التعديل الوزاري في أي دولة في العالم ليس مجرد أشخاص يذهبون ويجيء آخرون دون أن نعرف لماذا ذهب الراحلون ولماذا جيء بالجدد.. وهل تم ذلك في إطار رؤية واضحة وفلسفة محددة المعالم. تلبي طموحات الوطن. وتشبع احتياجات المواطنين.. وتخطو بنا خطوات إلي الإمام بوعي واستنارة وإدراك حقيقي لأبعاد المسئولية السياسية ومقتضياتها وتعقيدات الواقع وصعوباته التي ربما لم تعرف مصر لها نظيرًا علي مدي تاريخها كله. والسؤال :هل جري التعديل الأخير لوزارة شريف إسماعيل وفق معايير جديدة لاختيار الوزراء والمسئولين في مصر أم مازالت تلك الطريقة علي قديمه واللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش. وأن المعايير الشخصية مازالت هي الحاكمة للاختيارات؟! كنا نتمني بعد ثورتين كبريين في مصر أن يختفي مبدأ أهل الثقة. مفسحًا المجال لأهل العلم والكفاءة والخبرة وحسن الإدارة.. وأن يجري إعداد وتأهيل الصفين الثاني والثالث مبكرًا للقيادة في مراكز مؤهلة مستقلة غير خاضعة لأي حكومة مهما يطل بقاؤها فهي قصيرة العمر.. وكفانا عقودًا من العشوائية والارتجال وغياب البرامج الموضوعية والزمنية والمهمات المحددة بدقة لكل وزير أو مسئول كبير.و افتقاد المواصفات المطلوبة لكل منصب وفق معايير علمية وموضوعية متعارف عليها في كل الدنيا. لقد أثبت الاختيارات في وزارات سابقة غياب الوزير السياسي وندرته في مصر. وإلا ما وجدنا هذا التخبط والارتباك والعشوائية حتي في التصريحات التي صارت مصائد لزلات اللسان تعصف بالمسئولين رغم كفاءتهم الفنية أو التكنوقراطية في كثير من الأحيان.. الأمر الذي يعني أنهم كانوا بحاجة إلي ¢ حس سياسي ¢ وإدراك عميق لحدود المسئولية والموقع القيادي الذي هم فيه.. وهنا يطاردنا سؤال قد لا نجد له إجابة : بأي معايير يجري اختيار المسئولين وخصوصًا الوزراء في مصر.. وهل ثمة معايير محددة للمنصب أو مواصفات للشخص المسئول.. ومَنْ يضع تلك المعايير ومن يشارك في الاختيار.. وهل ثمة عزوف أو اعتذار عن عدم تول المناصب أو عزوف عنها من جانب بعض النخبة ذوي الكفاءة الذين يقع عليهم الاختيار.. ولماذا يعتذرون.. وكم نسبتهم إلي غير المعتذرين.. وهل صار العمل العام بيئة طارده للكفاءات وجاذبة لغيرهم.. وفي المقابل : علي أي أساس يجري استبعاد الوزراء عن مناصبهم.. وعلي أي أساس يجري تجديد الثقة في آخرين.. وهل لدي الدولة خطة إحلال وتجديد للنخبة وتعويض النقص الهائل في الكوادر والمواهب والكفاءات جراء ما تعرضت له من تجريف وإهمال استمر عقودًا طويلة وخصوصًا في مجال السياسة.. وهل هناك خطة عمل تلزم كل وزير جديد بألا يطيح بكفاءات فنية علي قدر من التميز في دولاب وزارته لمجرد ارتباطهم بصورة أو بأخري بسلفه في الوزارة.. أم أنها عادة مصرية وآفة تعيدنا إلي نقطة الصفر بأن يتعامل الوزير مع منصبه الجديد وكأنه وحده الملهم الفذ الذي عليه أن يزيل كل ما سبق. وأن يعيد اختراع العجلة في عملية إهدار للجهود والموارد ترقي لمرتبة الجريمة في حق هذا البلد »مقدراته وأصوله..و مهزلة يجب وقفها فورًا وتأسيس مجالس استراتيجية في كل وزارة تحرس المنجزات وتمنع العبث بالمقدرات والثوابت التي تضعها الدولة لنفسها كما في كل الدنيا لا تتغير بتغير شخوص المسئولين.. وهذا سر تقدمهم وسبب تخلفنا. ولماذا تم الإبقاء علي وزراء في حكومة شريف إسماعيل التي قدمت برنامجها للبرلمان منذ أيام رغم أنهم لم يفعلوا شيئًا في الفترة الأولي يدعم استمرارهم خصوصًا وزراء الخدمات.. وهل هناك أهداف محددة وفق استراتيجية واضحة يعمل علي هديها الوزراء الجدد مع الفريق القديم في تناغم وتناسق حتي تتحقق في النهاية طموحات وآمال المواطنين في مستقبل أفضل يشعرون خلاله بأن وطنهم يتقدم.