* بينما كانت أبواب المترو علي وشك الإغلاق والقطار يتأهب للإقلاع وقف شاب علي الباب "وتشعلق" به ليحول دون غلقه حتي يتمكن عدد من الفتيات والشباب والكبار من ركوب القطار.. وانتفخت أوداج الشاب زهواً وهو يتلقي كلمات الشكر من الركاب.. ولم يتحرك القطار لأن خللاً حدث للأبواب جميعاً.. لكن أحداً لم يفطن للخلل. وانشغل الجميع بالثناء علي الشاب النبيل.. وانشغلت أنا وحدي كعادتي دائماً في مخالفة الإجماع بكيل اللعنات في سري للشاب المخرب الذي فعل شراً. وهو يظن ومعه جميع الركاب أنه فعل خيراً.. الشاب الذي أفسد وظن ومعه جميع الركاب أنه أصلح. وويل لنا جميعاً من الذين يفسدون ولا يشعرون.. يفسدون ويظنون أنهم مصلحون.. ونحن نثني علي فسادهم ونري أنه إصلاح.. "سكين الفساد سارقانا جميعاً". وتداعت في رأسي "اللي تاعبني" الأفكار والأحداث.. وانتهيت بعدما فاتتني محطة نزولي بمحطتين إلي أن واقعة الشاب وباب المترو تلخيص وافي وعبقري لكل ما يحدث في مصر الآن.. لكن يبدو أن الأوان قد فات كما فاتتني محطتي وتجاوزتها بمحطتين.. ويبدو أن ما يحدث في مصر وما حدث قبل ذلك ومنذ وكسة الخامس والعشرين من يناير ينطبق عليه المثل العامي: "العايط في الفايت نُقصان عمر. أو نُقصان عقل".. فلا حياة لمن تنادي.. وسبق السيف العذل. وقطعت جهيزة قول كل خطيب.. لم يعد من الممكن أن يستمع إليك أحد.. وصار من العبث أن تتحاور وتحذر من دهياء مظلمة.. "الكل عقد علي كدة".. والذي يعمل الخبائث يثني عليه الناس ويرون أنه يعمل صالحاً.. تماماً مثل الشاب الذي عطل أبواب المترو. وأثني عليه الركاب. بينما هو ارتكب فعلاً قبيحاً يستحق اللوم. ويسأل سائل: "طيب ليه كدة؟!".. والجواب بسيط ومعقد في ذات الوقت وهو أن المصري أو العربي يفعل ما يحب ولا يفعل ما يجب "أنا حابب كدة.. أنا كيفي كدة".. "أنا مبسوط كدة.. أنا مرتاح كدة".. ودائماً ما يحبه لا يجب. وما يجب لا يحبه.. يعني هو يفعل ما يسره ويسعده "ولو خربت الدنيا كلها".. المرء منا يتصور أنه في الدنيا وحده.. لذلك لا نقدر العواقب ولا نقرأ النتائج.. يعني ألعب الكرة في نهر الشارع. فتحطم الكرة زجاج سيارة أو تصطدم بوجه أحد المارة فتفقأ عينه.. هذه العواقب لا تعنيني. ولا تؤرقني. ولا أقيم لها وزناً. والمهم عندي أن أكون سعيداً ومستمتعاً بوقتي ولو كره الجميع. ولو مات الجميع.. وبهذا المنطق يصبح من الصعب حصر البلطجية في البلد.. لأننا جميعاً بهذا المنطق وتلك الطريقة بلطجية.. الفنان أو المنتج الذي لا هم له إلا تحقيق أعلي مشاهدة وإيراد. ولو بالجنس والعري والألفاظ القذرة. بلطجي.. لأن البلطجي في أبسط تعريف هو الذي يفعل ما يحب لا ما يجب.. هو الذي لا تعنيه العواقب والنتائج.. والموظف أو العامل الذي لا "يشتغل ببصلة" ويتظاهر ويعتصم طلباً للحوافز بلطجي.. والإعلامي أو الصحفي الذي يشعلها ناراً ليكسب قراء ومشاهدين ونجومية بلطجي.. والجماعة التي تريد أن تأخذ الوطن كله رهينة من أجل العودة إلي سلطة