* قال أحد الحكماء: ما عرض عليّ أمران إلا نظرت أيهما أقرب إلي هواي فأجتنبه. وأختار أبعدهما عن هواي.. "صعبة دي؟!".. طبعاً صعبة جداً.. أو هي كانت صعبة زمان. وصارت اليوم مستحيلة.. وروي عن رسول الله "صلي الله عليه وسلم" أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتي يكون هواه تبعاً لما بعثت به".. يعني يكون هواه تابعاً للدين وتعاليمه ولا يكون الدين تابعاً لهواه.. زمان كان الهوي تابعاً للدين والحق.. واليوم الدين والحق تابعان للهوي "نؤمن ببعض ونكفر ببعض".. حسب المزاج.. إذا أعطينا من الصدقات رضينا. وإذا لم نعط سخطنا.. "شوف كام مرحلة لازم تمر بيها حتي تكون مؤمناً".. "فلا وربك لا يؤمنون.. حتي يحكموك فيما شجر بينهم. ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما".. ليس فقط تحكيم الدين.. بل الرضا والراحة النفسية.. والمزاج والهوي فيما حكم به الدين.. بل التسليم التام بهذا الحكم.. ضبط الهوي علي الحق وليس ضبط الحق علي الهوي.. يعني إذا امتثلت لحكم الدين ونفسك غير راضية فأنت لست مؤمناً. الغرض والهوي والتحيز والمزاج.. كلها تؤدي إلي نفس المعني.. وإذا كان قولي وفعلي تبعاً لهواي. فأنا منافق. وإذا كان هواي هو التابع فأنا مؤمن.. ولُب الإسلام جهاد النفس وقمع الهوي.. "ولا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا".. إذا كان الحق مع من أكره. فذلك لا ينبغي أن يمنعني من إعطائه حقه. أو الحكم له به.. وإذا كان الحق علي من أحب. فلا ينبغي أن يمنعني حبي من أن أحكم عليه. ولا تكاد تخلو سورة قرآنية من الحديث عن اتباع الهوي واتخاذ الهوي إلهاً.. وتحكيم الأهواء. وقيل إن الهوي هاوية وهوان.. ومن اتبع الهوي فقد هوي.. "ولا تُطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه فتردي".. وأكاد أزعم أن الدين كله يتلخص في موقع الهوي من جملة الإنسان.. فالمؤمن هواه تابع. والكافر أوالمنافق هواه متبوع أو متبع. وأزعم أن كل النظريات والعقائد والقيم والمثل العليا ينطبق عليها قول الراحل.. يحيي شاهين في فيلم "بين القصرين" عن ثلاثية الراحل نجيب محفوظ: "بضاعة أتلفها الهوي".. الهوي أفسد كل النظريات والمناهج الجميلة والسامية.. وعندما ينزل كل ذلك من سماء المثالية إلي أرض التطبيق يصطدم بالهوي أو يتفاعل معه فيفسد ويتلف. الدين الواحد صار سُنَّة وشيعة وإخواناً وسلفيين وجهاديين وطرقاً صوفية وفتاوي متضاربة عندما اختلط به الهوي فأفسده.. وهؤلاء جميعاً ليسوا علي شيء. وليس الرسول "صلي الله عليه وسلم" منهم في شيء. وليسوا منه. وهؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً. كل حزب بما لديهم فرحون. ليسوا علي شيء ولا علي الحق.. إنه باطل ضد باطل.. وهوي ضد هوي.. وسبوبة ضد سبوبة.. السُنَّة سبوبة.. والإخوان سبوبة. والشيعة والطرق الصوفية.. كل هذا سبوبة "ونحتاية" وهوي.. كل هذه فرق هالكة.. فرق ضالة مضلة.. والجماعة