ومعاناتهم اليومية تختفي أو تصبح علي الأقل أخف وطأة. ما رأيناه في الفترات السابقة من غياب للرؤية السياسية لدي بعض المسئولين خصوصًا الوزراء يعني أننا إزاء أزمة حادة ونقص واضح في الكفاءات السياسية والكوادر في شتي المجالات. وأننا في حاجة ماسة لتجديد النخبة المتكلسة.وإعادة ضخ دماء جديدة في شرايينها باكتشاف العناصر الفذة التي تملك مصر منها الكثير لدفعهم إلي مراكز القيادة.. ولهذا تعجبت كثيرًا حينما شاهدت مجموعة المثقفين الذين اجتمع بهم الرئيس السيسي الثلاثاء قبل الماضي. وحسنًا فعل الرئيس بالرجوع للمثقفين ضمير الأمة وعقلها وروحها.. لكن معظمهم إن لم يكن جميعهم كانوا ضمن حلقات النظام القديم. ولم يقدموا شيئًا خلاقًا لتجاوزأزمات الواقع.. وكنا ننتظر لو اقترح المسئولون عن الثقافة وجوها جديدة من ذوي الرؤية النافذة والحيوية والابتكار والقدرة علي تقديم الحلول الناجعة لمشكلاتنا.. أين هي النخبة الجديدة التي بشرنا بها المستشار الإعلامي للرئيس السابق عدلي منصور من عقول مصر النابهة خريجي الجامعات العالمية مثل أكسفورد وكامبريدج وبوسطن وغيرها.. لماذا لا يتم دمج كوادر الشباب مع خبرة الشيوخ لتقديم رؤية جامعة مانعة لخريطة الطريق التي تحتاجها مصر حاليًا.. فالبلاد تتقدم ليس بتغير أنظمتها السياسية بل بتغيير أفكارها وتطوير رؤيتها وتجديد نخبتها ومعارضتها.. والأهم سلوكيات شعبها إلي الأفضل. ومن أسف أن نخبتنا تبدو بائسة لم يطرأ عليها تغيير لا في الوجوه ولا في الأفكار.. والأمر ذاته في المعارضة التي بدت أكثر بؤسًا وتهافتًا ولا تملك البديل رغم نقدها للحكومة حتي باتت تلك النخبة مجرد ظاهرة صوتية إعلامية لا تتجاوز دائرة الحناجر إلي التأثير في الناس. وتحسين واقعهم.وقيادتهم نحو الأفضل بحسبانهم الطليعة والضمير الحي للأمة. وليس بالظهور الإعلامي والصوت الصاخب في الفضائيات. والقدرة علي الحديث والنقد لأجل المعارضة فقط.وتصدر المشهد الإعلامي بينما هم في الواقع خواء لا يملكون ما يقدمونه لهذا الوطن ولم تثبت التجربة نجاحهم في حياتهم العملية. ولا يملكون رؤية ومبادرة خلاقة تأخذ بيد المجتمع للخروج من الأزمات المحدقة به. ويبدو طبيعيًا في سياق كهذا أن تتجه الأنظار صوب إنشاء مراكز صناعة وإعداد النخبة خصوصًا السياسية. وهو ما التفتت إليه رئاسة الجمهورية منذ شهور حين أخذت زمام المبادرة بعمل برنامج لتصعيد الشباب لمواقع القيادة بعد تدريبهم وإكسابهم الخبرات والمهارات المطلوبة لعلاج ظاهرة ¢ نضوب الكوادر ¢ في دواليب الحكومة و صفوف الأحزاب.. ويبقي دور المجتمع المدني للإسهام في إنجاح مثل هذه المبادرة والاحتذاء بها في تخريج كوادر أخري حتي لا يصبح تشكيل حكومة جديدة أو حتي تغيير بعض وزرائها مشكلة أو مهمة مستحيلة في بلد يملأ أبناؤه النوابغ سمع العالم وبصره في كل مجال دون أن يستفيد هو بهم رغم أنه الأحق والأولي بالولاء والخدمة.. والسبب أعداء النجاح أنصاف المواهب والكفاءات !! حكومة شريف إسماعيل لا يمكن إلا أن نصفها بأنها وزارة تكنوقراط. لا يختلف برنامج عملها ولا أداؤها عما سبقها من حكومات.. غابت السياسة ¢ والحلم ¢ والخيال عن بيانها الذي تقدمت به للبرلمان.