مما يجب أن يُفهم جيدًا، وينبغى أن تعيه الذاكرة الواعية، أن الوقود الإسلامى هو الذى أدار موتورات الحركات التحررية فى القرن العشرين، وإلى اليوم، كان المشعل الذى أوقد المحركات النهضوية والاستقلالية ضد الاستعمار، وضد ظلام الجهل والعبودية والقهر، وأن بذور الثورات ضد الاستعمار كانت هى المبادئ والتعاليم الإسلامية وروح الجهاد والاستبسال الإيمانية، فى مصر، فى الهند، فى شمال إفريقيا، وإندونيسيا، والبلاد العربية، وفى غيرها من البلاد الإفريقية والإسلامية؛ حيث كان القرآن الكريم والتمسك به مصدر الثورات، وباعث حركات التحرر فيها، وكان العلماء وطلاب الجامعات والمعاهد الإسلامية رواد الكفاح والفدائيين فى العمل على طرد الاستعمار. وعلى هذا فلولا الدعوة إلى الإسلام وتعاليمه، ولولا حض المسلمين على مقاومة الاستعمار باسم الإسلام والجهاد فى سبيل الله.. ما تفاعلت حركة تحريرية فى هذه البلاد، ولذاب مجتمع (العبيد) فى خدمة مجتمع (الأحرار) (الشعوب فى المستعمر)!!. فالإسلام فى أى بلد -واللغة العربية معه فى البلاد العربية- كان جماع التاريخ، ودعاء الأمجاد والكفاح فيها، والقيم العليا لكل شعب من الشعوب، وبذلك حفظ للشعب كيانه وشخصيته ومقومات هذه الشخصية، ولأمر ما طالما راود الحقائق التاريخية هذا الشعار الذى ورد عن مالك بن أنس رضى الله عنه: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)، هذه ظاهرة بلغت حد البديهيات. وهناك ظاهرة أخرى يجب أن يلتفت إليها وهى أن الذين تولوا الحكم بعد التحرر والاستقلال وأداروا البلاد سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا كانوا من الذين تثقفوا على يد الغرب (المستعمر)، ولم تكن لهم صلة قوية بالإسلام وتاريخه ودعوته، وفهم مبادئه، فكان الإسلاميون وأصحاب القيم والتضحيات هم قادة الكفاح والاستقلال وتخليص البلاد والعباد من نير العبودية، وكان أصحاب الثقافة الغربية أو الشرقية والاشتراكية، هم الحكام والساسة الذين قطفوا الثمار، وأداروا البلاد، وصاروا أصحاب الكلمة النافذة فيها، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا إنهم ساروا عكس برامج الكفاح تمامًا، وتنكروا للمبادئ الإسلامية كلية، بل حاربوها وهمَّشوها واتهموها بما لم يستطعه جند المستعمر وأعوانه، ولاحقوا المجاهدين والمكافحين، وفتحوا لهم السجون والمعتقلات، وكالوا لهم التهم والافتراءات وعلقوا الناشطين فى بعض البلدان على أعواد المشانق، وصاروا أحبة وأعوانًا لأعداء الأمس من المستعمرين يسمعون منهم، وينتصحون بأقوالهم، وينفذون برامجهم، وقد ساسوا البلاد بسياسة الاستعمار وأشد، وحكموها بقوانين المحتلين وأساليبهم، وأنكى وأضل سبيلا. ودخلت البلاد فى دوامات الصراع من جديد، حتى إن بلدًا مسلمًا وهو الجزائر فقد مليون شهيد وأكثر فى صراعه مع الفرنسيين، وقد قارب المليون فى صراعه مع السلطة الحاكمة فى فتنة عمياء، وقتال ضروس، ولا يُعرف من الرابح ومن الخاسر، بل أكثر من هذا إيلامًا مصادرة العمل الإسلامى وتجفيف ينابيعه فى التعليم وفى الحياة والمجتمع واتهامه بالإرهاب، تمامًا كما كانت السلطات الاستعمارية والصهيونية تفعل قبل الاستقلال، وزاد على ذلك محاولة عزل الإسلام عن السلطة، وعن المشاركة فى التوجه أو الرأى فيما ينفع أو يفيد تلك الأمة المسكينة، فكان القرار الغريب، وهو منع مشاركة الأحزاب ذات التوجه الإسلامي، أي: منع قيام أحزاب إسلامية، وهو الأمر الذى كان