للكتابة وجوه كثيرة. وهي في ذاتها طريقة رائعة وممتعة للولوج إلي النفس واكتشافها والمرور إلي سراديبها الخفية فضلا عن تأمل العالم واكتشافه. وقد تتحول إلي غاية في ذاتها. وقد يراها بعضهم مغامرة. وبعضهم يجد فيها لعبة يمارسها المبدع مع العالم أو مع ذاته بحثا عن المتعة والدهشة. فيظل يلعب خاضعا للعبة التي اختارها محترما قواعدها. وفي مجموعته القصصية الصادرة عن دار روافد وعنوانها ¢الجنتلمان يفضل القضايا الخاسرة¢. يمارس الكاتب أحمد مجدي همّام الكتابة من باب اللعب مؤمنا أن الكتابة لعبة مسلية ومدهشة. ولأنها لعبة فقد التزم بقواعد اللعب منذ السطر الأول وكانت أول قاعدة هي المراوغة. حيث جاءت قصص المجموعة في إطار اتفاق ضمني بين همام وقارئه صرح أو اعترف فيه الكاتب بأن ثمة بواعث وقفت خلف كتابته لقصص المجموعة التي وصفها هو بنفسه بأنها تمارين لجأ إليها لتزييت التروس الصدئة حسب تعبيره في صدر كتابه وذلك من أجل عبور محنة ¢ الورقة البيضاء¢. وهي مراوغة أولي يمارسها كاتب تنطوي كتابته علي كثير من الدهاء والسحر والمغامرة والتشويق. بعد صفحات قليلة سيتأكد لك أنك أمام كاتب وسارد يدرك بالوعي و بالفطرة جوهر عملية الحكي. ويمتلك قدرة كبيرة علي صناعة الحكاية أولا ثم حكيها وروايتها رواية مشوقة. مستخدما خلطة جهنمية من أساليب متعددة وتقنيات متنوعة متنقلا بين مستويات مختلفة من التعبير اللغوي ومتكئا علي السخرية التي جعلت للقص طعما مختلفا. تستدعي كتابة همام بتقنياتها وأدواتها تراث الحكي العربي وأجواء النوادر وحكايات الظرفاء. بما تنطوي عليه من مفارقات وطرافة وسخرية وخفة ظل وتشويق وإمتاع. ولا يفوتنا اعترافه هو نفسه ص 13 داخل قصة ¢ الشطحة الأرمينية ¢ عندما يقول: ¢ وأنا كاتب. لا وظيفة لي ولا صنعة. مجرد أرزقي. أقتات علي الكلمات. وأتعيش من اصطياد مثل تلك النوادر. أتلصص عليها. أراقبها. أحفظها. أعتقها. أعمقها ¢ وذلك في تعليق له علي حكاية المرأة الأرمينية الستينية التي حضرت لقسم الشرطة لتحرر محضرا في جارتها لأنها تصدر لها طاقة سلبية. فمن حكاية الناشطة القبيحة صاحبة اللسان السليط ص9 في قصته الأولي ¢ كيف تثقب وجهك بقصيدة ¢. مرورا بحكاية ¢ محمود الكويتي ¢ ص19 الشاب الهجين وطرائفه و¢شخرته الرقيقة¢ التي لا تصدر إلا عن شخص هجين مثله. وحكاياته عن أبيه في ¢ نوفيللا عن أبي..أقصوصة عن أمي ¢ ص31 وعناوينه التي تتماس وتستدعي موروث القص والنوادر مثل ¢ همام في بلاد الإغريق. والحادثة النارجوشية وغيرهما ¢ بما انطوت عليه القصص من تضمين للحكاية من داخل الحكاية وذكر لأسماء مدن وبلاد وأشعار وإشارات لأزمنة وشخوص ينتمون لعوالم مختلفة بعضها حقيقي وبعضها اختراع الكاتب بما يستدعي للذهن عوالم ألف ليلة وليلة وكتب الأغاني ونوادر الظرفاء وعلي رأسهم جحا والكثير من كنوز التراث في هذا السياق. وقد برهنت المجموعة علي أننا أمام حكّاء من طراز رفيع وراو بالفطرة. وسارد بامتياز. بل وأحد ظرفاء الكتابة الجدد » استطاع بموهبة كبيرة صنع خلطة إبداعية محسوبة المقادير. وأجاد بمرونة بالغة الصعود والهبوط حسب حاجة نصه علي سلم اللغة بين الفصحي بمستوياتها والعامية بدرجاتها » يختار بوعي شديد وذكاء وتفاهم بليغ مع اللغة متي وأين يضع / يختار المفردة من أجل معني من المعاني. وذلك كله بسلاسة ورشاقة لاعب باليه محترف يعشق الرقص علي مسرح اللغة يقول مثلا ص41: ¢ أصر أبي أن يعالج الكلب بنفسه. وذكرنا بأنه خريج كلية العلوم. طلب مني أن أحضر فيتامينات ومطهرات معوية من الصيدلية القريبة من البيت. ثم خلطهما ووضع السائل في فم الجرو المريض غير أنه توقف قبل أن يضخ الترياق في حلقه وتوجه مسرعا إلي صيدلية المنزل. خلط عدة مواد ببعضها وأضاف الخليط الجديد للخليط السابق. ثم ضخ الترياق في فم الكلب. وأعلن: أمان.. الموضوع آخره ساعة. وبالفعل بعد ساعة ذهبت لأري الكلب فوجدته ميتا ومنتفخا¢. لم يكتب همام عن قضايا إنسانية وفلسفية عميقة ولم يشغله البحث عن إجابات لأسئلة وجودية ولم يقدم في مجموعته أبطالا وشخوصا مأزومين.. فالبطل عنده هو الحكي نفسه والحكاية ذاتها بمتعتها وتشويقها ولذتها وإحكامها وطرافتها وقدرتها علي توريط القارئ فيها بصرف النظر عن مضمونها إن كان قضية كبري أو مجرد حدث أو حكاية لطيفة حقيقية أو متخيلة يحكيها الكاتب بطريقة طريفة ورائعة ومشوقة.