قبل عشرة قرون، درات معركة حامية بين معسكر "تهافت الفلاسفة" التكفيري ومعسكر "تهافت التهافت" المنتصر للعقل، فالأول الفه أبو حامد محمد بن محمد الغزالي في القرن الحادي عشر الميلادي، ليهاجم فيه آراء الفلاسفة و معتقداتهم، وواجه الفلاسفة آراءه بعد ذلك بالنقد و التمحيص، خاصة أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الذي ألف كتابه "تهافت التهافت"، للرد على الغزالي، وذلك في القرن الثاني عشر الميلادي. لقد خرج ابن رشد بعد عشرات السنوات من وفاة الغزالي؛ ليقود حملة كسر الموروث وانقاذ أرسطو وأفلاطون وسقراط وغيرهم ممن ترجموا ثم طوّروا، من سيف ال "بدعة" الذي رفعه الغزالي على رقابهم. وقبل أن تكون عزيزى القارىء موقفك ضد أو مع احد الطرفين، تعرف أولا على كل منهما وبراهينه في إثبات أفكاره والاسباب التى دفعت كليهما لكتابة هذه الكتب ثم اختر الحكم الذى تريده. نجح أن الغزالى كتب "تهافت الفلاسفة" ليهاجم فيه الفلاسفة اليونانيين ومن اتبعهم من فلاسفة المسلمين خاصة ابن سينا والفارابي. ويقول الغزالي في كتابه: (ما دفعنى إلى تأليف هذا الكتاب أننى رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء وقد رفضوا وظائف الإسلام واستحقروا شعائر الدين واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده بفنون من الظنون يتبعون فيها رهطا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ولا مستند لضلالهم إلا تقليد سماعى وأن مصدر ضلالهم سماعهم أسماء هائلة كسقراط وأفلاطون وأرسطو وأمثالهم فلما رأيت هذا العرق من الحماقة انتدبت لتحرير هذا الكتاب". بينما أشار ابن رشد فى مقدمه كتابه "تهافت التهافت" إلى أنه ما كان لكتاب تهافت الفلاسفة من آثار على أذهان الناس فقد جعلهم ينقسمون فريقين فريق يهاجم الفلسفة والفلاسفة وفريق آخر لا يهاجم الفلسفة والفلاسفة. لذا كان الغرض من هذا القول أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب تهافت الفلاسفة لأبي حامد في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن رتبه اليقين والبرهان، أما عن هذه الأقاويل المثبتة كما عرفها أرسطو قال بها ابن رشد: من زاوية الصدق واليقين هي: الأقاويل البرهانية، الأقاويل الجدلية، الأقاويل السفسطائية، الأقاويل الخطابية وأخيرًا الأقاويل الشعرية. أما عن المسائل التى كانت محل خلاف بين أبي حامد الغزالي والفلاسفة وانتقاد ابن رشد لها، نجد أن الغزالي خالف الفلاسفة في عشرين مسألة تدور ستة عشر منها حول الإلهيات التي تبحث في الغيبيات مثل قدم العالم وحدوثه- مسألة الخلود- ذات الله وصفاته ونفي الشريك عنه – الصانع أم الدهر- العلم بالجزئيات والكليات والأربع مسائل الأخرى تدور حول الطبيعيات مثل جوهرية النفس واستقلالها عن البدن ومسألة خلودها -حشر الأجساد. وحكم الغزالي على الفلاسفة بالكفر في ثلاث مسائل وهى قولهم؛ بقِدم العالم" قضية القدم والحدوث"، أن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات وبإنكار حشر الأجساد في الآخرة اكتفاء ببعث الأرواح فقط. ويرى الغزالي أن هذة المسائل الثلاث لا تلائم الإسلام مطلقا ومن يعتقد في هذة الآراء فإنه يعد مكذبًا للأنبياء ويكون بذلك خارجًا عن العقيدة