فقدتها بغبائها وتكويشها. مجموعة بلطجية يفعلون ما يحبون. لا ما يجب.. وهم مثل الشاب الذي عطل أبواب المترو من أجل أن يتمنظر ويعجب "النسوان".. حيث لا قراءة للعواقب. ولا استقراء للنتائج.. بل دائماً استهانة بالعواقب والنتائج "وإيه يعني".. إن هؤلاء لشرذمة قليلون. نحن في مباراة بلا حكم.. واللاعبون في الفريقين بلطجية.. ولا يمكن أن تنتهي المباراة علي خير.. وأنت لا تعرف في هذه المباراة الحكم من اللاعبين من الجمهور. والله سبحانه وتعالي قرن التوفيق بإرادة الإصلاح بين الزوجين.. وهذا الاقتران ينطبق أيضاً علي الإصلاح والصلح بين فرقاء الوطن: "إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما".. لكن الوسطاء منحازون إلي الخراب والدمار. لذلك لن يوفق الله الفرقاء إلي الصلح والإصلاح.. وما دخلت أمريكا أمراً إلا شانته. وما خرجت من أمر إلا زانته. ونحن قوم متطرفون ومتعصبون.. علينا أن نعترف بهذا.. متطرفون مع الشيء أو متطرفون ضده.. يعني لا عقل في المعارضة. ولا مخ في الموالاة.. وكما أكره استقواء الإخوان وأشياعهم بالخارج.. أكره أيضاً الذين يرفعون أحذيتهم مهددين بضرب أمريكا "بالجزمة".. فالمتغطون بأمريكا عملاء وخونة.. وضاربو أمريكا بالجزمة أغبياء. وكذابون ومراهقون في السياسة.. والإبل تورد خطأ في رابعة والنهضة. وتورد خطأ في إعلام ثورة الثلاثين من يونيه.. فنحن بين غبائين وتطرفين. وإرهابين فكريين.. أحدهما ديني والآخر ليبرالي. أو كما يبدو ناصري.. والذين هاجموا تكويش نظام الحزب الوطني.. مارسوا التكويش والتمكين الإخواني.. والذين هاجموا التكويش الإخواني يمارسون الآن التكويش الناصري. *** * وكما استدعي الإخوان الخلافة العثمانية القديمة وفشلوا.. يستدعي المهيمنون علي المشهد الآن التجربة الناصرية وسوف يفشلون.. وهي حالة إفلاس فكري وسياسي عامة. فنحن تابعون ومتبعون. ولسنا مبدعين ولا مبتدعين. ولا مجتهدين في الدين أو السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام.. وكما مارس الإخوان إعلام التعبئة والحشد والانفعال الديني.. نمارس نحن الآن إعلام التعبئة والحشد والانفعال الناصري ونعود لمفردات الضرب بالجزمة و"اللي مش عاجبه البحر الأبيض يشرب من البحر الأحمر". وسنلقي بإسرائيل في عرض البحر.. وهذا الإعلام أو ذلك انتهي زمانه.. كان يصلح لوقته ولأوانه.. واستدعاؤه الآن عبث ورفث وفسوق وعصيان.. فلا العصر عصره. ولا النظام الدولي بقي علي حاله.. ولا توجد في العالم الآن دولة مستقلة ذات سيادة. "ومافيش دولة تقدر تعمل اللي هي عايزاه في الوقت اللي يعجبها". أمريكا ليست منحازة للإخوان كما يتوهم الإخوان أو نتوهم نحن.. وإنما هي منحازة إلي مشروعها الذي انهار. والذي دفعت فيه دم قلبها.. ومن حق أمريكا أو غيرها أن تنحاز لمشاريعها ومصالحها.. بل من حق أي دولة أن تتآمر وتخطط ضد دولة أخري.. ومن حقها أن تجند جواسيس.. وليس العيب عيب من يستخدمك لخدمة أهدافه. ولكن العيب عيب من يتم استخدامه