يرى مراقبون متابعون للشأن السوري أن اختيار نظام بشار الأسد لتوقيت ضرب منطقة الغوطة بريف دمشق (جنوب سوريا) بالأسلحة الكيماوية والغازات السامة تم بحرفية عالية أو "بطريقة "جهنمية" كونه أدى إلى مذبحة بشرية حقيقية. فانشغال العالم حالياً بتطورات أزمة أقليمية أخرى في المنطقة، وهي الأزمة المصرية منذ 30 يونيو/ حزيران الماضي، صرف الأنظار بشكل كبير عن الأحداث في سوريا، قد تكون إحدى الرخص التي منحها النظام السوري لنفسه للقيام بمجزرته التي سقط ضحيتها آلاف القتلى والجرحى من المدنيين، حيث احتلت تداعيات الأزمة المصرية خلال الشهرين الماضيين عناوين نشرات الأخبار ومانشيتات الصحف العربية والعالمية فيما تأخرت أخبار جرائم النظام السوري بحق الشعب إلى ذيل تلك النشرات والصفحات الداخلية للصحف، وهو ما كان بمثابة الفرصة الذهبية أمام قوات الأسد لارتكاب مجزرتها الكبرى يوم أمس في محاولة منها لإحراز تقدم عسكري على الأرض في مناطق استعصى عليها دخولها منذ أشهر. وأعلن "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" في بيان أصدره، يوم أمس، مقتل 1100 شخص على الأقل إثر قصف بالأسلحة الكيماوية من قوات النظام السوري على مناطق بدمشق والغوطتين الشرقيةوالغربية بريفها. ويشن النظام السوري منذ أشهر حملة واسعة على الغوطتين الغربيةوالشرقية بريف دمشق التي تضم عدداً من المدن والبلدات التي يسيطر عليها الجيش الحر ولم تفلح جميع محاولات قوات النظام واستخدامه الأسلحة الثقيلة مثل صواريخ أرض أرض والطيران الحربي في تمكينه من استعادتها أو اقتحامها. كما أن اختيار اليوم بالتحديد يشير إلى علامات استفهام كثيرة، ففي نفس اليوم الذي قرر فيه القضاء المصري إخلاء سبيل الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، وما أثاره هذا القرار من ردود أفعال في الداخل المصري وخارجه، قرر النظام السوري استخدام الكيماوي في تلك المنطقة الواسعة الملاصقة للعاصمة وأوقع آلاف القتلى والجرحى، وبهذا تمكن من التغطية -ولو إعلامياً- على حجم المجزرة التي ارتكبها. وقررت محكمة مصرية، بعد ظهر أمس الأربعاء، إخلاء سبيل الرئيس الأسبق حسني مبارك، في قضية الفساد المالي المعروفة باسم "قضية هدايا الأهرام"، وهي آخر القضايا المحبوس على ذمتها احتياطيا. وفي الشأن المصري أيضاً يرى مراقبون أن خلع الرئيس محمد مرسي واعتقال قيادات جماعة الإخوان المسلمين الذين كانت لهم مواقف متقدمة في دعم الثورة السورية خلال الفترة الماضية وصلت إلى قطع العلاقات وطرد السفير السوري من القاهرة يونيو الماضي، كل ذلك أفقد الثورة في سوريا داعماً كبيراً خاصة أن لمصر دور إقليمي ودولي كبير، ولطالما أثارت مواقف مرسي الداعمة للثورة السورية استهجان النظام الذي حارب بضراوة ما أسماه "الإسلام السياسي في مصر"، عبر تصريحات مسئوليه وعلى رأسهم بشار الأسد، وظهرت حالة التشفي واضحة لدى النظام السوري منذ اليوم الأول للاحتجاجات التي اندلعت ضد حكم محمد مرسي الذي ينتمي إليها. ويرى محللون أن النظام السوري اتبع المثل الشعبي الذي يقول "الحرامي يخبّئ مسروقاته فوق المخفر"، وذلك لإبعاد الشبهة عنه كونه يخفيها في مكان غير متوقع، فالنظام اختار استخدام الكيماوي رغم وجود اللجنة الأممية المكلفة بالتحقيق في استخدام الأسلحة الكيماوية في دمشق بعد المماطلة في استقبالها لأشهر. ويثير ذلك تساؤلات عديدة حول ما إذا كان النظام خطط لتلك العملية بشكل مسبق ليقوم بها بالتزامن مع وصول اللجنة الأممية إلى دمشق، وهل استثمر هذا الوصول ليتهم كعادته "العصابات الإرهابية المسلحة" باستخدام الأسلحة الكيماوية، بمبررات ساقها بوسائل إعلامه بأن تلك العصابات استثمرت وجود اللجنة في دمشق لإلصاق التهمة بالنظام بارتكاب تلك المجزرة، مستنداً في تحليلات مسئوليه في وسائل الإعلام الزاعمة بأن النظام كان أمامه الوقت مفتوحاً لاستخدام الكيماوي لمدة 28 شهراً من عمر الثورة السورية التي انطلقت في مارس 2011. وفي مارس الماضي، عين الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، عالما سويديا لقيادة فريق للتحقيق في الاستخدام المزعوم للأسلحة الكيميائية في الأزمة السورية، وأكد وقتها أن التحقيق سيكون فنياً وليس جنائياً ويبدأ من منطقة خان العسل بحلب (شمال)، إلا أن النظام السوري ماطل في استقبال اللجنة حتى يوم الأحد حيث بدأت زيارتها الأولى لدمشق. وفيما نفت خارجية النظام "الادعاءات" باستخدام القوات المسلحة في سورية غازات سامة بريف دمشق معتبرة إياها "ادعاءات كاذبة ومحاولة لصرف أنظار لجنة التحقيق الدولية عن إنجاز مهمتها والتشويش عليها"، اعتبر وزير إعلام النظام عمران الزعبي في اتصال مع التلفزيون السوري الرسمي يوم أمس أن الحملة الإعلامية التي تشنها عدد من القنوات الفضائية ادعت فيها استخدام سلاح كيميائي صباح "لم يقع ولم يحدث إطلاقا في أي منطقة في سورية"، مؤكداً على أن ما أدرجته القنوات الإعلامية بهذا الخصوص "غير منطقي وعارٍ من الصحة ومفبرك جملة وتفصيلاً"، على حد قوله.. ولعل موقف مجلس الأمن الضعيف والمتوقع كان محبطاً للغاية حيث اكتفى في ختام جلسته الطارئة التي عقدت بناء على طلب السعودية وعدد من الدول الأعضاء بعبارات القلق ورفض استخدام أي من الأطراف في سوريا للأسلحة الكيميائية، وذلك حسبما ورد على لسان الأرجنتينية "كريستينا بيركيفال"، رئيس الدورة الحالية لمجلس الأمن في حديثها للصحفيين في ختام الجلسة. كل تلك السياقات تنذر باحتمالات تكرار استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي مجددا، بعد أن رأى أن الموقف الدولي ضعيف للغاية وساوى بين الجاني والضحية، وقد يعتبر ذلك ضوءاً أخضر لارتكاب مجازر جديدة مشابهة لما قام به في الغوطة بريف دمشق يوم أمس، كما أن ذلك يأتي محبطاً لمعارضيه ورؤيتهم لانتصار الثورة بعد أن تيقنوا من تباطؤ أو ربما تواطؤ المجتمع الدولي معه في أكثر من مناسبة.