وإن حفل بالأرقام والتفاصيل التي بدا جدولها الزمني فضفاضًا أكثر مما ينبغي. كما خلا من ضمانات التنفيذ حتي بدا أن الموافقة عليه من جانب مجلس النواب حتمية وإلا دخلنا في نفق مظلم فلا كتله برلمانية جاهزة لتشكيل حكومة بديلة حال رفض البرنامج. ولا أحد يملك البديل الكفء. الأصل في منصب رئيس الوزراء والوزراء أنه سياسي بالأساس. يبني علي الرؤية والكفاءة والنزاهة والوضوح. الأمر الذي يعني أننا في حاجة لمراجعة تشكيل النخبة في المجتمع.وتعريف منصب ¢ الوزير ¢ واعتباراته السياسية » بحسبانه ذلك الشخص الذي يملك الرؤية والبرنامج معًا ثم يعهد بتنفيذهما إلي مساعدين تكنوقراط أكفاء.كما يحدث في كل الدنيا.ثم يتفرغ هو للمتابعة والتقييم والتوجيه ومخاطبة الجماهير.واستشعار نبضها.والعمل في إطار فريق لديه استعداد لخدمة المواطنين وليس التعالي عليهم..وتحقيق العدالة والشفافية في العمل والقدرة علي اتخاذ القرارات الصعبة بطريقة علمية تخدم الوطن لا المصالح الخاصة اتساقًا مع الأهداف العامة للدولة واستراتيجياتها. لقد عانت مصر غياب ¢الوزير السياسي¢ الذي لم تعرفه منذ عقود إلا نادرًا رغم أنه الأقرب للنجاح والتفاعل مع المواطنين وإقناعهم بسياسة الحكومة وقراراتها.وهو ما افتقدناه للأسف في مراحل سابقة ولا نزال. كنا نرجو أن تتغير الحال بعد وجود برلمان صار شريكًا في الحكم وإجازة الحكومات أورفضها وفقًا للدستور.. الأمر الذي يعظم حاجتنا لوزراء يفهمون في السياسية أكثر من إجادتهم للمهارات الفنية في مجال وزاراتهم.. وإذا كانت الظروف الحالية قد أفضت إلي اختيار وزراء تكنوقراط في وزارة شريف إسماعيل بعضهم يدخل للوزارة لأول مرة وبعضهم استمر في موقعه رغم أنه لم يقدم إنجازات حقيقية علي الأرض.. لكن وإنصافًا للحق لا تتحمل تلك الحكومة وحدها أوزار ما نحن فيه. فالحكومات السابقة قامت بترحيل المشكلات. وفشلت في حل الأزمات حتي تراكمت واستفحلت. وتتحمل حكومات ما بعد الثورة مسئولية الانفلات والفوضي والأزمات الاقتصادية. ورغم ما يقوله البعض عن خلو برنامج حكومة شريف إسماعيل من أي رؤية سياسية أو خريطة طريق يمكنها طمأنة الرأي العام إلا أنه تناول في مجمله المشكلات والتحديات والآمال ويبقي نجاحه -بعد موافقة البرلمان عليه- مرهونًا بالالتزام بتنفيذه وفق الجدول الزمني المعلن حتي يونيو 2018. ورأيي أن المقياس الأول لنجاح برنامج الحكومة هو شعور المواطن بتحسن أحواله فعليًا واختفاء متاعبه. وتراجع الأعباء عن كاهله.خصوصًا في الملفات اليومية كالأسعار والتعليم والصحة والنظافة والبطالة و التضخم.. وليس بالحديث عن أرقام للنمو الاقتصادي لا يجني منها الفقراء شيئًا أوالحديث عن رعاية وتكافل دون تغيير حقيقي في تعليم وتدريب البشر.وتوفير فرص عمل منتجة يمكنها تجفيف أو تقليل مستويات الفقر. لابد أن تعيد الحكومة النظر في طريقة التعامل مع المواطن. وأن تشعره بآدميته إذا أراد الحصول علي خدمة في أجهزتها ومرافقها. وأن تعامله كما تعامل عضو مجلس النواب بنفس الاحترام والاهتمام هذه هي الديمقراطية الحديثة.. وهذا هو السبيل لنيل رضا الشعب.. وإذا كانت الحكومة في طريقها لكسب ثقة البرلمان علي برنامجها فهذا الرضا يبقي مؤقتًا علي أرض الواقع »فالمشكلات الكبري لا تزال غاطسة في تربة المجتمع..فلا إصلاح حقيقيًا دون النهوض بالتعليم والصحة وفق المعايير العالمية. وإحداث عدالة اجتماعية حقيقية تقلل التفاوت الرهيب في الأجور والثروات لصالح السواد الأعظم من الشعب.. وأخيرًا علينا ألا ننسي ما قاله الرئيس السيسي يومًا في حفل تخريج دفعة جديدة في كلية الشرطة ¢ :¢ لا تجورا وتظلموا ¢ وتلك رسالة للجميع حكومةً ومعارضةً. نخبةً وشعبا. فالعدل أساس الملك.. آن الأوان لنبدأ البناء ونكف عن الجدل الهدام في مسائل فرعية لا تمت لأولويات الوطن بأي صلة.