هناك ورقتان في مصر تلعب بهما أي معارضة ضد أي حكومة.. الورقة الأولي قديمة عمرها تقريباً خمسة وستون عاماً.. والورقة الثانية حديثة تجاوز عمرها بالكاد ثلاثين شهراً.. وكلتا الورقتين فقدتا صلاحيتهما للعب ولم تعد المعارضة تكسب بهما الحكومة.. لم يعد استخدام الورقتين مجديا في حشد الشعب خلف المعارضة.. "يعني الورقتين مش ماشيين دلوقت" ولم تعد لهما أي قيمة ولا تصلحان لشراء الشعب وكسب تأييده. أما الورقة الأولي القديمة فهي إسرائيل.. كل حكومة أو كل نظام تريد المعارضة تشويهه ترفع في وجهه "كارت" إسرائيل وعلاقات النظام بها وتنسيقه معها.. بل ان النظام أي نظام في مصر يلعب أيضا "بكارت" إسرائيل في محاولة لاثبات عدائه لها.. رغم ان أي نظام في مصر منذ معاهدة السلام لم يعد عدواً لاسرائيل.. ان لم يكن قد اصبح صديقا لها.. حتي نظام الإخوان عندما كان في المعارضة أيام مبارك كان يرفع راية الجهاد ضد إسرائيل وشعار "شهداء بالملايين علي غزة رايحين".. وعندما وصل نظام الإخوان إلي السلطة أصبح التنسيق والتعاون مع إسرائيل علي أعلي مستوي واختفي شعار الجهاد والشهداء بالملايين والصهاينة والعدو الصهيوني.. وبين الحين والاخر كان نظام الاخوان يشعر بأن رائحة التنسيق والتعاون مع إسرائيل قد فاحت.. فيلجأ إلي نفس اللعبة التي كان يلجأ لها نظام مبارك وهي الاعلانات الوهمية عن ضبط جاسوس أو جواسيس لحساب إسرائيل حتي يوحي هذا النظام بأن عداءه لإسرائيل مستمر.. وهي دائما لعبة مكشوفة إذ لم نسمع أو نقرأ يوما عن جاسوس واحد جرت محاكمته.. وكان الخبر الوحيد الذي نقرأه هو ضبط الجاسوس وبعد ذلك "لا حس ولا خبر" ولا أحد يدري ماذا جري بعد ذلك.. مما يؤكد أنها أخبار وهمية وأن الجواسيس وهميون.. وأنها لعبة معتادة تستخدم فيها ورقة إسرائيل من جانب النظام والمعارضة معا. حتي رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا الذي يعيش نظامه أحلي شهر عسل مع إسرائيل لم تعش تركيا مثله ولا أحلي منه في تاريخها.. استخدم "بعبط شديد" ورقة إسرائيل المحروقة لتحريك وتأليب الشعب المصري ضد نظامه.. وقال ان اسرائيل كانت وراء خلع محمد مرسي وأنها تقف وراء ما حدث في الثلاثين من يونيه.. وكانت فضيحة أردوغان بجلاجل لأنه لم يدرك ان ورقة العداء لإسرائيل صارت محروقة في مصر وان اللعب بهذه الورقة لم يعد ذا قيمة أو جدوي.. وحاول الإخوان ايضا عندما صاروا معارضة مسلحة بعد خلع مرسي اللعب بورقة اسرائيل وقالوا ان اسرائيل ضربت منصات لإطلاق الصواريخ داخل سيناء بالتنسيق مع الجيش المصري.. وأيضا مر هذا الهراء مرور الكرام.. بل إن كثيرين من ابناء الشعب المصري قالوا: "وايه يعني.. وماله.. تنسيق تنسيق". زمان قبل حرب أكتوبر عام 1973 وبعدها بقليل كنا نصاب بالفزع والقرف عندما يتم الاعلان عن ضبط جاسوس لإسرائيل وكنا نتابع بشغف الاعمال الدرامية عن الجاسوسية وملفات المخابرات.. مثل رأفت الهجان والصعود إلي الهاوية ودموع في عيون وقحة.. وكانت هذه الاعمال تحقق أعلي معدل مشاهدة.. أما الان فإن اخبار ضبط الجواسيس لا تعنينا في شيء ولا نتوقف عندها ولم نعد نتعامل مع المتهم بالتجسس كأنه أجرب.. يجب الفرار منه كما كان يحدث في الماضي.. ولم نعد نتابع دراما الجاسوسية والمخابرات.. لأن التركيبة المزاجية والنفسية للشعب المصري تغيرت بينما توقف نمو النخب السياسية من حكومات ومعارضة عند أوائل سبعينيات القرن الماضي حينما كان العداء لإسرائيل ورقة اللعب الرابحة لدي الحكومة والمعارضة.. فإذا أرادت المعارضة تشويه نظام اتهمته بالتعاون مع العدو الصهيوني وإذا أراد النظام تشويه المعارضة