وتجنيده.. ونحن دائماً نحاكم الجواسيس ولا نحاكم من جندهم.. المشكلة أننا طلاب سلطة ومال.. والإخوان مثلنا جميعاً طلاب سلطة ومال وفي سبيلهما يقدمون تنازلات حتي عن الوطن نفسه.. وأمريكا رأت أن تنفيذ أجندتها ومصالحها تحت علم ليبرالي أو ديمقراطي فشل.. لذلك تحولت إلي تنفيذ نفس الأجندة والمصالح والأهداف تحت علم إسلامي.. وفعلاً كادت هذه الاستراتيجية تنجح.. وقدم الإسلاميون لأمريكا ولإسرائيل مائة ضعف ما قدمه مبارك أو غيره من الأنظمة العلمانية أو الليبرالية.. وحدث هذا بلا أي ممانعة شعبية.. بل حدث بمباركة شعبية.. وكان الربيع العربي بحق هو الربيع الإسرائيلي وتراجعت حتي العدم العمليات الإرهابية ضد المصالح الأمريكية والإسرائيلية.. في مقابل إطلاق يد الإخوان تماماً في دول الخريف العربي.. ثم بدأ هبوب عواصف الحرب المذهبية بين الشيعة والسنة من الخليج إلي المحيط.. وتحول الجهاد ضد العدو الإسرائيلي والعدو الأمريكي إلي جهاد ضد العدو الشيعي أو العدو العلوي.. واختفي الدعاء فوق المنابر علي اليهود ومَن والاهم ليحل محله الدعاء علي بشار والنصيريين الكفرة.. وتم تصدير الحرب الأهلية الطائفية في سوريا الآن علي أنها ثورة سورية ضد نظام بشار.. وظهرت فكرة الهلال السني ضد الهلال الشيعي.. ودخلت مصر المعركة الطائفية حين حرَّض شيوخ الإخوان ومن يخالفهم من السلفيين علي قتل الروافض الشيعة. فاستجاب الغوغاء فوراً وقتلوا وأحرقوا عدداً من الشيعة وهتفوا فوق جثثهم: بالروح.. بالدم.. نفديك يا إسلام. كل هذه المكاسب وغيرها حققتها إسرائيل وأمريكا لولا أن مصر ضربت المشروع في مقتل وقالت له: "فركش".. وإدارة أوباما الآن في مأزق كبير. وكل هؤلاء الوسطاء والمسئولين الدوليين الذين توافدوا علي مصر. إنما جاءوا في محاولة لإنقاذ إدارة أوباما. لا لإنقاذ الإخوان.. وهناك من يري أن أوباما قد لا يكمل فترته الرئاسية بسبب المساءلة التي يواجهها حول الأموال المدفوعة لتمكين الإخوان في دول الخريف العربي.. وربما يخرج أوباما بفضيحة "إخوان جيت".. كما خرج نيكسون بفضيحة "ووتر جيت". ريتشارد نيكسون لم يكمل مدته رغم أنه جاء بالصندوق الذي يرفعه الإخوان. ويشحتون عليه.. فالصندوق لا يحصن حاكماً ضد الخروج والإطاحة به.. وربما يلقي أوباما نفس المصير. رغم أنه جاء بالصندوق.. وتصريحات النائبين الجمهوريين في مجلس الشيوخ جون ماكين. وجراهام التي وصفت ما حدث في مصر بأنه انقلاب.. ليست تعاطفاً مع الإخوان وإنما هي محاولة من الحزب الجمهوري لإحراج أوباما الديمقراطي أمام الشعب الأمريكي "يعني الجمهوريين والديمقراطيين بيلاعبو بعض".. فلا أحد منا يفرح بما يقولون أو يحزن لتصريحاتهم. *** ولا ينبغي للطرف المعارض أو المناوئ للإخوان أن "يجيب الآخر" في سب أمريكا. والتهديد بضربها بالجزمة علي طريقة عبدالناصر. التي لم تعد تصلح الآن. أو التي انتهي تاريخ صلاحيتها.. فأمريكا معذورة ومصدومة بما جري وما فعله الشعب المصري. ففي الماضي القريب