الإسلامية. وحكم بالبدعة في السبع عشرة مسألة الأخرى وهي: أبدية العالم و أزليته، صانع العالم، في الاستدلال على وجود صانع للعالم، أن الله واحد ونفي الكثرة في ذاته، الصفات هل هي عين الذات أم غيرها، في الوحدانية، الوجود والماهية في الذات الإلهية، التنزيه والتجسيم، الصانع أم الدهر، العلم بالكليات (أي أن الأول يعلم غيره و الأنواع والأجناس بنوع كلي)، هل يعقل الأول ذاته ، طاعة السماء (إقامة الدليل على أن السماء حيوان مطيع لله تعالى بحركته الدورية)، الغرض المحرك للسماء،اللوح المحفوظ ونفوس السماوات (وهي الملائكة المطلعة على جميع الجزئيات الحادثة في هذا العالم )، السببية أم العادة، روحانية النفس ومسألة الخلودواخيرا مسألة فناء النفوس البشرية. وسنبدأ باستعراض اولى المسائل الثلاث محل التكفير من قبل الغزالى ونقد ابن رشد لها وهى مسألة: قِدم العالم (القدم والحدوث أم الواجب والممكن) قال الغزالي: إن التخريج الذي قال به ابن سينا لا يثبت حدوث العالم (أي الخلق من عدم) بل تخريج يكرس القول بأزليته وقدمه ذلك أن وصف العالم بوجوب الوجود ولو بغيره يعنى أنه منذ أن كان هذا الغير أي الله والعالم موجود كما قال أيضا بفكر الأشاعرة في مسألة تراخي الإرادة بمعنى أن الله أراد منذ الأزل خلق العالم أي خلقه بإرادة قديمة وأراد منذ الأزل كذلك أن يكون هذا الخلق في الوقت الذى اختارته هذه الإرادة، ولكنه جادل في مسألة المرجح. بينما نقد "ابن رشد" ابن سينا والفارابى لعدولهم عن الطريقة البرهانية في العلم الإلهى في اتباع طرق جدلية يمكن التشكيك فيها على الرغم من أنها أعلى درجات الجدل والطريقة البرهانية تنطلق من كل ما هو مشاهد ومحسوس حيث أن المبادئ والمقدمات التي بنى عليها هذا الجدل ليست جوهرية أي من الحركة، وتسلسل الأسباب إلى السبب الأول، وحل قضية القدم والحدوث للعالم هو في سريان الحركة في الموجودات في الأرض وفي السماء فالخالق أو الصانع لكل شيء هو المحرك الأول الذى لا يتحرك فهو مصدر الحركة وهذه الحركة تجعل من العالم لا قديما ولا حادثا بل دائم الحدوث وهذا في نظر ابن رشد أقرب إلى مفهوم الحفظ الوارد في الشرع ،بمعنى أنكل ما في الكون يتوقف على المحرك الأول الذي لا يتحرك، فهو الحافظ لوجود العالم جملة وتفصيلاً. أما رد "ابن رشد" على الغزالي بتراخي الإرادة يفيد أن احتجاج الغزالي فاسد لأنه أولا ما الداعي إلى التراخي وهل هناك عامل داخلي أو خارجي لهذا التراخي كما سيأخذنا هذا إلى الحاجة إلى مشكلة المرجح ثم ما معنى الإرادة نفسها وبذلك فالإشكال باقي. أما عن ثاني المسائل التى كفر فيها الغزالى الفلاسفة هى مسألة :أن الله لا يعلم الأشياء الجزئية، فنجد مثلا ابن سينا كان يرى الله يعلم الأشياء علما كليا لا يدخل تحت الزمان ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن وأن الله لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي. بينما الغزالى يقول: إن العلم بالكليات هو أيضا علم بالمختلف والمتعدد فالله يعلم الأشياء علم واحد في الأزل والأبد والحال لا تتغير وغرضهم نفي التغير متفق عليه ولا يصلح العلم الواحد لان يكون علما بالمختلفات لأن المضاف مختلف والإضافة مختلفة فالعلم بالحيوان لا يسد مسد العلم