أنا فتاةٌ جامعيَّةٌ هدانى الله منذ عدَّة أشهرٍ فالتزمت، ولكنَّ هذا لم يعجب والدتى مع أنَّها من عائلةٍ مشهورةٍ بالتدين، فكلُّ أسرتها أفراد صالحون ولله الحمد، وكذلك عائلة والدى. والمشكلة هنا أننى التزمتُ وأمِّى تعارض هذا الأمر، بل تقوم بالاستهزاء بى على الدوام، تخيَّل بعد أن كانت تحثُّنى على صلاة الليل والضحى، وتطلب منِّى بشدَّةٍ التوقُّف عن سماع الأغانى، أصبحت إذا أردتُّ أن أصلِّى قيام الليل تستهزئ بى، بدعوى أنَّنى أغلو فى الدين. وعندما أخفض صوت الأغانى تطلب منِّى أن أرفعه، مع أنَّ جميع إخوتى يحترمون فى التزامى، وكذلك عائلتى. ومع أنَّنى أصبحت لا أنصحها أبدًا حتى فى أى شىءٍ حتى لا تغضب منِّى، أصبحت أطيعها ولا أرفع صوتى أبدًا. هى الآن تمنعنى من حضور أى محاضرةٍ دينيَّة، وتفرح إذا ذهبت للحفلات، وكذلك أصبحت تكره صديقتى الحميمة بعد أن كانت تحبُّها كثيرا، وذلك لأنَّها التزمت معى. والطامَّة الكبرى أنَّها ترفض أن أتزوَّج بمتديِّنٍ لأنَّه معقَّدٌ على حدِّ زعمها، فهى حتى لا تقول لأحدٍ أنَّنى التزمت، وإذا تحدَّث معها أحدٌ وامتدح دينى تنكر ذلك وتقول إنَّنى لست كذلك خوفًا من هروب العريس على ما تظنّ. أريد أن أنجو بدينى ولا أستطيع أن أقول شيئًا عن والدتى حتى مع أبى لأنَّها ذات شخصيَّةٍ مسيطرة، وأخاف من حدوث المشاكل بينهما. ماذا أفعل معها، فكلَّما نصحتها تقول: إنَّها ستدخل الجنَّة لأنها تصوم وتصلِّى، وعندما أذكر لها الذنوب الأخرى تقول: إنَّ الله غفورٌ رحيم؟ يجيب عن هذه الاستشارة، فتحى عبد الستار، رئيس قسم الصفحات المتخصصة بالجريدة، يقول: أختنا الفاضلة سارة، بارك الله فيك .. كثيرًا ما يحدث لأى منَّا عندما تواجهه مشكلة، أن يبحث فى الأشخاص والأسباب والظواهر المحيطة به، دون أن يتطرَّق إلى ذهنه أن يبحث عن الأسباب النابعة من نفسه، والتى من الممكن أن تكون المسبِّب الرئيسى لما يواجهه من مشكلات. أقول لك ذلك؛ لأنَّك فى أوَّل رسالتك أثنيت على عائلة والدتك، وأنَّ كلَّهم صالحون، كما قلتى إن والدتك كانت تحثك على صلاة الليل والضحى، وتنهاك عن سماع الأغانى، وأخبرتِ أنَّها تصوم وتصلِّى، إذن فوالدتك –والحمد لله– تأخذ من الالتزام بنصيب جيِّد، ثم ذكرت بعد ذلك مضايقات والدتك لك غير المبرَّرة – من وجهة نظرك – بعد التزامك!!. إذن، ما الذى حدث؟ وما أسباب هذا التغيير؟ لذا أدعوك -أوَّلا- إلى أن تجلسى مع نفسك، وتراجعى أحوالك خلال الأشهر الماضية بعد أن التزمت، واسألى نفسك هذه الأسئلة: - ما مفهومك للالتزام؟ وهل كان (التزامك) عن فهمٍ وعلمٍ واقتناع، أم جاء عاطفةً وتقليدا؟ فإن كان عاطفةً وتقليدا، فابدئى فى اتِّخاذ وسائل لبناء شخصيَّتك المسلمة، والتعرُّف على أحكام دينك من مصادرها الصحيحة السليمة. - هل (التزامك) جعلك تنعزلين عن أفراد أسرتك وتنغلقين على نفسك، ولا تشاركينهم حياتهم، وجعلهم يشعرون أنَّ (التزامك) قد نأى بك عنهم، وجعلك غريبةً عنهم؟ - هل غاليتِ فى (التزامك) وخرجت عن الحدود الشرعيَّة فى العبادة والتعامل، ممَّا جعل والدتك تخاف عليك نفسيًّا وصحيّا، فتطلب منك التوقُّف عن الصيام والقيام مثلا؟ فإن كنت كذلك فعلًا، فصحِّحى مفهومك عن الالتزام، فالإسلام لا يعرف الرهبانية والعزلة والتقوقع، وإنَّما حامله والملتزم به يجب أن يكون مشعل هدايةٍ يتحرَّك بين الناس، وبائع مسكٍ إن لم يشترِ منه الناس حذاهم من عطره، أو وجدوا منه الريح الطيبة. ولا يعرف الإسلام – كذلك- الغلوّ، ويحذِّر منه أشدَّ التحذير، ونظرةً يسيرةً فى سنَّة النبى صلى الله عليه وسلم وسيرته تنبئ بهذا. وقد تؤدِّى تلك الانعزالية والمغالاة إلى نتائج عكسيَّةٍ فيما بعد، فيتحوَّل التشدُّد والتزمُّت إلى ترخُّصٍ وتحلل. - هل تعاملت مع والدتك وأسرتك من منطلق الوصاية ومحاولة تغيير واقعهم الذى لا يروق لك، وأعملت فيهم "الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر"، فأشعرهم ذلك بأنَّك تتكبَّرين عليهم، وتفرضين عليهم رأيك (وقد ألمحتِ إلى هذا من خلال كلام والدتك) فولَّد ذلك عندهم ردَّ فعلٍ مضادّ؟ ربَّما، فإنَّ فرض الرأى –أختى الفاضلة– يولِّد العناد، فقد يكون سامعك مقتنعًا تمامًا بصحَّة ما تقولين وتعتقدين، ولكنَّ طريقتك فى عرض الموضوع، وإشعاره بأنَّ ما تقولينه واجب التنفيذ، يجعله يظهر رفضه وعدم اقتناعه. الطريق الأمثل لتوصيل ما تريدين هو الإقناع، وليس الفرض، هكذا كان أسلوب الأنبياء، وأسلوب القرآن، فى مواقف كثيرةٍ لا يتَّسع المقام لذكرها. - واضحٌ من رسالتك -أختى الفاضلة- أنَّ دافع والدتك الأكبر للوقوف ضدَّ التزامك هو خوفها عليك من العنوسة، وعزوف الرجال عن الزواج منك، وهذا هاجسٌ شائعٌ يسيطر على أذهان الكثير من الأمَّهات اللاتى التزمت بناتهنّ، ولكى تُمحَى هذه الفكرة من خاطرها حاولى إقناعها بأنَّ الزواج رزقٌ من الله عزَّ وجلّ، وأنَّه مقدَّرٌ من عنده سبحانه وتعالى، وأنَّه سيأتيك سيأتيك، مهما كان مكانك، ومهما كان حالك، وأنَّ الشباب الجادَّ الطاهر العفيف، يبحث وينقِّب عن الطاهرات العفيفات أمثالك، أمَّا غيرهم فإنَّهم ينشدون ضالَّتهم فى الحفلات والملاهى والأعراس غير المنضبطة، وما شاكل ذلك، وأنت لا تريدين أن ترتبطى بأمثال هؤلاء، فلا حاجة لك فى ارتياد مثل هذه الأماكن. - شعرت من خلال رسالتك أنَّه من الممكن أن تكون هناك رواسب قديمةٌ فى العلاقة بينك وبين والدتك، فقد قلت: "كنت أقلُّ أدبى عليها"، وربَّما لم يصفُ قلبها لك بعدُ من تلك المواقف السابقة، فيحسن بك أن تحاولى إزالة هذه الرواسب بالاعتذار وطلب السماح، والمبالغة فى برِّها والإحسان إليها، وأشعريها وثبِّتى فى أعماقها أن التغيُّر الذى حدث فى طريقة معاملتك لها، وحسن الأدب معها، وبرَّها، كلُّ ذلك كان نتيجة التزامك بأحكام الدين، فيكون هذا سببًا فى أن تقرَّك على ما أنت عليه، وتذكَّرى قول الله عزَّ وجلَّ فى حقِّ الوالدين: "وإن جَاهَدَاكَ على أن تُشْرِك بى ما ليس لك به علمٌ فلا تُطعْهما وصاحِبْهما فى الدنيا معروفا"، فحفظ حقِّ البِرِّ والمصاحبة بالمعروف محفوظٌ للوالدين، ولو كانا كافرين، فهل طلبت منك والدتك أن تشركى بالله؟!!. وبعدما تنتهين من أسبابك الداخليَّة، ابدئى فى علاج الأسباب الخارجيَّة: - اقتربى من والدتك أكثر، ابتسمى فى وجهها دائما، لا تتركى تقبيل يدها. - حاولى أن تجلسى مع والدتك جلسة حبٍّ ووُدّ، جلسة الابنة من أمِّها، احتضنيها، قبِّلى يديها ورأسها، قولى لها: إنَّ هدفك الأكبر فى هذه الحياة أن ترضيها وتسعديها، وأنَّك