الإسلامية ليست جماعة ولا إسلامية. بل هي فرقة هالكة مهلكة. أطلقت علي نفسها هذا الاسم زوراً.. أما الجماعة الإسلامية الحقيقية فهي أنت وأنا وهو.. الذين لا ينتمون إلي أي فرقة أو جماعة أو تيار.. هم عامة المسلمين الذين يعبدون الله دون حاجة إلي وساطة مرشد أو أمير أو شيخ أو داعية. وهؤلاء الذين انتموا إلي تيارات وجماعات وفرق هم عبيد الهوي.. كما أنهم عبيد الأضواء والسلطة والجاه والمال.. وهؤلاء الذين ينتمون إلي الفرق والتيارات والجماعات إياها. ليس منهم رجل فقير.. ما السر في أن أي منتم إلي هذه التيارات مليونير علي الأقل؟ هي إذن مشاريع تجارية.. هي إذن سبوبة ونحتاية. وفي مصر مأساة لا أري لها نهاية. ومشكلة لا أري لها حلاً أفسدت علينا حياتنا كلها.. وهي أن كل شيء في هذا البلد صار مدفوع الثمن.. الآراء والمواقف والانتماء الديني والسياسي والمظاهرات والاعتصامات والتحليلات الإعلامية والأخبار والموضوعات الصحفية.. والمقالات أيضاً.. وأنا أكره الرأي المدفوع الثمن ولو كان صواباً. وأكره الأخبار والموضوعات والمواقف المدفوعة الثمن. وأشم رائحتها علي بعد مائة كيلومتر. لم نعد نكتفي بتحكيم الهوي فقط.. بل صرنا أيضاً نستفتي جيوبنا.. فنمدح من يعطي ونقدح ونهجو من يمنع.. زمان في الصحافة كنا نستخدم مصطلح "أخبار بايتة" بمعني أن الخبر قديم ولا يجب نشره.. اليوم نستخدم مصطلح "أخبار مشمومة". أو موضوعات مشمومة. أي مدفوعة الثمن.. وفي برامج "التوك توك" شو الفضائية. يدفعون للضيف الأكثر قدرة علي التسخين وإشعال الحلقة ولو بالباطل. لأنه يكون أكثر جلباً وجذباً للإعلانات. أي "الفلوس".. حتي في البرامج المسماة "دينية" يكون الداعية الأغلي هو ذلك الذي يتهم الناس بالكفر.. وهو الذي يركز علي الفتاوي الجنسية.. وهو الذي تتصل به مشاهدة. وكأنها تتحدث من غرفة النوم.. متثائبة.. خاضعة في القول وتقول له: "والله يا شيخنا أنا أحبك.. وعلشان تخلي الغزل ديني والجنس مشروع. تقول له: أحبك في الله". **** أنت في سيرك سياسي وإعلامي.. لا يجذب الأنظار فيه ولا يجلب الفلوس إلا الأكثر تهريجاً.. والأقدر علي أداء دور المهرج والبلياتشو.. لقد تجاوزنا مرحلة تحكيم الهوي والحب والكراهية في أدائنا الصحفي والإعلامي والسياسي. ووصلنا إلي الدرك الأسفل. وهو تحكيم الجيوب.. والمصريون لا يحكمون علي أحد بمعيار كفاءته وقدراته. ولكن بمعيار ما يتقاضاه. "يعني اللي بياخد مليون جنيه في الحلقة. أفضل عندنا من اللي بياخد نصف مليون".. وهذا أعظم طبيب في مصر لأن كشفه بخمسمائة جنيه.. وهذا أفضل مدرس لأن حصة الدرس الخصوصي عنده بمائتي جنيه.. وكل من أراد أن يجعل لنفسه قيمة. وهو أصلاً بلا قيمة "يغلي أسعاره".. يفعل ذلك الإعلامي والصحفي والطبيب والمحامي والمدرس والسباك ومبيض المحارة.. حتي الرشاوي فئات حسب المناصب والمواقع. ولا تكاد تجد اليوم موقفاً أو رأياً أو كلمة مجانية.. هناك من يبتز