بالجماد والعلم بالبياض لا يسد مسد العلم بالسواد والعلوم المختلفة كيف تنطوي تحت علم واحد وإذا لم يوجب الاختلاف جازت الإحاطة بالكل بعلم واحد في الأزل والأبد ولا يوجب ذلك تغيرا في ذات العالم. وانتقد ابن رشد الغزالى قائلا: إن الأصل في هذه المشاغبة تشبيه علم الخالق بعلم الإنسان وقياس أحد العلمين على الثانى وأن تغير الإدراك بتغير المدركات وتعدد الإدراك بتعدد هذه المدركات ليس بعلم كما قال الغزالي. وقول الغزالي: إن تعدد الأنواع والأجناس يوجب التعدد في العلم صحيح ولذلك الفلاسفة لا يصفون علمه سبحانه بالموجودات لا بكلي ولا بجزئي وذلك أن العلم الذى هذه الأمور لازمة له هو عقل منفعل ومعلول والعقل الأول هو فعل محض وعلة فلا يقاس علمه على العلم الإنساني لأن علمنا معلول للموجودات وعلمه علة لها. اما عن المسألة الاخيرة: إنكارهم حشر الأجساد في الآخرة اكتفاءً بالبعث الروحاني فقط ،نجد ان إبن سينا أنكر بعث الأجساد ورد الأرواح للأبدان ووجود النار الجسمانية ووجود الجنة وحور العين وسائر ما وعد به الناس لأن كل ذلك أمثله ضربت لعوام الخلق، ويرى ابن سينا أن النفس جوهر روحاني مستقلا عن البدن كانت موجودة قبله وستبقى بعده وأنها وحدها دون البدن هى التي ستكون موضع ثواب أو عقاب في الآخرة. بينما انتقد الغزالى هذه الآراء وقال: إنه لمن المخالف للشرع إنكار حشر الأجساد وإنكار اللذات الجسمانية في الجنة وإنكار الآلام الجسمانية في النار وإنكار وجود الجنة والنار كما وصفت في القرآن فما المانع من تحقيق الجمع بين السعادتين الروحانية والجسمانية وكذا الشقاوة، ويرى الغزالي أن النفس باقية بعد الموت، وهي جوهر قائم بنفسه ، وأن ذلك لا يخالف الشرع، بل دل عليه الشرع في قوله "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" و بما ورد من الإخبار بشعور الأرواح بالصدقات و الخيرات، وسؤال منكر ونكير، وعذاب القبر وغيره، كل ذلك يدل على البقاء. وأن البعث سيكون بالبدن أي بدن سواء كان من مادة البدن الأول، أو من غيره، أو من مادة أستؤنف خلقها. بينما يرى ابن رشد أنه لا ينبغي التعرض لمبادئ الشرائع بقول مثبت أو مبطل في مبادئها العامة مثل هل يجب أن يعبد الله أو لا يعبد هل هو موجود أم ليس موجود، وأن الشرائع جميعها اتفقت على وجود الحياة الآخرة بعد الموت وإن اختلفت في صفة الحياة الآخرة. ويرى ابن رشد أن فكره حشر الأرواح وهى التي كفرهم فيها الغزالي وقال: إن هذه المسألة أول من قال بها هم أنبياء بنى إسرائيل الذين أتوا بعد موسى عليه السلام وذلك بين من الزبور ومن كثير من الصحف المنسوبة لبنى إسرائيل وكذلك في الإنجيل وفي شريعة الصابئة. ورؤية ابن رشد في بعث الأجساد أن ذلك الوجود الأخروي سوف يكون له نشأه أخرى أعلى من هذا الوجود وطور آخر أفضل من هذا الطور واستند إلى قوله تعالى في الحديث القدسي عن الجنة فيها:".. مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ..". ويرى ابن رشد أيضا أنه عندما كفر الغزالي الفلاسفة في قولهم أن البعث سيكون روحاني وحده فقد أخذ برأي الصوفية بالميعاد الروحاني في كتاب آخر له وأجاز القول بالميعاد الروحاني. وفي نفس الوقت كفر الغزالي هذه الفكرة في كتاب آخر له وهذا تخليط وبذلك فهذا