قبل وكسة يناير وبعدها وفي ظل حكم الإخوان كانت كل الترتيبات والتربيطات والصفقات تتم دونما أدني اعتبار للشعوب وللرأي العام.. "اللي عايز يورث.. واللي عايز يمكن ويتمكن.. ياخد الإذن من أمريكا.. وياخد رضاها.. واللي عايزاه أمريكا يعمله الحاكم".. ثم فوجئت أمريكا بشعب عاد إلي الحياة. وخرج في طوفان غير مسبوق ليهدم كل الترتيبات والتربيطات والصفقات.. بالتأكيد هي صدمة ومفاجأة لأمريكا وإسرائيل.. بل هي مفاجأة لي أيضاً "شيء مش معمول حسابه خالص".. لذلك وقع الارتباك والتخبط والتصريحات المؤيدة مرة والرافضة مرة.. وهذا الارتباك الأمريكي يجب أن نراعيه ونعذره.. ونتعامل معه بحكمة. ونساعد أوباما علي تجاوز محنته.. من الحكمة ألا نخسر أمريكا وألا نفرض عليها وعلي أنفسنا مواجهة لا تريدها واشنطون. ولا نريدها نحن.. من الحكمة ألا تكون لنا نفس عداءات عبدالناصر. ونفس صداقاته "الدنيا تغيرت".. أخطأ الإخوان عندما واجهوا الشعب لحساب أمريكا وإسرائيل.. ونخطئ نحن الآن إذا واجهنا أمريكا وإسرائيل لحساب الشعب.. لقد خسر الإخوان ولا نريد أن يكرر النظام الحالي نفس الخسارة.. علينا أن نحسن اختيار أعدائنا. وأن نحسن اختيار أصدقائنا.. وأن نعيد ترتيب أولويات العداء والصداقة. وأن نتعظ بالشاب الذي عطل أبواب المترو من أجل المنظرة.. علينا أن نقرأ العواقب والنتائج. فالأغبياء "كترو علي باب المترو"!! نظرة زمان والآن وفي المستقبل يوثق المصريون الأحداث بطريقة فيها كثير من النفاق.. وهي طريقة تسمية الأبناء بأسماء دول أو أحداث. أو زعماء.. كان عم عبدالله يملك مقهي من الخوص والبوص علي درجة عالية من البساطة. وكنا نمر عليه ونحن في الطريق إلي المدرسة الإعدادية. ونسمعه ينادي ابنته "يا بت.. يا سوريا.. يابت".. وعرفنا أن سوريا ولدت عام 1958 مع إعلان الوحدة المصرية السورية. وانتشر وقتها إطلاق اسم سوريا علي البنات.. وكان هذا التقليد متبعاً منذ قرون.. وكل الأسر سمت أبناءها بأسماء الأسرة العلوية.. محمد علي وإبراهيم وإسماعيل وتوفيق وفؤاد وفاروق.. ثم جمال.. وعبدالناصر.. وهناك أسماء مركبة مثل: مصطفي كامل.. بل ومصطفي كمال "أتاتورك طبعاً".. وهناك لينين تيمناً بالثورة البلشفية.. ومع الوقت طغت أسماء الأحداث علي أسماء الزعماء عندما صارت الأحداث أكبر من الزعماء. وعندما اختفي الزعماء.. فوجدنا أسماء: عبور. وبدر. وانتصار.. بعد انتصار أكتوبر.. ثم طغت الأسماء التي تظهر النفاق الديني. بعد النفاق السياسي أمثال: خديجة. وعائشة. والشيماء. وعبدالرحمن. وعبدالله.. وكل العباد.. والآن نسمع عن اسم معتصم بعد كثرة الاعتصامات.. وبالتأكيد سنسمع أسماء: رابعة.. وشرعية.. ونهضة.. وربما نسمع أسماء: سبوبة. ونحتاية. ولقمة.. لبنات كثيرات.. وقيل إن المصور الشخصي للرئيس الراحل جمال عبدالناصر وهو "فاروق فؤاد" أنجب ولداً فسأله عبدالناصر: "سميت الولد إيه يا فاروق؟!.. فقال: سميته جمال يا ريس.. فقال عبدالناصر: هو أنت منافق زي أبوك؟!!".