لم أصدق أن هذا الرجل الذي دخل علينا غرفة مأمور السجن.. بهذه الحالة.. مرتدياً "البدلة الحمراء".. سيدخل بعد لحظات غرفة الإعدام وتعانق رقبته حبل المشنقة. الرجل متماسك.. يتحدث بصوت جهوري للصحفيين الذين جاءوا "لتغطية" هذا الحدث.. بدا وكأن الذي سيموت بعد دقائق شخص آخر غيره.. حتي أنه عندما سأله أحد الصحفيين سؤالاً "مستفزاً" رد عليه بقوة: "خليهم يفكو قيودي وأنا أكل منك عشرة". نحن الآن في سجن استئناف القاهرة.. الساعة تقترب من السادسة صباحاً.. يوم من أيام الصيف في النصف الأول من عقد التسعينيات من القرن الماضي.. عدد غير قليل من الصحفيين و"كاميرا التليفزيون الرسمي" جاءوا لتغطية مراسم تنفيذ حكم الإعدام شنقاً في أحد المتهمين في قضية "مخدرات".. أرادت وزارة الداخلية وقتها أن تبعث برسالة لتجار المخدرات وكل خارج عن القانون.. فرأت أن تنقل بالصوت والصورة والكلمة "لحظة بلحظة" تنفيذ حكم الإعدام شنقاً.. عل وعسي أن يكون ذلك "رادعاً". طوال المسافة من المنزل إلي سجن الاستئناف لم تغب عن عيني.. الصورة المفترضة أو المتوقعة "للرجل" الذي يعلم تماماً أنه سيتم إعدامه "الآن".. توقعت وتخيلت وتصورت أنني سأشاهد بالطبع "مشروع ميت" لكن سرعان ما انهارت كل هذه التوقعات والتخيلات والتصورات عندما دخل علينا "الرجل". فارع الطول.. قوي البنيان.. علي مشارف الخمسين من عمره.. يتحدث بصوت جهوري.. أقسم أنه برئ من تجارة المخدرات وأن القضية تم تلفيقها له.. ظل يتحدث بهذه الثقة والقوة حتي وصل الحديث إلي "المحطة الفاصلة". كان الصحفيون.. ومراسلة التليفزيون المصري يلقون بأسئلتهم المتتابعة علي "الرجل" وكان الرجل يجيب.. لكن كل من كان داخل مكتب مأمور السجن لاحظ أن "الرجل" كأنه تحول إلي رجل آخر عندما سأله أحدهم سؤالاً عن ابنته الصغيرة.. هنا خارت قوي "المارد".. ولمعت عيناه.. وتعطلت مخارج الكلام.. ودخل الرجل في نوبة هدوء مفاجئ.. هنا طلب مأمور السجن من الصحفيين التوقف عن الأسئلة وصمت الجميع.. وانتقل الرجل إلي غرفة صغيرة ملاصقة لمكتب مأمور السجن انتظاراً لتنفيذ الحكم. وجدت نفسي مندفعاً خلف الرجل جلست بجواره سألته.. هل تريد أن تقول شيئاً ما.. وكان ناظراً إلي الأرض فرفع رأسه وقال لي "اقرأ لي الفاتحة" ثم عاد ناظراً إلي الأرض مرة أخري.. خرجت من الغرفة لترتطم عيناي بشخص آخر يقف علي بعد أمتار قليلة.. يقف شامخاً مرتدياً البدلة السوداء.. إنه "عشماوي" منفذ أحكام الإعدام.. وكان في ذلك الوقت يتولي هذه المهمة "حلمي سلطان" وهو واحد من أبرز الذين تولوا هذا "المنصب".. كان يفخر بوظيفته وكانت له كلمة مشهورة "أنا رسول الشعب"!! أمام غرفة الإعدام وقف "المحكوم عليه" بين عشماوي ومساعده.. وبدأت لجنة من النيابة العامة وسجن الاستئناف وبها أحد الوعاظ في مراسم التنفيذ.. تلي مأمور السجن منطوق حكم المحكمة والذي تضمن تفاصيل الاتهامات كاملة.. ثم تقدم الواعظ ليلقن الرجل الشهادتين.. ثم دخل برفقة عشماوي ومساعده إلي منصة التنفيذ.!!