تجمع الحركات الإسلامية سواء المنتمين إليها أو المحيطين بها -أو من ينظر لها فكريًا من خارجها- العديد من الكوادر من الفلاسفة والمفكرين والدعاة والمربين. فالفلاسفة يحددون الوجهة، والمفكرون يحددون الأولويات، والدعاة يواجهون الجموع، والمربون يقدمون النموذج. وقد يكون الشخص الواحد فيلسوفًا أو مفكرًا أو داعية أو مربيًا، ونادرًا ما يجمع بين هذه الوظائف جميعًا أو يبرع فى اثنتين أو أكثر منها. وعندما يعرف الإنسان مكانه من هذه الوظائف الأربع يمكن أن يقدم أداءً أفضل لمستقبل الحركة الإسلامية الحديثة. أما حينما لا يتمكن من معرفة ذاته وقدراته ويتصور أنه يجيد كل شىء فإنه غالبًا ما يأخذ قرارات أو يتخذ مواقف تؤدى إلى عكس أهدافه المعلنة. والسبب الرئيس فى ذلك أنه لم يتمكن بعد من تقييم أدائه وإمكاناته، أو لا يسأل غيره عن توظيفه، أو لا يشاور من يمكنهم أن يقدموا له نصيحة صادقة فى هذا الأمر. لا شك أن الحركة الإسلامية تحتاج كل هؤلاء؛ فقد اتسع الخرق على الراقع، ولكن الوقت أصبح محدودًا والكفاءات المميزة أمست مثقلة، ولذلك وجب التخصيص والتوظيف. وقد يتقن الإنسان جزءًا كبيرًا من هذه الوظائف الأربع ولكن يغلب عليه أحدها وتبقى الثلاث الأخرى معينة لوظيفته الأساسية التى وكل بها. والواجب أن يكون كل مسلم مربيًا؛ فهو يقوم بتربية نفسه وأولاده وجيرانه، وهو ما يسمى بالتزكية. فإذا ذكرت المربين فإنما أقصد بها عموم المكلفين. رأيت بعض الدعاة يتخذون مواقف فيها مضيعة للوقت؛ وذلك لأنهم لا يسألون المفكرين ولا يستحضرون رؤية الفلاسفة. ورأيت فلاسفة يعيشون فى وهم المثالية لأنهم لا يستمعون من الدعاة ما يحتاج إليه المجتمع ويعانى منه. ورأيت مربين يركزون على أمور فرعية لا يحتاجها المجتمع لأنهم لم يتابعوا آراء المفكرين واجتهاداتهم وتجارب الدعاة وجهودهم. إن هذه الوصلات الثلاث بين هذه العناصر الأربعة ينبغى أن تكون على أعلى مستوى ودون تباطؤ أو تبرير. وإذا سأل سائل: فأين الفقهاء والعلماء؟ أقول: إن العلم والفقه وسيلة للعمل وهم يقدمون إلى الناس الرسالة بما يناسب إمكاناتهم، ولذا فإن العلماء يتبوءون حسب شخصيتهم مكانًا فى أى من هذه المواقع الأربعة. أما السياسيون فإن معظمهم يقومون بدور الدعاة عندما يقدمون فكرتهم للناس، وهم أيضًا مفكرون عندما يعرضون دعوتهم وفكرتهم على الآخرين. وإذا أردت أن تعرف ما النسبة التى نحتاجها الآن لكل هذه الوظائف فإن اجتهادى أننا نحتاج فليسوفًا واحدًا لكل مائة مفكر، ومفكرًا لكل مائة داعية، بينما نحتاج مائة مربٍّ لكل داعية. إن هذه الخريطة المقترحة تعنى أن لكل جماعة بشرية من مائة مليون شخص فإنها تحتاج فيلسوفًا إلى خمسة فلاسفة فقط و100-500 مفكر و10.000-50.000 داعية ومن مليون إلى 5 ملايين مربيًا. الفيلسوف مشغول بالتناقضات وحلها، والمفكر مشغول بالمخارج وأولوياتها، والداعية مشغول بتعليم المكلفين