"الجرافيتى".. فن ثائر ذاع صيته وانتشر بصورة كبيرة فى أثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير وما تلاها من فعاليات ثورية، وأصبح أحد أبرز الرموز التى وثقت لأحداث ويوميات الثورة، ورسخت لملحمة صمود شعبها على جدران الشوارع والميادين.. هذا النوع من الفن التعبيرى يحوله الانقلابيون اليوم إلى جريمة يُعتقل على آثارها العشرات وأصبحت الرسوم التى تَغنت الحركات الثورية بها وبجمالها ووطنيتها خطرا يهدد الأمن القومى وأشياء تشوه المنظر العام. وقامت ميليشيات الانقلاب باعتقال 3 شباب لا يتجاوز عمرهم 17 عاما بتهمة رسم جرافيتى ضد العسكر فى مدينة المحلة الكبرى بمحافظة الغربية منذ عدة أيام، كما قامت باعتقال 8 آخرين فى سبتمبر الماضى من شباب ألترس أهلاوى بنفس التهمة، ولا تزال ميليشيات الانقلاب الدموى تلاحق كل من يحاول الرسم على الجدران ضد الانقلاب وحكم العسكر وكان آخرهم أحد الشباب بمدينة الفيوم، كما قرر وزير التنمية المحلية بحكومة الانقلابيين فرض عقوبات مالية مغلظة على كل من يرسم على الجدران وقد تصل إلى حد الحبس. وفى ظل كل هذه الاعتقالات والملاحقات الأمنية والعقوبات المغلظة لم نجد صوتاً يعلو للنخبة التى طالما تباكت من قبل على مجرد إزالة بعض الرسوم من جدران شارع محمد محمود فى عهد الرئيس الشرعى الدكتور محمد مرسى واعتبرتها وقتها جريمة فى حق الوطن وأنه انقضاض على مكتسبات ثورة يناير ومحاولة لفرض سياسية الصوت الواحد، على الرغم من خروج تصريحات رسمية من رئاسة الجمهورية فى ذلك الوقت تنفى إصدارها لأى أوامر أو قرارات سواء برئاسة الجمهورية أو الحكومة أو وزارة الداخلية أو محافظة القاهرة بإزالة هذه الرسوم، وان الواقعة فردية من أحد عمال الجهات المسئولة عن تنظيف وإزالة الإشغالات، كما أمر الرئيس محمد مرسى بفتح التحقيق فى واقعة إزالة رسوم الجرافيتى بشارع محمد محمود. لم يقتصر الأمر عند حدود النخبة فقط بل أصدرت جبهة الإبداع المصرى بيانا عقب إزالة هذه الرسوم طالبت فيه كل فنانى الجرافيتى فى مصر بالوقوف ضد جريمة إزالة رسوم الجرافيتى من شارع محمد محمود، وأن يعيدوا الجرافيتى للحياة مرة أخرى. وقال البيان، الذى أصدرته الجبهة حينها: "يجب أن نقف ضد كل حدث طمسته يد الاستبداد أو عقول القهر، وهذا هو دور المبدعين فى حماية الثورة، وعلى كل مبدعى مصر لأن يساندوا فنانى الجرافيتى بكل دعم ممكن، وبالوجود معهم فى أثناء قيامهم بالرسم"، وأكدت "أنها تعتبر إزالة الرسوم جريمة فى حق كل صاحب حق فى هذه الثورة، بدءا من شهدائها الأبرار مرورا بجرحاها ووصولا لكل من غضب من أجل مستقبل مصر وحرية الإنسان فيها، وهى المعالم التى حاول الجرافيتى المصرى أن يجسدها، وأن يحميها من الاندثار، لتبقى الجريمة حية والمجرم ملاحق والعدالة يقظة". ورغم الممارسات القمعية للانقلاب الدموى لم نجد لجبهة الإبداع المصرى أى دور ولم يصدر عنها أى بيانات تدين اعتقال الفنانين من رسّامى الجرافيتى المناهض للانقلاب العسكرى فقد تحولت دعوتها إلى دعم فنانى الجرافيتى ومسانداتهم إلى صمت لا يعبر سوى عن الرضا والقبول بما يلقونه من اعتقال وملاحقات أمنية ما دام أن الثائرين يغردون خارج سربهم الموالى للانقلاب والمؤيد له. أما المنظمات الحقوقية التى صدعتنا بحقوق الإنسان والحق فى الإبداع فى أثناء حكم الرئيس مرسي، لا نرى لها دورا يُذكر فى هذا الإطار على الرغم من أن عددا كبيرا من هذه المنظمات الحقوقية كان قبل انقلاب 30 يونيو عام 2013 قد أعلن عن مبادرة تحت عنوان "التعذيب جريمة لا تبرر" وأعلنوا لأول مرة عن استخدام "فن الجرافيتي" فى مناهضة الظاهرة من خلال تضمين رسوم الجرافيتى رسائل موجهة لضباط الشرطة ولضحايا التعذيب وللمنظمات الحقوقية العاملة فى مجال مناهضة التعذيب. وبدأت الحملة بعدد 4 رسومات جرافيتى الأولى بكورنيش النيل على بعد 700 متر من سجن طره والثانية بشارع صلاح سالم بطريق المطار على بعد2 كيلو من معسكر الأمن المركزى بالدراسة والثالثة فى محافظة بنى سويف وكان الجرافيتى الرابع فى محيط ميدان التحرير بشارع مجلس الأمناء، وكان من المقرر أن تقوم هذه المنظمات