب المدرسة. وفي نفس المدرسة التي أنشأتها المرحومة حنيفة السلحدار علي نفقتها الخاصة ضمن مجمع مدارس تتوسطه مسجد. ولا يزال المجمع قائما حتي الان تحصد السيدة حنيفة حسناته كصدقة جارية "علم ينتفع به". وهناك مئات المدارس والمستشفيات التي تبرع بها أثرياء مصرعلي مدار القرنين الماضيين. ولم تتوقف التبرعات للتعليم علي بناء المدارس بل إن اول جامعة مصرية في العصر الحديث "جامعة القاهرة" تم بناؤها علي 6 أفدنة من الأرض تبرعت بها الأميرة فاطمة إسماعيل . ووهبت مجوهراتها الثمينة للإنفاق علي تكاليف البناء. والأميرة فاطمة إحدي بنات الخديوي إسماعيل الذي يعد رائد النهضة التعليمية والعلمية في مصر فقد تولي الحكم عام 1863م "الف وثمانمائة وثلاث وستون". وكان عدد المدارس الأولية 185 "مائة وخمس وثمانون مدرسة". وترك الحكم تحت ضغط القوي الاستعمارية انجلترا وفرنسا عام 1879 "الف وثمانمائة وتسع وسبعون" وكان عدد المدارس 4685 "أربعة الاف وستمائمة وخمس وثمانون مدرسة" والتبرعات ببناء المدارس والجامعات يعد بمثابة درس حي لاثرياء اليوم الذين يبخلون علي المجتمع الذي نشأوا فيه ونمت علي أرضه ثرواتهم . بل انهم حولوا التعليم المدرسي والجامعي في ظل ضعف الحكومة الي مصدر للاثراء السريع ولو علي حساب قيم المجتمع المصري وهويته العربية الاسلامية. وموقف أخر للطالب نفسه مع مدرس الانجليزي عبد الوهاب اللقاني فقد طلب منه منحه درس خصوصي . فرد عليه المعلم المحترم الفاهم والواعي قائلا : "يا خايب انت عايز تضيع فلوس ابوك.. ذاكر واجتهد ولو فيه درس لم تفهمه ساشرح له في الفسحة اثناء اليوم الدراسي¢. تلك كانت تصرفات المعلمين حتي عهد قريب . وتلك كانت مواقفهم النبيلة. ولم يكن هؤلاء النبلاء يقتصر وجودهم علي المدن الكبري بل كانوا ينتشرون في قري ونجوع القطر المصري. ومن هؤلاء اتذكر اساتذتي في المرحلة الابتدائية بقريتي المنيرة القناطر الخيرية الأساتذه الأجلاء صادق الجندي "حضرة الناظر" وعلي عبد الغفار وأحمد الكسائي ومحمد الفرماي وفضل الله. وقبل هؤلاء الشيخ محمود فتيح شيخ الكتاب. وفي المرحلة الإعدادية والثانوية أتذكر المعلمين أصحاب الفضل كل من الأساتذه مجدي بيومي استاذ اللغة الانجليزية الذي شجعنا وأطلق لساننا للتحدث بالانجليزية . واساتذة اللغة العربية وجيه سليمان وأحمد ابو عوف والشيخ عبد الله سويلم والشيخ عبيد وجميعهم كانوا يتبرعون بحصص اضافية قبل طابور الصباح كانت حصصهم دسمة تجمع بين الدين والادب والنحو والبلاغة والأخلاق والعبادات. اما الاستاذ عبد الفتاح مورجان استاذ التاريخ والجغرافيا فأثر فينا ايجابيا لدرجة اننا لا نزال نتواصل معه حتي الان رحم الله من توفي منهم ومتع الأحياء بالصحة. سيتباري معظم المعلمين في القول ان المعلم كان راتبه يكفيه ويزيد واتفق معهم ولكني اذكرهم ان الذي يتقن عمله بصرف النظر عن المقابل سيفتح له الله ابواب رزقه .