من خلال منبره الإعلامي.. وهناك من يمهد الأرض بالمدح لقضاء حاجة عند مسئول.. وهناك من يقدح ويهجو ونفس المسئول لأنه لم يحقق مطلبه غير المشروع.. وهناك من "يتنطط" من حزب إلي حزب. ومن تيار إلي تيار ويستقر عند من يدفع أكثر.. والتجارة المضمونة والأكثر ربحاً اليوم هي تجارة الدين والسياسة والإعلام.. والمجال الإعلامي بالتحديد هو المجال الأكبر الذي يتم فيه غسل الأموال القذرة.. هناك تجار مخدرات وتجار سلاح وتجار أعراض ورقيق أبيض امتلكوا منابر إعلامية ليغسلوا فيها أموالهم. لا يوجد شيء أو شخص الآن ليس له ثمن.. المهم أن تعرف كم.. حتي زمن الخواطر والمجاملات المجانية انتهي.. الوظائف لمن يدفع. والمناصب لمن يدفع.. والحقيقة أنها آفة مملوكية قديمة ورثناها من ملوكنا الجلبان الخصيان المماليك.. فقد كان منصب قاضي القُضاة ومواقع قُضاة المذاهب الأربعة.. وكل المناصب تنزل المزاد. والفوز لمن يدفع أكثر. وكان هذا يتم بشكل علني ورسمي. ولا يستنكره أحد. أو حتي يسخر منه "عادي". والمشكلة الأخري التي لا أري لها حلاً هي "العادي".. نحن لم نعد ننكر المنكر. أو نقرف من القرف.. اعتدنا وتآلفنا. لذلك لم يعد أحد يستحي أو يتواري من سوء فعله.. نحن نرتكب المخازي بمنتهي البجاحة والوقاحة والمجاهرة. والناس من حولنا يقولون: "عادي".. الكذب عادي.. والجنس عادي.. والرشوة عادية.. والبلطجة عادية.. والإرهاب عادي.. والسرقة والاختلاس والإفساد في الأرض.. كل هذه أمور عادية!! الناس لا ينكرون المنكر. بل ينكرون المعروف.. فقد صارت المثالية تهمة. وصارت القيم والمثل العليا مثاراً للسخرية "هو أنت اللي هتصلح الكون؟!.. يا عم أنت محبكها ليه؟!.. فُكها شوية".. وكل شيء في الزمن العادي صار للبيع.. الشرف والضمير والوطن أيضاً.. والأصوات الانتخابية للبيع و"كل برغوت علي قد دمه".. والسياسة حرفة الأغنياء. ومصدر رزق الفقراء.. لا يستطيع الترشح في الانتخابات إلا الغني. ولا يفوز بها إلا الأغني. و"مين يزود".. مثل الثريين اللذين تنافسا علي فتاة.. كل منهما يريد أن يزوجها لابنه. فقال أحدهما: "المهر مائة ألف جنيه.. وعبدالحليم حافظ يغني في فرحها".. فرد التاني: "المهر نصف مليون جنيه وعبدالحليم حافظ يرقص في فرحها"!! زمان تعلمنا في كلية الإعلام أن الخبر المكتمل هو الذي يجيب عن خمس أدوات استفهام "سموها الشقيقات الخمس" وهي: مَن؟! وماذا؟! ومتي؟! وأين؟! وكيف؟!.. ومنا مَن عاش ما تعلمه ومات به و"طلع من المولد بلا حمص".. ومنا مَن قتل الشقيقات الخمس بضربة واحدة. واكتفي بأداة استفهام واحدة "وحيلة".. هي "بكم"؟!! نحن نتبع الهوي. والهوي يتبع الفلوس.. ولا رأي للفقير ولا وزن له ولا اختيار له.. كما أنه لا عرض له ولا شرف.. الفقراء في زمن الجيوب مستباحون.. ومن زمان نردد مثلنا العامي الشهير: "بفلوسك بنت السلطان عروسك".. ونقول: من حق الفقراء أن يحبوا.. ومن حق الأغنياء أن يتزوجوا حبيبات