إن طرح مشروع العاصمة الإدارية الجديدة للدولة المصرية في المؤتمر الاقتصادي بشرم الشيخ كمشروع رئيسي يبدو ككائن فضائي سقط علي كوكب المحروسة في غمرة انشغالها بحل مشكلتين كبيرتين هما: الإرهاب. والأزمة الاقتصادية. وبحجم المفاجأة كانت ردة الفعل بين مؤيد ومعارض ولا مشاحة في الاختلاف مادام يهدف للمصلحة العامة. والتساؤلات هي علامات استفهام حاشا لله أن يكون القصد منها التشكيك في النوايا والمقاصد أو زرع اليأس في النفوس. بل الغرض هو الإفادة من تجارب الماضي القريب درءا لما تعودنا عليه من العشوائية والتسرع وسفه الانفاق غير المدروس خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية القاسية التي تمر بها البلاد حماية لمستقبل الأجيال القادمة من تبعات تضخم الدين العام وفداحة خدمته. ولذا نتساءل: هل درسنا مناسبة الموقع الجديد للعاصمة دراسة مستفيضة؟ وما هو رأي خبراء التخطيط العمراني في المشروع؟ وما هي الجهات الممولة له؟ وما شروط الاقتراض وفترات السداد ونسبة الفائدة السنوية؟ استناداً إلي الحكمة التي تقول: "ليس كل ما يلمع ذهباً". دعونا نسلط الضوء علي بعض الجوانب الغائبة في هذا المشروع الذي هلل له البعض. وانتقده البعض الآخر فكان النقد موضوعياً ومتحاملاً أحياناً أخري. وكان التهليل والتطبيل غير الموضوعي سمة غالبة. فهلا ناقشنا الأمر بهدوء وعقلانية في ضوء إعلاء قيمة المضمون علي الشكل والتحلي بالحكمة وتغليب المصلحة العليا للبلاد؟. مما لا شك فيه ان مشروع العاصمة الإدارية له فوائد. ولكن ما حجم الضرر والخسائر المتوقعة؟ ألا تفرض ظروف مصر الاقتصادية علي جميع المسئولين التفكير خارج الصندوق وابتداع طرق غير تقليدية لحل مشاكلنا؟ نعم. ولكن التفكير الابتكاري لا ينبغي ألا يؤدي بنا إلي التحليق في فضاء الوهم وإهدار ما لا نملك فيما لا يفيد. خصوصاً إذا كان ضرره فادحاً. فالدولة المصرية لها تجارب مؤلمة يجب أن نضعها نصب أعيننا عندما نفكر في وضع جنيه واحد من ميزانية الدولة المرهقة في أي مشروع قبل معرفة المحصلة الدقيقة. لأنه من الجنون أن يظل المال العام حقلاً للتجارب المخيبة للآمال من زراعة الغابات الخرسانية والفوضي المعمارية علي شاطئ الساحل الشمالي مروراً بمدن السادات والسادس من أكتوبر كبديل للعاصمة. ويعرف القاصي والداني ان الدين العام للبلاد تخطي كل حدود الخطر حيث تجاوز 5.95% من اجمالي الناتج القومي "النسبة الآمنة في حدود 60%". إذ يسجل الدين الداخلي ما يقرب من 9.1 تريليون جنيه. بينما يتجاوز الدين الخارجي 48 مليار دولار وفق آخر التقديرات. وبما أن زيادة الدين تعني زيادة الأعباء علي الأجيال القادمة وتحميلها كوارث لا ذنب لها في تأسيسها. فكيف تفكر الحكومة في إضافة عبء جديد إلي هذا الدين الضخم يتمثل في تكلفة إنشاء عاصمة إدارية يقدر مبدئياً ب 45 مليار دولار أي ما يعادل 345 مليار جنيه كمرحلة أولي؟ وماذا لو زادت التكلفة عن ذلك وهو أمر متوقع مع زيادة الأسعار؟ وماذا لو تعرضت شركة إعمار أو دولة الإمارات العربية لضائقة مالية وتوقفت عن استكمال المشروع؟ وكم تكون تكلفة البنية التحتية ومن الذي يتحملها؟ وهل ستكون العاصمة الإدارية منعزلة عن الأوضاع المتردية في القاهرة والمدن الأخري المجاورة لها؟ وهل فكر أحد في كيفية وصول العاملين بالمدينة إليها من مدن مختلفة عبر طريقين فقط هما: العين السخنة والسويس؟ وهل ستكون هذه المدينة مدينة مغلقة "كومباوند" بحكومة منعزلة عن الشعب مثل منتجع الرئاسة في شرم الشيخ؟ وإذا كانت كذلك: كيف تنعزل بقية مؤسسات الحكم والإدارة عن الشعب وكيف تستشعر بما يمر به من مصاعب ومشاكل يومية في جميع مرافقه؟ وما الموقف القانوني لعاصمة إدارية تخالف دستور البلاد الذي ينص علي ان القاهرة عاصمة الدولة؟ وهل يستمر إغماض الأعين عن احترام مواد الدستور الواحدة بعد الأخري؟ ولماذا العجلة في مشروع خطير وكبير كهذا؟ ألا ننتظر حتي يعرض هذا الموضوع الحساس والمؤثر علي مجلس الشعب القادم ولجانه المتخصصة للدراسة الجادة؟ أم ان التشكيك في وطنية أعضاء المجلس وجهلهم بالمصلحة العليا للوطن ستكون الرد المفحم لكل متسائل غيور علي وجوه إنفاق المال العام؟ وهل يكون لدينا نواب اختيروا من الشعب ثم ينعزلون عنه في "جيتو" اسمه عاصمة إدارية؟ يا سادة:: فكروا بعمق وموضوعية وتأني في أمر العاصمة الإدارية الجديدة.. فكروا مرتين قبل لحظة آتية لن ينفع فيها الندم. وحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا. ولا تجعلونا نهرب من واقع أليم صنعناه بجهل وعشوائية بالقفز إلي المجهول. وعلينا مواجهة مشكلاتنا الحقيقية بالعلم والعمل الدءوب ومحاربة الفساد إن كانت لدينا إرادة.