لا تستطيعين تحمُّل غضبك منها، وبعد أن تلوح ابتسامة الرضى على وجهها، ناقشيها بموضوعيَّةٍ فى موقفك وموقفها. - امدحى أوَّلًا صلاتها وصومها، لا تتحدَّثى عن الذنوب والأخطاء والهفوات، وتذكَّرى أنَّك لستِ وصيَّةً عليها، لا تفكِّرى الآن فى دعوتها، اتركى كلَّ ذلك الآن، وثقى أنَّ والدتك ستقبل منكِ كلَّ شيءٍ حين تحسُّ بحبِّك لها، فافعلى ذلك أوَّلا، أحبِّيها كما لم يحبَّها أحد، مع أنَّ إحساسى الشخصى يقول أنَّ أخطاء والدتك وذنوبها –على ما ذكرتِ من خُلُقها وطباعها- لا تتعدَّى اللمم، وربَّما التزامك الشديد صوَّرها لك فى صورة الكبائر، إنَّنا لسنا ملائكة، فكلُّنا نخطئ، وخير الخاطئين التوابون. - ما المانع من أن تعرضى على والدتك أن تصحبك إلى تلك المحاضرات الدينيَّة التى تمنعك من حضورها، حتى تطمئنَّ وتهدأ نفسها، وتعلم ما الذى تستمعين إليه، ومن يدرى فربَّما أثَّرت فيها تلك المحاضرات تأثيرًا إيجابيّا، وفى كلِّ الأحوال لا تجعلى حضور المحاضرات سببًا فى تصادمكما، فاستغنى عن الحضور بالسماع، والحمد لله فالأشرطة أكثر من أن تُحصَى. - ابحثى فى وسط أقربائك وقريباتك عمَّن يؤيِّدك ويقف بجوارك، ويحاول إقناع والدتك بوجهة نظرك، كعاملٍ مساعدٍ دون أن تقطعى الطريق بينك وبينها، مع الانتباه إلى ضرورة أن يكون ذلك بطريقةٍ غير مباشرة، حتى لا تظنَّ والدتك أنَّك تكوِّنين الجبهات ضدَّها. - أما عمَّا تتعرَّضين له من سخريةٍ واستهزاءٍ أحيانا، فإنَّ ذلك من ضريبة الدعوة التى لم يُعفَ من دفعها نبى ولا داعيةٌ على مرِّ الزمان، فما من نبى أو داعيةٍ إلا وسخر منه قومه واستهزءوا به، ورمَوه بالجنون وغيرها من التهم، فما كان منهم إلا الاستعلاء على تلك الممارسات، وعدم الاهتمام بها، والركون إلى جناب الله عزَّ وجلَّ لمحو آثارها فى النفس، واحتساب الأجر عنده سبحانه وتعالى، فعلى دربهم هذا سِيرى، وبه تمسَّكى. ولا شكَّ أنَّ كلَّ هذا يحتاج منك إلى صبر ومجاهدة، وهما عُدَّتا كلِّ مسلمٍ ملتزم. وتذكَّرى أنَّ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن تعرَّض لابتلاءاتٍ من قِبَل والديه، فهذا مصعب بن عميرٍ رضى الله عنه عندما أسلم، حبسته أمُّه، وخلعت عنه ملابس العزِّ والترف، وألبسته لباس الذلِّ والهوان، وضربته وعذَّبته، كى يحيد عن إسلامه، ولكنَّه لم يقابل هذا كلَّه إلا بالصبر، ولم يدفعه ذلك إلى إساءة القول أو الفعل مع والدته، حتى جعل الله عزَّ وجلَّ من ضيقه فرجًا ومخرجا، كذلك كان سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه، وغيرهما الكثير من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم، مع أنَّ الوالدة فى حالاتهم كانت كافرة، وليست مسلمة!! فما بالك بآبائنا وأمَّهاتنا المسلمين، بل والمصلِّين والصائمين؟. وأوَّلًا وأخيرا –أختى سارة– عليك بأقوى الأسباب وأشدِّها: اللجوء إلى الله عزَّ وجلّ، ودعاء السَحَر أن يصلح الرحمن ما بينك وبين والدتك، وأن يربط على قلبها، وأن يرزقك الزوج الصالح الذى يساعدك فى النجاة بدينك كما تقولين. وتذكَّرى دائما: طريقك إلى أمِّك: الحبُّ ثمَّ الحبُّ ثمَّ الحبّ، ثمَّ الصبر والمجاهدة. شكرًا لكِ -أختنا سارة- أن فتحتِ لنا قلبك، ووثِقْتِ بنا، وفَّقك الله ورعاك.