إذا كان أهم سمات نظام مبارك الغابر هو التخبط والعشوائية وتزاوج الفساد والجهل الإدارى فى كل قسمات مصر ومؤسساتها بما حولها مع الزمن إلى مؤسسات بلا كفاءة ولا فعالية، فأصبحت، بعد أن كانت منتجة، عالة وعبئا ثقيلا على الدولة؛ لدرجة أن كثيرا منها قد تم التخلص منه بالبيع بأبخس الأثمان بعد أن تم العمل بشكل منهجى لتخسيرها، لدرجة أنه بعد بيعها بأيام تحقق ربحا فى سنة واحدة يفوق الثمن الذى بيعت به عشرات المرات...! والأمثلة على ذلك كثيرة ومتكررة. فإننا الآن ونحن فى مرحلة إعادة بناء قدرات ومقدرات مصر ما بعد الثورة، يجب أن يكون قائدنا ورائدنا فى ذلك هو تزاوج العلم الإدارى المكافئ مع الأمانة والإخلاص، ولعل ذلك هو التحدى الأهم والأخطر إن كنا نريد تقصير الوقت والجهد لتحقيق نهضة مصر وتقدمها. فى الحقيقة ومن خلال ممارسة ومعايشة مع واقع مؤسساتنا وشركاتنا الحكومية فى مصر، أستطيع أن أجزم بكل ثقة بغياب الجانب الإدارى الإستراتيجى العلمى، أو حتى التشغيلى، بشكل شبه تام من حياة كثير من هذه المؤسسات، سواء كان ذلك فى كفاءة القائمين على إدارتها، وهل هم أهل لذلك أم هى مجرد مجاملات كما كان سائدا، ناهيك عن الإهمال التام للارتقاء بالجانب البشرى، خاصة بناء الصفوف الإدارية التالية، وتدنى ثقافة التدريب وتنمية الكفاءات الإدارية واعتبار ما يمكن إنفاقه فى هذا الجانب نوعا من الإسراف والتبذير، هذا إن حدث أصلا...! علينا أن ندرك بوضوح أننا مقبلون على إدارة ما يسمى بالتغيير والتطوير، وهى فى حالتنا الراهنة تسمى إدارة التحول، التى تعتبر من أخطر عمليات إدارة التغيير، خاصة إذا كان التغيير ثوريا.. فما الذى يجب على مسئولى إدارة عملية التحول الثورى كى يصلوا بسفينة الثورة إلى بر أمانها المنشود؟ لعل ذلك يحتاج منا ليس لمقالة، بل مقالات، وليس وقفة، بل وقفات. ولكننى فى هذه المقالة سوف أحاول أن أجمل متطلبات الإدارة العلمية التى ننشدها وأهمها: أن يكون هناك فريق إستراتيجى فى قمة الدولة متناغم ومتفاهم وفاهم يقود عملية بناء نهضة مصر على بصيرة، وأن تتبعه فرق مماثلة فى كل وزارة ومحافظة وهيئة، إلى أن نصل إلى أصغر وحدة إدارية؛ مثال مستشفى أو مدرسة. أن ينطلق كل ذلك من رؤية، ورسالة عامة لمصر يتم وضعها بشكل مجتمعى، يتوافق عليه الجميع، ويؤمنون به، ويعملون بشكل متناغم لتحقيقه، ويمكن أن أقترح نموذجا لرؤية مصر مثل "أن تستعيد مصر مكانتها اللائقة من الريادة والتميز العالمى فى كل المجالات"، ثم تندرج منها رؤى مماثلة لكل مجال وعلى كل مستوى تالٍ. ثم نتفق بعد ذلك على هدف إستراتيجى لمصر مثل: "أن تكون مصر من بين الدول العشر الأعظم عالميا فى 2023. وليكون ذلك بمثابة محرك لأمرين؛ الأول بناء أهداف إستراتيجية مماثلة على جميع الأصعدة والمجالات، والثانى ليكون ذلك بمثابة نقطة نهاية