الفقراء.. ونقول: المرأة تحب فقيراً. وتتزوج غنياً.. والرجل يحب غنية ويتزوج فقيرة مثله.. حتي المشاعر بفلوس.. والفقر ليس قرين الصلاح. والغني ليس قرين الفساد.. فالفقراء كثيراً ما يكونون أدوات الأغنياء في الفساد.. والغني الفاسد أحمق مرة واحدة لأنه اشتري دنياه بآخرته.. لكن الفقير الفاسد أحمق مرتين. لأنه باع آخرته بدنيا غيره.. باع آخرته بدنيا الغني الفاسد.. "يعني لا طال دنيا ولا طال آخرة"!! **** من العبث أن تغير المناهج والنظريات والخطط مادام التطبيق بيد نفس البشر ونفس الأدمغة والقلوب المظلمة.. يا سيدي الوعاء مسموم.. الإناء مصنوع من مادة سامة.. فما جدوي أن نسكب ما فيه من ماء مثلاً. لنضع بدلاً منه عسلاً أو لبناً؟!.. لا جدوي.. "حنفضل نقول نظريات في الإعلام والصحافة والسياسة والقانون.. وحنفضل نكتب دساتير ما تخرش الميه".. وننسي أو نتناسي أن العيب والخلل في البشر.. في الذين يطبقون النظريات.. الفساد في البشر لا في النظرية والشعار.. تماماً مثل "الورق الحلو" علي رأي الفنانين أو السيناريو الممتاز. لكن توزيع الأدوار علي الممثلين خاطئ.. الممثل "علي قده.. والدور مش راكب عليه.. ومش منور في الدور.. يبقي العمل الدرامي كله يقع". هذا ما أطلق عليه دائماً "القرفة أو النفس".. "يعني باختصار احنا قرفتنا وحشة.. ونفسنا وحش".. نري العذاب ألواناً. ونبذل جهداً جباراً "وتطلع الطبخة زي السم".. في السياسة والإعلام والصحافة.. حتي في الثورة.. لدينا قدرة عجيبة علي تقبيح الجميل. وتلطيخ اللوحة التشكيلية الرائعة.. وإفساد الصالح.. وفي كل مرة نقول: "فرحة ما تمت. خدها الغراب وطار".. "عايزها مرة واحدة تكمل".. دائماً يدي علي قلبي خوفاً من "الكرسي في الكلوب".. هذا الوطن لا تعيش له فرحة.. يحمل الفرحة في أحشائه. فإذا بغراب يأتي من بعيد ليجهض الفرحة و"يظلمها بكرسي في الكلوب".. لذلك نحن خائفون دائماً.. وعندما نضحك كثيراً نقول بانقباض: "خير.. اللهم اجعله خير".. أو نقول: "خير يا طير".. ولكني أقول دائماً: "اللهم لا طير إلا طيرك. ولا خير إلا خيرك. ولا إله غيرك".. وأقول: إن المأساة في كل حياتنا هي اتباع الهوي.. ومن اتَّبع الهوي فقد هوي!!! نظرة * كان الناس في الماضي "يسرحون بالقرود".. وكانت هذه الفئة تحمل اسم "القرداتية".. ولكن الزمن تطور واستغني الناس عن القرود. وتحولوا هم أنفسهم إلي قرود تسرح وتمرح من دون أن يسرح بها أحد.. الناس صاروا قروداً في كل مجال.. قرود في السياسة وقرود في الإعلام وقرود الصحافة.. وقرود الحب أيضاً.. والقرد البشري هو الذي "يسرح بنا".. وقد كان القرداتية زمان يستخدمون القرود في النشل والسرقة.. "القرد يعمل شوية حركات. فيخطف بصرك". وتفاجأ بأنك "اتنشلت".. أما قرود البشر فإنهم يسرقون بحركاتهم عقولنا وقلوبنا وفلوسنا معاً.. يسرقون "الكحل من العين".. والدم من الشرايين. حتي أننا بسبب القرود البشرية "ما عدش عندنا دم"!!!