اتهمها بالعمالة لإسرائيل. بالنسبة للمزاج الشعبي لم تعد اسرائيل العدو الأول.. بل ربما لم تعد عدوا علي الاطلاق.. فقد اعاد الشعب ترتيب أولويات الاعداء والاصدقاء فحذف من حذف واضاف من اضاف.. وتصدر القائمة من تصدر وتأخر ترتيب من تأخر بينما لم تفعل النخبة السياسية نفس الشيء ومازالت تغازل الشعب بورقة العداء لاسرائيل.. لكن هذا الغزل المستهلك لم يعد يستميل الشعب.. وعندما امتدت يد الشيطان لقتل جنودنا في رفح في ظل نظام الإخوان ثم امتدت يد الشيطان بقتل جنودنا في رفح أيضا بعد رحيل الإخوان.. حاول الإخوان وهم في الحكم ثم في المعارضة المسلحة اقناع الشعب بأن إسرائيل وراء مقتل الجنود في المرتين لكن أحدا لم يقتنع.. بل ان كثيرين ذهبوا إلي أبعد من ذلك وقالوا ان اسرائيل أكثر نبلا من ان تقتل جنودا يستعدون للإفطار وصلاة المغرب في رمضان.. إلي هذا الحد تغيرت التركيبة المزاجية والنفسية للمصريين حتي قال كثيرون منهم إن اسرائيل أنبل من ان ترتكب تلك الجرائم النكراء. *** وعندما نري مشاهد القتل والتمثيل بالجثث علي مدار الساعة الآن وفي معظم مناطق مصر تبتعد إسرائيل كثيراً ويتأخر ترتيبها في قائمة الأعداء حتي تكاد تختفي تماما.. وتزداد قناعة واقتناع المصريين بإن إسرائيل أنبل وأشرف من ان ترتكب مثل هذه الأفعال الشيطانية القذرة.. تتواري جرائم اسرائيل خجلا عندما نري نفرا من المصريين يقتلون ويمثلون بالجثث ويرقصون حولها ويهتفون: إسلامية.. إسلامية.. بالروح.. بالدم نفديك يا إسلام.. هنا من حق المصريين أن يقولوا إن اسرائيل لم تعد عدوا.. وان ورقة العداء لها صارت محروقة واللعب بها لا يجدي. واما الورقة الأخري التي صارت محروقة أيضا ولا قيمة للعب بها فهي ورقة مبارك ونظامه.. "اللي عايز يكسب بنط عند الشعب" يلعن نظام مبارك ويقيم الدنيا ويقعدها عندما أخلي سبيل مبارك علي ذمة قضايا ما زال يحاكم فيها.. تلقف الإخوان ومن لف لفهم ومعهم حركة تمرد التي علي مايبدو أنها تقمصت الدور أكثر مما ينبغي نبأ إخلاء سبيل مبارك بعد استنفاد فترة الحبس الاحتياطي القانوني.. وراحوا يقولون ان الفلول سيطروا علي المشهد المصري وإن ثورة يناير قد فشلت وان نظام مبارك عائد بقوة وهو الذي وقف وراء ثورة 30 يونيه وعزل مرسي. ومثل ورقة العداء لاسرائيل احترقت أيضا ورقة اللعب بنظام مبارك لحشد الشعب مع من يلعبون بالورقتين.. ووقعت النخبة السياسية في نفس الفخ والمطب.. وهو مطب توقف النمو.. بينما الشعب يتغير مزاجه وتركيبته النفسية كل يوم تقريبا ولايكف عن اعادة ترتيب اولوياته.. وقد لعب نظام الإخوان عندما كان حاكما بورقة مبارك ونظامه وما أطلق عليه فلاسفة الحكم الإخواني الدولة العميقة.. وتم تعليق كل انواع واشكال والوان الفشل علي نظام مبارك والفلول والدولة العميقة حتي ان نظام الاخوان ظل حتي السقوط يري ان الملايين التي في التحرير وفي كل المحافظات يوم الثلاثين من يونيه ليست سوي عدة الاف من الفلول. اسرائيل ومبارك بالنسبة للمصريين تجاوزهما الزمن واصبحا خارج "الكادر".. المشهد المصري الان لم تعد فيه إسرائيل ولم يعد فيه مبارك.. بل اكاد ازعم ان ما يرتكبه الشياطين في مصر الان ساهم تماما في تحسين صورة اسرائيل ومبارك لدي المصريين.. اسرائيل صارت عند كثير منا أكثر نبلا وشرفا في الخصومة من بعض المصريين.. ومبارك تحول الي بطل قومي عندما حقن الدماء وتخلي عن الحكم ولم يهرب خارج البلاد وخضع للمحاكمة.. ويري كثيرون ان مبارك سيحصل علي براءة من أول جلسة في قضايا قتل المتظاهرين وفتح السجون واقتحام مراكز واقسام الشرطة.. سيحصل هو ووزير داخليته حبيب العادلي علي