"الجنوح" مصطلح بحرى يصلح للظواهر الاجتماعية، فخروج السفن عن مسارها، يشبه خروج الأطفال عن معايير الضبط الاجتماعى. وللجنوح أسبابه، ومظاهره وتكلفته الباهظة، سواء كان فى البحر أو البر أو الجو..!! وأسباب الجنوح إما فقدان الرؤية والمسار.. أو عطل فى الآليات والمحركات، أو ضعف قدرات الربان ومساعديه.. أو حالة البحر الهائج.. أو كلها!! والجنوح فى سفينة مصر الآن جنوح سياسى، وجنوح قانونى، وجنوح أمنى، وجنوح اقتصادى، وجنوح إعلامى وثقافى.. وجنوح دينى أيضا. والجنوح كما يصيب الفرد يصيب الدولة والثقافة والمجتمع..! - الجنوح السياسى تراه فى سلوك النخبة (السلطة والمعارضة).. الموالاة لا تنفذ مقتضيات الديمقراطية فتحكم الأغلبية وتضع رؤيتها وتنفذ مشروعها.. ولا المعارضة تمارس دورها.. فالمعارضة تستخدم وسائل دعائية أكثر مما تستخدم الأدوات السياسية فى حشد المؤيدين لها، والموالاة يستخدمون الشرعية والشريعة لإسكات صوت المعارضة. وبينما كسب ثقة المواطن هو الأساس، نجد السلطة مشغولة بالرد على المعارضة، وبينما على المعارضة النزول إلى المواطن نجدها مشغولة بالمكايدة السياسية عبر الإعلام فقط..! السلطة اتخذت مسار الاستقرار لبناء مؤسسات الدولة وإن كان متعرجا، لكن المعارضة مشدودة للمثاليات تريد الرجوع للخلف والبدء فى مسار جديد..! - الجنوح الاقتصادى تراه فى سلوك الدولة والمجتمع، فلدينا اقتصاد معلن وهو يمثل الثلث فقط، وآخر فعلى يمثل الثلثين، وهذا يعنى أن الاقتصاد يتخذ مسارا متعرجا وغير واضح وغير رسمى. وبينما الموارد المصرية فى أصلها زراعية وصناعية، فإن معظم الدخل القومى من مصادر ريعية قناة السويس والسياحة وتحويلات العاملين فى الخارج والضرائب والجمارك، أين الإنتاج؟ ننفق على التحسينات أضعاف ما ننفق على الضروريات.. ونسعى للاقتراض.. وبنوك مصر والعالم بها مليارات منهوبة عجزنا عن استردادها..!! - الجنوح القانونى خرجت مؤسسة تطبيق القانون عن المسار المعتاد لتشتبك مع مسارات السياسة ولتضع نفسها مباشرة فى مواجهة قوى سياسية معينة، ولذلك بدأت تتلاطم مع موجات العمل السياسى -ولا تزال- لمصالح تحافظ عليها، ولحسابات غير واضحة تنحاز المؤسسة القضائية لتوجه معين، وهذا ينذر بجنوح الوطن كله بعيدا عن بوصلة العدالة..! - الجنوح الأمنى الجنوح فى المؤسسة الأمنية هو الأكثر خطرا والأعمق أثرا؛ إذ القوة المنوط بها ضبط الأمن هى ما يساعد على الإخلال به.. فلا المؤسسة الأمنية قادرة على ممارسة دورها الرادع، ولا هى ممكّنة لكى تؤدى دورها الانضباطى بحرفية. ولا هى قادرة على إعادة هيكلة دورها وتحديث أدواتها وتغيير رسالتها.. ولذا تجد الحرائق فى كل مكان دون جهد يذكر لإطفائها، ولا ندرى أين الخط الفاصل بين العمل الشرطى المهنى والتخاذل الشرطى المخل بالأمن؟ - الجنوح الدينى بسبب ما تعرض له الأزهر والكنيسة من إضعاف وهما مؤسستان دينيتان، ولكننا كثيرا ما نرى لهما اشتباكا مباشرا مع العمل السياسى والقانونى، ومواقفهما كثيرا ما تخدم أو تعارض النظام السياسى وتضغط عليه أحيانا لتحقيق مكاسب معينة، كذلك تعد ظاهرة الدعاة من غير الأزهر ولا الأوقاف ظاهرة متفشية، المهندسون والأطباء يقومون بالدور الدعوى، وهم لا يعملون فى وظائفهم. - جنوح الإعلام الإعلام مضرب المثل فى الجنوح؛ لصلته المباشرة بالعقل والقلب، وصلته بالرأى العام وتحريكه فى اتجاهات معينة، وشحن النفوس تجاه القيادة السياسية، فالإعلام الرسمى لا ندرى هل هو يؤدى دورا إعلاميا أم سياسيا؟ وهو يمارس دوره منحازا ليس للشرعية الجديدة، بل للنظام القديم، وكثيرا ما ينحاز للمعارضة لموقفه من القوى السياسية الإسلامية.. وبينما المطلوب السير فى خط المهنية نجد الإعلاميين يجنحون للإثارة والظهور وإبراز السلبيات وإغفال الإيجابيات، يستوى فى ذلك الإعلام الخاص بأجنداته المعلنة والخفية.. والإعلام الحكومى العاجز عن فهم دوره مما جعله يبحر بعيدا عن المصلحة الوطنية. والجنوح الإعلامى تراه فى الإعلام الجديد بلا ضابط ولا قانون ولا منظومة مهنية تحكمه كل يفعل ما يراه ويريد من الآخرين التسليم به.. سلطة جديدة لا تخضع لأى سلطة أخرى.. - الجنوح الثقافى الثقافة منذ زمن بعيد جانحة بعيدا عن هوية المجتمع المصرى الأصيلة. ومغربة نحو الثقافة الغربية بشكل جارف. حتى التلاقى الحضارى مع الشرق لا تكاد ترى له أثرا مما يؤكد أحادية مسار الجنوح عن خط الثقافة المصرية، والغريب أن قادة التيار الثقافى من اليساريين والناصريين ومع ذلك فهم موغلون فى عباب البحر الغربى، ولا تكاد تجد حركة ثقافية متوازنة بين الذاتى والمستورد، فالذاتى مهمش والمستورد مهيمن..!! - الجنوح الاجتماعى تراه فى تبدل دور الأسرة وتراجعه لصالح مؤسسات قضاء وقت الفراغ، تراه فى التعطل رغم وجود الأرض والماء والوقت.. أدمنَّا الكلام والإشاعات وتوقفنا عن العمل، وبينما لا يقوم الناس بما عليهم يريدون زيادات فى الدخل.. وبينما الأمراض تعصف بنا فإن عدد الأطباء فى تزايد.. وبينما المتعلمون كثيرون ولا يجدون وظائف، فإن الأمية أعلى من 30% فى المجتمع المصرى؟؟ مصر سفينة جانحة.. فى بحر هائج.. ورؤية غير واضحة.. والركاب يقتتلون فى قمرة القيادة بينما حياتهم وأمتعتهم مهددة بالغرق.. إذا زاد الجنوح عن المسار.. سينفد الوقود.. وقد يفيق المصريون وسفينتهم غارقة فى قاع المحيط؟!!