شريان خالد يحمل أسباب الحياة، عهدناه كريما جميلا ، منطلقا رقراقا منذ آلاف السنين، يسرع إلينا متلهفا ، حاملا الخير الكثير، ولا تهدأ نفسه حتى يصل إلى أرض الكنانة .. هو أكبر خازن لأسرار المصريين وأكبر شاهد على حياتهم على مر العصور ، يفرح لفرحهم ويأسى لحزنهم ... وبعد كل هذا يريدون أن يحيلوا بيننا وبينه!! سرتُ إليه بخطى متثاقلة وكأني ذاهب لمواساة عزيز، فلما اقتربت منه وجدته حزينا مكتئبا على غير العادة. قلت: ما بك يا نيل.. فرد متهكما متعجبا : ألا تعلم ما بي وقد تسببتم فيما أعانيه الآن.. تظاهرت بالجهل قائلا له : ماذا تعني؟ وهنا بدت عليه بوادر الضيق والغضب وأخذ يهدر ويزبد، قبل أن ينخرط في حديث ذي شجون: كنت لكم دائما نعم الصديق، أقطع آلاف الأميال كي أحمل إليكم الخير، وكنتم تقدرونني وتهتمون بأمري حتى أصل إلى أراضيكم.. كما كنتم تحتفون بي ، وتجعلون لي من أعيادكم نصيبا (عيد وفاء النيل) وتهدونني أجمل فتياتكم، بل وأعذب قصائدكم وأغانيكم وألحانكم .. (انظروا ماذا قال شوقي في قصيدته عن النيل والتي شدت بها أم كلثوم: ومن السماءِ نزَلتَ أَم فُجِّرتَ من علْيا الجِنان ِ جَداوِلاً تتَرَقْرَقُ وبأَىِّ لَوْن أَنتَ ناسجُ بُرْدَةٍ للضفَّتيْن, جَديدُها لا يَخْلَُقُ والماءُ تَسْكُبُهُ فيُسْبَكُ عَسْجَدًا والأَرضُ تُغْرقها فيحيا المُغْرَقُ (ثم تهادى إلى أسماعنا صوت حليم العذب وهو يغني "يا تبر سايل بين شطين.. يا حلو يا اسمر" ) هنالك تنهد النيل العظيم تنهيدة عميقة وكأنها صادرة من قلب مجروح، وصمت برهة، وبدا وكأنه يشعر بحنين جارف تجاه ماض جميل .. ثم انتبه إلى وجودي فرمقني بنظرة ساخرة وقال: كان هذا عهدي بأسلافكم حتى ظهرت أجيالكم التي ابتُليت بها فأهملتموني ولوثتم مياهي بأقذر مخلفاتكم، وسلبتموني حيويتي وبهائي، ولم تكتفوا بذلك فتركتموني عرضة للمؤامرات، ومرتعا خصبا لمساومات ومزايدات الآخرين، وبتٌ مهددا بالاعتقال في أراض لا أحبها ، وصرتم أنتم مهددون بالعطش والرضوخ لضغوط الضعيف والقوي، بعد أن اكتفيتم بالتشدق ب"الحقوق التاريخية".. قلت له على استحياء : حنانيك أيها النيل العظيم .. لا ننكر بأننا قصرنا في حقك وأسأنا معاملتك، لكننا بحق نحمد لك هذا الفضل وندين لك باعتذار كبير . وعهدنا لك ألا نتركك لغيرنا ، ولو اضطررنا للقتال سنقاتل، ليس فقط من أجل مائك - الذي لا يروي ظمأنا غيرُه - ولكن أيضا من أجل عِشرة غالية دامت قرونا، وارتباط وثيق لا ينفك.. فلمن نحكي أسرارنا ؟ وهل هناك غيرك يؤتمن عليها؟ ومن غيرك سيكون شاهدا على قصص الحب الجميلة الخالدة التي تزخر أعماقك بالملايين منها؟ أنت يا نيل هبة مصر ومصر هبتك. واعلم أن 80 مليون مصري مستعدون للذهاب إلى منابعك والتضحية بأرواحهم لفك أسرك، وساعتها سنزفك إلى أرضنا الطيبة في موكب مهيب لم تشهد الدنيا مثله.. بعدها لم أتمالك نفسي فأجهشت بالبكاء ، وهممت أن أنصرف، فأبصرت دموعا تتلألأ في عينيه هو الآخر عكستها شمس الأصيل التي رسمت لوحة ذهبية أخاذة على صفحة النهر الخالد،، ووجدته يردد: آلآن يا مصري؟ آلآن يا مصري؟!