البراءة.. والعجب العجاب ان الد أعداء مبارك هم الذين قدموا أدلة براءته هو والعادلي عندما كرروا نفس سيناريو 28 يناير عام 2011 باقتحام مراكز الشرطة ومحاولة فتح السجون واشعال الحرائق في المنشآت العامة ودور العبادة وقتل ضباط شرطة والتمثيل بجثثهم.. وهناك مصريون يذهبون الي أبعد من ذلك اذ قال لي احدهم: الان عرفنا من المتهم في جريمة ضد مجهول منذ واحد وستين عاما.. الان عرفنا من وراء حريق القاهرة في السادس والعشرين من يناير عام ..1952 عرفنا ذلك ولكني شخصيا لا اعرف "ايه حكايتنا السوداء مع يناير".. كل أحداثنا غير السارة وقعت في يناير وهي دائما أحداث جسام ففي 26 يناير عام 1952 احترقت القاهرة وفي 25 يناير 1952 قبل ذلك بيوم كانت المذبحة التي ارتكبها الانجليز ضد رجال الشرطة المصرية البواسل وفي 18و19 يناير عام 1977 وقعت الانتفاضة الكبري ضد قرارات السادات برفع الاسعار ووقع فيها خراب كبير ونهب عظيم وفي 25 يناير عام 2011 وقعت الوكسة التي سميناها ثورة وفي 28 يناير عام 2011 كانت جمعة الخراب التي سموها جمعة الغضب ومن يومها "ما فيش حاجة في مصر عايزه تعمر أو تمشي عدل". *** مصر الآن في حالة حرب حقيقية تجاوزت مبارك وتجاوزت إسرائيل.. هناك ما يشبه الحرب العالمية ضد مصر الآن يقودها نفر من الداخل بالوكالة عن دول وتنظيمات في الخارج.. والكلام في هذه الأجواء عن مبارك وإسرائيل يعتبر "لعب عيال".. واذكر ان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قال بالنص: "لا ينبغي ان يكون هناك صوت أعلي من صوت المعركة ولانداء اقدس من ندائها".. ساعتها كان يقصد الحرب مع اسرائيل.. والعبارة يجب استخدامها الان في سياق مختلف لأن اسرائيل اختفت من "الكادر" وصار علي قمة الجدول اعداد اخرون في الداخل والخارج.. نحن فعلا في حرب وتجاوزنا مرحلة أننا نعيش أجواء حرب.. أو أننا نقف علي باب الحرب.. ويبدو أن قدر مصر الذي أراده الله لها ان تكون في رباط الي يوم القيامة وان تبقي أبد الدهر في حالة حرب أو حالة استعداد لحرب ولكن لكل حرب أعداء مختلفين تواجههم مصر.. وحكاية مصر مع الحرب طويلة وشرحها يطول ولن يفهمه المسطول الذي غاب تماما عن الوعي ويسير معصوب العينين الي حتفه وحتف وطنه.. في بلادي سكاري وما هم بسكاري ولكن عذاب الله شديد في بلادي اناس سلطهم الله علي أنفسهم ويريدون ان يشتروا بالوطن ثمنا قليلاً.. حديثنا عن حكاية مصر مع الحرب يطول.. فهل يفهم المسطول؟! نظرة قلت لكم قبل اليوم انني لم اعد اتحاور مع أحد لان حوارنا صار حوار طرشان.. ولأن المفردات والآراء هي.. هي لا تتغير حتي أنني سمعت عبارة واحدة في يومين أربع مرات من اشخاص متعددين يناصرون المشهد الاخواني الحالي.. قالوا لي: ان المتظاهرين يذهبون الي ساحات التظاهر ليموتوا وينالوا الشهادة.. "واللي يرجع منهم من غير ما يموت بيبقي زعلان جدا".. لم تعد هناك جدوي من الكلام الذي نقوله حول ان الذي يذهب ليموت ليس شهيدا حتي اذا كان في سبيل الله.. وان الشهيد الحق يعلمه الله.. وان المسلم أو المؤمن يذهب لينتصر لا ليموت فإذا قتل فإن أجره علي الله.. والحكم في ذلك له وحده سبحانه.. لا جدوي من هذا الكلام الذي لا يسمعه ولا يقرأه أحد.. وفي هذه الأيام تجري علي لساني العبارة التليفزيونية الشهيرة في برامج التوك توك شو.. والتي يقولها كل المحللين والمتحدثين في البرامج وهي : "انا عايز اقول لحضرتك علي حاجة.. أنا بس عايز أقول لحضرتك حاجة".. وكل من حدثوني وتحاوروا معي في الأيام الماضية أقول لكل واحد منهم بعد سماع رأيه: "أنا عايز أقول لحضرتك حاجة.. فيقول لي: تفضل.. فأقول له: حاجة"!!!