والإجابة عن أسئلتهم، والمربى مشغول بالتطبيق والرعاية. لا يوجد صنف من هذه الأصناف الأربعة أفضل من الثلاثة الأخرى وإن ظن الناس أن الفلاسفة أعلى شأنًا من غيرهم، فربما يكون مسلمًا بسيطًا يربى أبناءه ويزكى نفسه أعظم عند الله من فليسوف كبير أو مفكر عميق أو داعية مفوه. وقد ابتلينا بأن العديد من الناس يريدون أن يمارسوا دورا غير الدور الذى أوقفهم الله عنده دون إعداد أو ترتيب. ولذلك كثر الآن مدعو الفلسفة والفكر، وظن العديد من الناس أنهم دعاة، بينما هم لما يتجاوزوا دور المربين المبتدئين. وللوقوف على ذلك فإن هناك عنصرين أساسيين للتوظيف، وهما أولًا: الميل الشخصى والاستعداد الفطرى، وثانيًا: الجهد البشرى والتحصيل، وبغيرهما يكون انتقال الإنسان من وظيفة لأخرى ادعاء ومضيعة للوقت. ولا يمنع أن يكون فى الإنسان بعض من كل شىء، ولكنه يحتاج أن يعرف فى أى منهم يتميز وينفع، حتى لا يتحول فى كل وقت من وظيفة إلى أخرى دون أن يحسنها ودون مبرر أو داع. أما من يمكنهم أن يقدموا النصائح من أجل توظيف الآخرين فى هذه الوظائف الأربع فيفضل أن يكونوا من المتقنين من المفكرين الذين احتكوا بالفلاسفة ومارسوا الدعوة واجتهدوا فى التربية. ولكى نعد المربين فإننا نحتاج إلى برامج التزكية، ولكى نعد الدعاة فإننا نحتاج تعلم أصول العلم وفهم طبيعة المتلقين، ولكى نعد المفكرين فإننا نحتاج سعة الأفق وتنوع الإطلاع، ولكى نعد الفلاسفة فإننا نحتاج إطالة الفكر واستبانة التناقضات التطبيقية والتاريخية. وليس كل الدعاة أو الفلاسفة أو المفكرين أو المربين فى الحركة الإسلامية الحديثة على مستوى واحد . وربما يتقن الإنسان أكثر من وظيفة من هذه الأربع، ولكنه يغلب واحد منها أو أكثر حسب احتياج الأمة أو الظروف المحيطة أو الميل الشخصى. فالعقاد مثلًا فيلسوف، وإقبال فيلسوف، والأفغانى فيلسوف ومفكر، ومحمد عبده مفكر ثم فيلسوف، ورشيد رضا داعية ثم مفكر، ومحمد الغزالى مفكر ولكنه داعية يندر أن تسمع أو تقرأ لمثله، والقرضاوى داعية فى طبيعته ولكنه مفكر فى رسالته، وعمارة مفكر يمارس الدعوة، وهويدى مفكر. وما نحتاج إليه الآن هو تداخل هذه الوظائف وأفرادها وإحسان استخدامها. وأتصور أن بعض الذين أتقنوا الوظائف الأربع هم نادرون فى التاريخ الحديث، وربما قدموا أحدها على الأخرى لاحتياج الأمة، وأحسب أن حسن البنا هو أحد هؤلاء والله أعلم. والخلاصة أن كل فرد ينبغى أن يعرف مكانه فى هذه الخدمة التى يقدمها للأمة وأن يراجع ما يقوم به من خلال علاقته المباشرة وغير المباشرة بالأدوار الثلاثة الأخرى. إنها مهمة تجعل الإنسان يترك ما يحب من الأدوار أحيانًا ليقوم بما تحتاجه الأمة منه، وتجعله يراجع مواقفه وخططه مع الآخرين قبل أن ينطلق. وفى النهاية فهذه مهام تكليف لا تشريف، وخدمة وليست سمعة تتقدم بها للأمة، لعل الله يستعملنا بما تظهر من أدب ويقبلنا بما نضمر من إخلاص.