مباحًا زمن الاستعمار البريطانى والفرنسى والطلياني، ولا تقول به اليوم السند أو الهند أو بلاد تركب الأفيال، أو بلاد الماو ماو، أو الواق واق، وتعيش تلك البلاد المستقلة الناهضة اليوم ببركة هذا القبيل العظيم فى ظل الأحكام العرفية وحماية الديكتاتورية الكريمة!! وأما عن حالتها الاقتصادية التى كانت منهوبة فى زمن الاستعمار البغيض، فقد زاد النهب والسلب، وعليه مزيد من الديون والفقر والحاجة والعوز فى ظل الاستقلال الكبير. وقد يتساءل الإنسان الغيور، أو الباحث الهصور عن سبب هذا البلاء النازل، والهم الهابط على الأمم، وعن عوامل هذا الانقلاب، الذى صيَّر المخلص عدوًّا، والمسلم مطاردًا، والغريب والقاعد والمتخلف مسيطرًا ومتحكمًا: هذا الذى ترك الأفهام حائرة وحيَّر العالم النحرير زنديق أسباب كثيرة، لا يسع المقام لذكرها أو الحديث عنها، ولعل من أبرزها ما يلى: 1- الثقة المفرطة من قِبَل الإسلاميين بذئاب تلبس جلود الضأن، وثعالب ترتدى ثياب الواعظين: وإخوان حسبتهم دروعًا فكانوها ولكن للأعادى وخلتهم سهاما صائبات وكانوها ولكن فى فؤادى وقالوا قد صفت منا قلوب لقد صدقوا ولكن عن ودادى وكم أُكِل الإسلاميون مرات عديدة من بنى جلدتهم للأسف؛ لأنهم كانوا مخلصين ومسالمين وعند كلمتهم.. كان يُدَبَّر لهم بليل وتُختلق لهم التُّهم، وتُجَهَّز لهم الفخاخ والسكاكين للقضاء عليهم، وكان يجب أن يكون ذلك فى ميزانهم فى أمة تحتاج إلى الإخلاص، وتتطلع للطهر والشرف والأمانة لبناء نفسها ومواجهة عدوها. ولكن وبكل حسرة ضُحِّى بهم فى ليال سود، وخوِّفَ منهم بحقدٍ أسود، وعُوديت معهم الشعوب، وامتُهنت معهم الأمة، وضاعت الحريات، وأصبحت الطبقات الحاكمة معزولة لا تستطيع أن تأنس لانتخابات أو جماهير، وحبست نفسها فى دروع وجدر أمنية وبوليسية، وتوسلت بحماية الأعداء، وصداقة الدخلاء، وناموا على خداع كبير، وأخطارٍ مهولة لهم ولشعوبهم: لعن الإلهُ بنى كُليب إنهم لا يعقلون ولا يفونَ لجار يستيقظون على نهيق حمارهم وتنام أعينهم عن الأخطار 2- عدم الدربة السياسية والحنكة فى معرفة ألاعيب الإفك القومى والدولى، والجهل بأنماط السياسات الدولية والصراعات الإقليمية والعالمية، وبأحوال الذات العربية ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، ومدى الاختراقات الثقافية والتربوية لهذه الذات التى كان يجب أن يلتفت إليها أولاً. 3- الاختراقات الأجنبية التى زَيَّنت بعداء شديد للبعض تطلعاته الحرام، واستطاعت أن تسيطر ولكن بأسماء قومية، وأن تستعمر ولكن برجال وسلاح وطنى. وبعد.. فإذا كان قادة التحرر يوم قاموا فى وجه الاستعمار باسم الله والإسلام لم ييأسوا من كثافة الظلام أو من قوة العدو وعدته، وأعداده، وجبروته، ووحشيته، وقد تم لهم النصر، أفلا يراودهم الأمل اليوم فى تحول مجتمعاتهم فى وقت ما إلى مجتمعات إسلامية، لا لأن ذلك تطلع يرجى أن يتحقق، وإنما لأن حتمية التاريخ ستعيد الدور من جديد إلى أصحابه، وإلى تمكين هداية الله فى عباده، ولأنه (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)، ولن يستطيع مستعمر أو باغٍ أو شيطان أن يطفئ بفيه الكليل نور الله: {وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف: 8). ولكن.. هل فقه المسلمون الدرس، ووعى العاملون التاريخ، والتفت المخلصون إلى السنن، وفتحوا أعينهم على الثعالب والحيات والعقارب؟ هذا وقد لجأ بعض المستشرقين وأعوانهم إلى إطلاق الشبه حول الإسلام باتهامه ببعض الترهات التى حسبوها تثير الضباب حوله، من ذلك وصفه بالعنف والخطر الإسلامى الذى يُسوِّقه اليوم فى العالم أعداء الإسلام قد أصبح مفضوحًا بما فيه الكفاية، والاتهامات التى يوجهها الاستعماريون اليوم إلى الفكر الإسلامى قد ظهر إفكها للقاصى والدانى، والتحذير والتخويف من الصحوة الإسلامية الذى يقوم به اليهود ومن لفّ لفهم هذه الأيام أضحى أضحوكة العالم، وسخرية الزمان، وصار لا يُخدع به حتى البُله والمجانين. ولقد دفع هذا التجنى المفضوح كثيرًا من الباحثين إلى الاستغراب والتعجب من هذا التسطيح والتشويش الساذج، من هؤلاء: (الدكتور إدوارد سعيد - أستاذ الأدب الإنجليزى فى الجامعات الأمريكية - الفلسطينى الأصل المسيحى الديانة)، والذى تناول الموقف الأمريكى واليهودى من الحركة الإسلامية فى عدد من دراساته ومقالاته، وفى مقال حديث له نشر بجريدة الحياة عام 1996م تحت عنوان (إعلان الحرب على الإرهاب الإسلامى). يقول مستغربًا هذا التجنى الصارخ على الإسلام فى موطنه: 1. إن هناك جيوشًا غربية فى بلاد العرب، وليس للعرب جيوش فى بلاد الغرب، فكيف يكون الإسلام خطرًا عليهم؟. 2. إن أمريكا وإسرائيل تصران على أن الإسلام الأصولى يتلازم تمامًا مع العداء لعملية السلام، وأيضًا مع معاداة المصالح الغربية والديمقراطية والحضارة الغربية. 3. إن هناك تواطؤًا ظاهرًا وفاعلاً بين أمريكا وإسرائيل على أصعدة التخطيط والتنظير ضد الإسلام. 4. وإن المطلوب هو الخضوع التام لأمريكا وإسرائيل، وأن العرب والمسلمين لن يصبحوا أناسًا طبيعيين فى نظر أمريكا وإسرائيل إلا حين ينصاعون تماما، ويتكلمون لغة أمريكا وإسرائيل. 5. إن أمريكا وإسرائيل وجدتا بغيتهما فى اختراع عدو جديد على حساب الإسلام والمسلمين، وأنه فى عام 1991م كتبت صحيفة (واشنطن بوست) أنباء عن دراسة مستمرة تعدها وزارة الدفاع الأمريكية والمخابرات عن الحاجة إلى العثور على عدو جديد، وكان الإسلام هو المرشح، ومن ثم فالعديد من الندوات والكتابات تدور حول الإسلام، وكيفية التحريض عليه وإلصاق التهم به، وقد قاد المؤرخ (برنارد لويس) الحملة عليه علميا، وأما تلاميذه -وأغلبهم من اليهود- فإنهم قاموا بالدور نفسه على صعيد الصحافة بقيادة (جوديث ميلر). 6. مشروع الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم عن الأصولية، وقد كان الإسلام فيه هو المرشح الوحيد ليكون (البعبع) الذى تتبناه وسائل الإعلام وتربط بينه وبين الإرهاب. 7. ولكن أسوأ ما فى الأمر أن إسرائيل وأمريكا تخاطران بتحويل الحكومات العربية إلى حكومات متواطئة تعمل ضد مواطنيها، وإننى متأكد بأن هذا يتم فعلاً، حتى لا يكون أمامنا خيار سوى دخول الحظيرة الأمريكية، وأن عملية السلام الآن تقدم لنا النتائج. إنها حملة منظمة تنبثق عن تخطيط يشارك فيها أكثر من طرف على الساحة المحلية وعلى الساحة الإقليمية والعالمية، وإن كانت قد ازدادت وتضاعفت عندما خلت الساحة العالمية لقطبٍ واحد تسيطر عليه الصهيونية وأتباعها من الزخم الاستعمارى، فقد أعلنت السياسة الأمريكية عن وجهها إزاء المنطقة، وبشكل أسقط كافة الأقنعة أو أشكال التخفى، كل ذلك جاء بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتى، ثم حرب الخليج وكارثة الغزو العراقى للكويت، حيث أحكمت أمريكا قبضتها على المنطقة تمامًا، وسارعت النظم الحاكمة التقليدية والعسكرية تقرع أبواب البيت الأبيض، وتحرص على أن تستظل بالمظلة الأمريكية، فى تنسيق للسياسات، والتقاء على الغايات والأهداف. 