جمع بين إمامة النحو وزعامة الإقراء، ونال منزلة عظمى بين العلماء والتلاميذ، وحظي بمكانة كبيرة عند الحكام والأمراء حتى اختاره الرشيد مؤدبا لولده الأمين.. وذات يوم، اصطحبه الرشيد في سفرة له، فلما بلغ مدينة الري أدركته الوفاة، فحزن الرشيد لفراقه حزنا شديدا، ولما عاد إلى مقر الخلافة في بغداد قال: دفنا الفقه والنحو بالري في يوم واحد. أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان، من ولد بهمن بن فيروز مولى بني أسد، سابع القراء السبعة المشتهرين، ومؤسس مدرسة الكوفة النحوية، جمع بين القرآن والفقه والنحو والدراية الواسعة بالعربية، ولد بالكوفة عام 119 هجرية، ثم استوطن بغداد، قبل أن يتوفي بالري عام 189، بعد رحلة علمية غاية في الثراء. أخذ القرآن عن حمزة الزيات، فقرأ عليه أربع ختمات، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة، وأخذ النحو عن الخليل بن أحمد، ثم لم يقنع، فرحل إلى بادية الحجاز ونجد لينهل من العرب الأقحاح، فلم يعد إلا بعد أن اكتمل عالما بالعربية لا نظير له، وأقبل عليه طلاب العلم نحوا وقراءة، فطبقت شهرته الآفاق، وشهد له الأعلام. ما رأيت بعينيّ هاتين أصدق لهجة من الكسائي.. هكذا شهد المحدث الكبير يحيى بن معين، ويوافقه إسماعيل بن جعفر وهو من كبار أصحاب نافع فيقول: ما رأيت أقرأ لكتاب الله تعالى من الكسائي.. أما الشافعي وناهيك به فيقول: من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي.. وقال عنه أبو عبيد في كتاب القراءات: كان من أهل القراءة، وهي كانت علمهُ وصناعته، ولم نجالس أحدًا كان أضبط ولا أقوم بها منه. وفي سير أعلام النبلاء يصفه الذهبي بأنه: الإمام، شيخ القراءة والعربية أبو الحسن علي بن حمزة، الكوفي، الملقب بالكسائي لكساء أحرم فيه، تلا على ابن أبي ليلى عرضا، وعلى حمزة، وحدث عن جعفر الصادق، والأعمش، وسليمان بن أرقم، وجماعة.. وقال ابن الأنباري: اجتمع فيه أنه كان أعلم الناس بالنحو، وواحدهم في الغريب، وأوحدهم في علم القرآن، كانوا يكثرون عليه حتى لا يضبط عليهم، فكان يجمعهم ويجلس على كرسي، ويتلو وهم يضبطون عنه حتى الوقوف.. وعن خلف قال: كنت أحضر بين يدي الكسائي وهو يتلو، وينقطون على قراءته مصاحفهم. وكان ربما أخطأ أو نسي كما يخطئ وينسى أي إنسان، فكان الناس يتهيبون أن يردوه.. ويروي هو عن نفسه: صليت بالرشيد، فأخطأت في آية خطأ لا يقع فيه صبي، قلت: "لعلهم يرجعين" فوالله ما اجترأ الرشيد أن يقول أخطأت، لكن قال: يا علي.. أهذه قراءة؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قد يعثر الجواد. قال: أما هذا، فنعم. وكان الفراء من تلاميذه، يختلف إليه ويتلقى عنه فقال له رجل: ما اختلافك إلى الكسائيّ، وأنت مثله في النحو؟ يقول الفراء: فأعجبتني نفسي، فأتيته فناظرته مناظرة الأكفاء، فكأنّي كنت طائرا يغرف بمنقاره من البحر. ومن الأخبار التي تظهر سعة علمه ما أورده الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد، عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني قال: وفد علينا عامل من أهل الكوفة ولم أر في عمال السلطان أبرع منه، فدخلت عليه مسلّمًا فقال لي: يا سجستاني، من علماؤكم بالبصرة قلت: الزيادي أعلمنا بعلم الأصمعي، والمازني أعلمنا بالنحو، وهلال الرأي أفقهنا، والشاذكوني من أعلمنا بالحديث، وأنا – رحمك الله – أنسب إلى علم القرآن، وابن الكلبي من أكتبنا للشروط. قال: فقال لكاتبه: إذا كان غدًا فاجمعهم إليّ، قال: فجمعنا فقال: أيكم المازني، فقال أبو عثمان: ها أنا ذا، قال: هل يجزي في كفارة الظهار عتق عبد أعور؟ قال المازني: لست صاحب فقه، أنا صاحب عربية، قال: يا زيادي، كيف تكتب بين رجل وامرأة خالعها على الثلث من صداقها؟ قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم هلال الرأي، قال: يا هلال، كم أسند ابن عون عن الحسن ؟ قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم الشاذكوني، قال: يا شاذكوني، من قرأ: (تثنوني صدورهم) ( وهي قراءة شاذة تروى عن ابن عباس). قال: ليس هذا من علمي، هذا من علم أبي حاتم، قال: يا أبا حاتم، كيف تكتب كتابًا إلى أمير المؤمنين تصف فيه خصاصة أهل البصرة، وما أصابهم في الثمرة، وتسأله لهم النظر والنَّظِرة ؟ قلت: لست صاحب بلاغة وكتابة، أنا صاحب قرآن؛ قال: ما أقبح الرجل يتعاطى العلم خمسين سنة لا يعرف إلا فنًّا واحدًا حتى إذا سئل عن غيره لم يَجُل فيه ولم يمُر، لكن عالمنا بالكوفة الكسائي، لو سئل عن هذا كله لأجاب. اشتهر عن الكسائي راويان هما أبو الحارث والدوري، فالأول هو أبو الحارث، الليث بن خالد المروزي البغدادي، توفي سنة أربعين ومائتين.. وهو ثقة حاذق ضابط للقراءة ومحقق لها.. قال أبو عمرو الداني كان الليث من جُلّة أصحاب الكسائي، روى الحروف عن حمزة بن القاسم الأحول وعن اليزيدي.. وأما الثاني فهو حفص الدوري، الذي سبق ذكره راويا عن أبي عمرو البصري. قال الإمام الشاطبي في حرز الأماني: وأما عليٌ فالكسائيُّ نعتُهُ… لما كانَ في الإحرامِ فيه تسربلا… روى لَيثُهُم عنه أبو الحارث الرضا… وحفصُ هو الدُّروي وفي الذكر قد خلا. ومن معالم قراءة الكسائي، أنه يبسمل بين كل سورتين إلا بين الأنفال والتوبة فيقف أو يسكت أو يصل، ويوسط المدين المتصل والمنفصل بمقدار أربع حركات، ويميل ما يميله حمزة من الألفات ويزيد عليه إمالة بعض الألفاظ، على تفصيل يطلب في كتب القراءات، ويميل ما قبل هاء التأنيث عند الوقف نحو ( رَحْمَةً – الْمَلاَئِكَةَ ) بشروط مخصوصة.. ويقف على التاءات المفتوحة نحو ( شَجَرَتَ – بَقِيَّتُ – جَنَّتُ) بالهاء. ويسكن ياء الإضافة في (قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا) بإبراهيم، (يَا عِبَادِي الَّذِينَ) بالعنكبوت والزمر.. ويثبت الياء الزائدة في ( يَوْمَ يَأْتِ) في هود، (مَا كُنَّا نَبْغِ) بالكهف في حال الوصل. ويدغم ذال « إذ » في حروفها ما عدا الجيم.. ويدغم دال « قد» وتاء التأنيث، ولام «هل – وبل» في حروف كل منها.. ويدغم الباء المجزومة في الفاء نحو ( قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ ).. ويدغم الفاء المجزومة في الباء في ( إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمْ) في سبأ..ويدغم من رواية الليث اللام المجزومة في الذال في (يَفْعَلُ ذَلِكَ) حيث وقع.. ويدغم الذال في التاء في (عُذْتُ – فَنَبَذْتُهَا – اتَّخَذْتُمْ – أَخَذْتُمْ ).. ويدغم الثاء في التاء في (أُورِثْتُمُوهَا – لَبِثْتُ – لَبِثْتُمْ).