الحقوقية بزيادة عدد رسوم الجرافيتى المنددة بالتعذيب فى كافة أنحاء الجمهورية ولكنها لم تتمكن من ذلك بعد انقلاب يونيو والذى شهدت فيه البلاد أعتى موجة من التعذيب والممارسات القمعية لجهاز الشرطة ضد أبناء الشعب المصرى السلميين الذين خرجوا ليقولوا لا فى وجه الانقلاب على الشرعية. خطط إرهابية من جانبهم برر الانقلابيون ممارساتهم الوحشية وغير الإنسانية ضد فنانى الجرافيتى، فزعموا أن هذه الرسوم لم تعد مجرد رسوم تعبيريه ثائرة وإنما أصبحت خطط إرهابية لها شفرات لا يفهمها إلا الإرهابيون المسلحون، فمن ذلك على سبيل المثال القول بأنهم اعتمدوا فى كشف غموض حادث اغتيال وزير داخلية الانقلاب محمد إبراهيم، من خلال تحليل أحد رسوم الجرافيتى التى رسمت فى شارع التحرير بالقرب من وزارة الداخلية والتى كانت عبارة عن صورة عساكر الشطرنج يتوسطهم وزير، مؤكدين أن الوزير المستهدف هو محمد إبراهيم، وهو الرسم الذى تداوله عدد من المواقع الساخرة فيما بعد لسخرية من محاولات الانقلاب تسطيح عقول المواطنين. توثيق لجرائم العسكر أكد أحد فنانى الجرافيتى والذى رفض ذكر اسمه واكتفى فقط باسم الشهرة "فنَّان الثورة" أن ما يُمارس ضد فنان الجرافيتى اليوم من اعتقالات جماعية وملاحقات أمنية هو ترجمة صريحة للواقع الاستبدادى الذى نعيش فيه فى ظل حكم العسكر والذى لا يقبل بمجرد رسوم تعبيرية احتجاجية رافضة له ويعتبرها أنها خطر على الأمن القومى، ويصفها بأنها أعمال تحريضية وإرهابية ضد الجيش والشرطة بهدف تبرير ممارسته القمعية ضد الرسامين وضد كل ألوان الفنون المناهضة للانقلاب. وأبدى الرسام تعجبه من موقف العسكر والداخلية والذين التزموا الصمت فى عهد الدكتور محمد مرسى الرئيس الشرعي، عندما كانت تُكتب العبارات التحريضية والألفاظ الخادشة للحياء على جدران الميادين وداخل محطات المترو والتى نالت من رئيس الجمهورية نفسه دون أن تحرك ساكنا ولم تتخذ أى موقف عقابى ضد مرتكبى هذه السلوكيات التى تمثل جرائم صريحة تستوجب العقاب. وتساءل "فنَّان الثورة": أين النخبة وثوار يناير الذين اعتبروا رسوم الجرافيتى أحد مكتسبات ثورة يناير؟ أين هم من الاعتقالات والملاحقات الأمنية وتشويه السمعة التى يتعرض لها فنانو الجرافيتى اليوم؟، وهم الذين ثاروا من قبل وانتفضوا لمجرد وجود إشاعة بإزالة بعض الرسومات فى شارع محمد محمود فى عهد الدكتور مرسى وقاموا بتوظيف الأمر سياسياً واعتبروه نوع من القهر والاستبداد ومحاولة من النظام للانقضاض على مكتسبات ثورة يناير. مؤكداً أن صمت هذه النخبة وكل المدافعين عن حرية التعبير قد كشف عن الأقنعة وعن وجوههم القبيحة التى حاولوا إخفاءها تحت شعارات مزيفة لا يؤمنون بها بقدر ما يتاجرون بها. وأضاف أنه بالرغم من الاعتقالات التى يتعرض لها فنانو الجرافيتى بعد الانقلاب العسكرى الدموى إلا أنهم مصرون على أن يملئوا الشوارع والميادين بكل الرسومات الفاضحة لممارسات العسكر والرافضة لحكمهم، مشددا على أنه لن تهدأ رسوماتهم الثائرة إلا بإسقاط الانقلاب العسكرى واسترداد ثورة يناير بكل مكتسباتها ومحاسبة كل من أهانوا المصريين وحاولوا سلب إرادتهم لافتاً إلى أن رسوم الجرافيتى ليست مجرد رسوم فقط وإنما هى توثيق لكل جرائم العسكر التى ارتكبوها والتى سيأتى اليوم الذى سيحاسبون فيه على كل هذه الجرائم. تهم مطاطة من جانبه أكد الدكتور محمد عبد الله -الخبير القانونى والناشط الحقوقى- أن القانون لا يجرم رسوم الجرافيتى وغيره من وسائل التعبير السلمى التى لا تنطوى على أى لون من ألوان الإساءة، مشيرا إلى أن اعتقال عدد من رسامى الجرافيتى تحت دعوة أنهم يمارسون أعمال تحريضية ضد الجيش والشرطة، هى تهم مطاطة وغير واضحة ومسيسة فى المقام الأول، خاصة وأن الرسوم وبعض ألوان الفنون يحتمل تفسيرها تأويلات متعددة، فالرسوم التى يعتبرها البعض إساءة قد لا يرى فيها البعض الآخر ذلك. وأوضح أنه فى العام المنصرم كانت تكتب العبارات البذيئة بشكل واضح وصريح والتى تمثل قضايا سب وقذف علنية بموجب القانون، وعلى الرغم من ذلك لم نجد إجراءات قانونية اتخذت ضد مرتكبيها كما هو الحال اليوم بعد انقلاب 3 يوليو.