8. يقول أوثر لورى، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جنوب فلوريدا الأمريكية، فى دراسة له تحت عنوان (السياسة الأمريكية والحملة على الإسلام): (مع انتهاء الحرب الباردة تغيَّرت طبيعة السياسة الأمريكية، إذ أصبحت أمريكا القوة العظمى الوحيدة فى العالم، تتدخل حيثما تشاء ووقتما تشاء، وحسبما تتعرض مصالحها للخطر، وقد حدثت نقلة نوعية فى التعامل الأمريكى مع المسلمين، فقد كانت الأنظمة الحاكمة فى العالم الإسلامى بطبيعتها تعادى الشيوعية، وكان المسلمون يرفضونها، فاستغلت أمريكا ذلك لمحاربة الاتحاد السوفييتى فى أفغانستان بأيدى المسلمين؛ حيث أنفقت 3 مليارات دولار لهزيمة موسكو، وبعد الحرب الباردة صور الإعلام الأمريكى الإسلام على أنه متطرف وغير ديمقراطى ومعادٍ للغرب، كما صار الإسلام مُدانًا إذا ارتكب أى مسلم عمل عنف، وذلك فى المفهوم الغربى والأمريكى، وبمجرد تلاشى الحرب الباردة انبرى الذين كانوا فرسان الكتابة أيام حرب السوفييت للهجوم على الإسلام، ومن هؤلاء صمويل هنتجتون، صاحب المقال الشهير: صراع الحضارات، الذى أكد فيه أن الصراع القادم هو صراع الحضارات بين أمريكا والقوى التى تمثل حضارات ذات شأن مثل الإسلام. كما أكد ضرورة التفوق الأمريكى؛ حيث يتركز الإسلام والمسلمون، وأنه يجب التحريض على الإسلام وأتباعه، وأنه يوجد هناك رؤساء وقادة فى العالم الإسلامى يشعرون أن بلادهم وأشخاصهم مهددون من قِبَل شعبية الحركة الإسلامية، مثل: مصر، والجزائر، وتونس، بل فى إسرائيل، وأن الخوف المشترك من الإسلام والحركات الإسلامية دفع إلى إيجاد نوع من التنسيق والتعاون الأمنى لضرب تلك الحركات ومقاومة آثارها على حضارة شعوبها، ونسأل الله أن يدفع البلاء عن المؤمنين.. آمين). والمراقب المتأمل لهذه التصريحات وهذه الأقوال الواضحة لا يملك إلا الدهشة من هذا الموات الفكرى والعقلى الذى يخيم على الساحة أمام هذا العداء السافر المستهتر بكل القيم والحقوق والحرمات الدينية والإيمانية للمسلمين، حتى إن كلمة (لا إله إلا الله) وكلمة (بسم الله) أصبحت جريمة أو علامة على التطرف، ففى عام 1979م وفى عددها الصادر فى 61 إبريل كان موضوع الغلاف لمجلة (تايم) الأمريكية، مؤذن يدعو الناس إلى الصلاة، وجاء الموضوع تحت عنوان (عودة المجاهد)، وقد تناول المقال ظاهرة انتشار الإسلام، والتحذير من هذه الظاهرة التى انتشرت فى أكثر من قطر ومنطقة، وأنها تمثل روح التعصب والعودة إلى الهمجية فى القرون الوسطى؛ حيث قالت المجلة إن الشعب المصرى قد عاد من جديد إلى التلفظ بكلمات إسلامية مثل: (إن شاء الله)، (بسم الله)، (الحمد لله) عندما يأكل أو يركب السيارة، إنها ظاهرة لا تقودها إلا الشعوب، وفى الجزائر تجد الصبى البالغ من العمر 41 سنة على اتصال دائم بصلاة الجماعة فى المسجد، وفى تونس ترى الطلاب يشنون حربًا على الشر والرذيلة وذلك بطلاء الصور العارية على الجدران، وفى الأقطار الإسلامية ترى النساء يتحجبن، والطالبات فى الجامعات يطالبن بعدم الاختلاط، وهذا شىء خطير). أنا فى الحقيقة لا أعلق على هذا، وأترك التعليق لأصحاب تجفيف الينابيع الإسلامية، وأصحاب مؤتمرات السكان، ومحاربى الجماعات الإسلامية المسالمة، وأصحاب المحاكم العسكرية، ولأذناب الديكتاتورية من المثقفين والمتترسين بالاستعمار. وبعد.. {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21).