الرجل أخطأ على الشريعة كما أخطأ على الحكمة. وفى النهاية يمكن القول بعد استعراض حجة كلا الطرفين، أنه بعد مرور هذه القرون ورغم المسلك الموضوعي الذى اتخذه ابن رشد عند النظر في آراء الآخرين، سواء فيما يتعلق بآراء الغزالي أو الفلاسفة المسلمين أو غيرهم من الفلاسفة، فلم يرفض كل ما قالوه ولم يقبل كل ما قالوه. ويقول ابن رشد في كتابه فصل المقال، عند الرجوع إلى كتب السلف (ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه ، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرناهم منه وعذرناهم). على النقيض تماما نجد الغزالى وضع حكمًا مسبقًا وهدفًا مسبقًا عند مناقشة آراء ومعتقدات الفلاسفة، ومن ثم فهو موقف غير محايد لا يصح اتخاذه كأساس لحوار موضوعي، يعطي نتائج موضوعية تحتمل قبول رأي الطرف الآخركلياً أو رفضه كليًّا، أو قبول بعضه ورفض بعضه. إلا أن الغزالي انتصر على ابن رشد، ويبدو أن الهدف من كل ما قاله الغزالي وغيره يومها هو إنتاج رفض شعبي لأي فكر عقلاني أو عزل هذه الأفكار عن الجماهير بحاجز من مثل هذه الأحكام القاطعة التكفيرية، والمحاولة الصارمة في عزل الجماهير عن الأفكار العقلانية في نهاية المطاف. وفى الحقيقة يجعلنا هذا المشهد ان نسقطه على واقعنا المصري حاليا، وحالة الانفصال والعزلة التى يدفع بها النظام أو رجالات الدين ليبتعد العامة عن اى فكر موضوعى عقلانى ،واللجوء دائما للتكفير والتخوين للمعارض لافكارهم والتى تعرف باسم النخبة المثقفة، وهو بالضبط ما جسده ابن رشد فى عصره، حيث كان يمثلهو وغيره تلك "النخبةالمثقفة "المتفلسفة. وبلا شك أن معاناة ابن رشد أيضا كانت جزءًا من معاناة طويلة للمثقف العقلاني في مجتمعه بين قمع السلطة وتخلف العامة وسخط رجال الدين التقليديين المعادين للفلسفة، الذى يمثل ايضا حالة مفكرينا اليوم، ومحاله إجبارهم أن يكونوا مجرد حالة معزولة عن المجتمع بحكم الجهل أوالتجهيل السائد في الطبقات الدنيا من هذا المجتمع "العامة"، والعمل على اخضاع دائم لهذه الجماهير لتأثير رجال الدين المعادين لأي محاولة عقلانية لتفسير و فهم الواقع،وهو ماتقوم به الفضائيات الدينية فى عصرنا بمنتهى البراعة والاقتدار!! حقا لقد انتصر الغزالي، فالغزالي هو الحاكم الحقيقى لبلادنا اليوم، ما زالت افكاره وكلماته تبسط سيطرتها على عقول تفصل بينها وبينه مئات السنين ،ولكنها موجوده بقوة على ارض الواقع سواء فيمن وصلوا إلى سدة الحكم، أو من يظهرون عبر الفضائيات الدينية يكفرون ذاك ويهدرون دم ذلك. اننا لدينا ملايين من غزالي القرن العشرين، ومااشبة غزالى اليوم بالبارحة، ذلك الغزالي الذى كان دائما فى اطلاق أحكامه يعتمد على مثل هذه الاتهامات مثل "من تمنطق فقد تزندق" وتكفير وتجريم اى محاولة لاختراق هذه الحدود للتفكير. إنه لغزالي اليوم الذى يمثل الاتصال بين النظام كسلطة سياسية والمسجد كسلطة دينية بشكل يجعل فى النهاية من الكتابة جنحة، ومن الصوت جريمة، واتصالهما، تحت عباءة الغزاليّ، هو شريعة الدم، وصورة فوتوغرافية ل"تهافت الانسان"، فيصبح القتل حدثًا عاديًّا، والمجزرة خبرًا يوميًّا، والتعذيب والذلّ إعلانًا مبوّبًا في بيانات الأحزاب والعشائر والطوائف والحركات والجماعات.. Comment *