تحرك كل الجهود للوصول إليها. أن نقف بشكل واضح ومحدد على كل ما نعايشه من نقاط قوة وضعف أو فرص وتهديدات، ونعترف بهذا الوضع بعد أن نعرفه، ثم نعمل على التعامل الإستراتيجى الواقعى معه، باعتباره نقطة الابتداء الأولى التى لا يمكن السير فى الطريق قبل تمهيدها ومراعاتها، وإلا نكون كمن حدد هدفه فى الوصول إلى مدينة معينة تبعد عنه 1000 كم مثلا، ثم بدأ السير دون أن يعرف ما طبيعة الطريق التى سوف يسير فيها ولا المناخ المصاحب لها، ولا الأماكن المحيطة بها، ولا حتى إمكانات وقدرات المركبة التى سوف تقله فى رحلته...! ثم علينا بعد ذلك وعلى كل مستوى أن نحدد الإستراتيجيات والوسائل المناسبة لتحقيق كل هدف إستراتيجى فى ضوء ما حددناه من تحليل داخلى وخارجى، مثال أن يكون هناك هدف إستراتيجى مثلا لمحو الأمية خلال 10 سنوات كما جاء بالدستور، وبعد تحليل كل جوانب القوة والضعف والفرص والتهديدات المحيطة بهذا الموضوع، نبدأ فى تحديد الإستراتيجيات المناسبة لتحقيقه، هل مثلا يكون من خلال جهاز مستقل لتعليم الكبار، أو من خلال وزارة التعليم وجهازها ومعلميها، أم من خلال وزارة التعليم العالى وخريجيها... إلخ. ثم علينا بعد ذلك أن نحدد تفاصيل تطبيق الإستراتيجية التى تم الاتفاق عليها، مثل ما الذى سوف ننجزه فى السنة الأولى من إجمالى حجم الأمية، باعتبار ذلك هدفا تشغيليا، يتم بناءً عليه رصد الموارد والميزانيات، ثم تحديد الكفاءات والقيادات المطلوبة للتنفيذ، وما يمكن أن تحتاج إليه من تدريب أو تحفيز، وتهيئة مناخ. ثم يتم وضع السياسات والضوابط الحاكمة للموضوع لضمان التطبيق الأمثل والمتناسق على كل أنحاء القطر. ثم يتم تحديد الهيكل التنظيمى الأنسب لضمان مرونة وكفاءة التنفيذ؛ حيث سيكون من الخطأ الإستراتيجى أن نتبع إستراتيجيات جديدة بنفس الهياكل البيروقراطية القديمة، التى يتخيل البعض أنها مقدسات ثابتة لا يمكن أن تمس...! وضع كل متطلبات النظام الرقابى الإستراتيجى، الذى يجب أن تعكف عليه هيئة عليا مستقلة، لضمان سير نظام العمل، كما تم رسمه مع التقييم أولا بأول لاتخاذ إجراءات التصحيح المناسبة فى الوقت المناسب، وتحديد حزم من الحوافز الإيجابية والسلبية ويتبع مباشرة رئاسة الجمهورية، ويمكن تسميته المجلس الأعلى للجودة، الذى لا يمكن لأى أجهزة رقابية حالية أن تحل محله، سواء من حيث طبيعة مهمتها التى تعودت عليها، أو الثقافة التى حكمت منهجها وطريقة عملها الأقرب للتفتيش والرقابة البوليسية... أن يتم كل ما سبق من خلال مشاركة مجتمعية فى ظل دوائر متواصلة رأسيا وأفقيا، وأن يتم تفعيلها بشكل حقيقى، وليس مجرد شكل دون مضمون، وأن تتخذ هذه المشاركة عدة أوجه أقلها: أن تشارك فى اتخاذ القرار ابتداءً. وأن تشارك فى عملية التطبيق حسب ما يتيسر لها. وأن تكون بمثابة مقياس لدرجة الرضا عن جودة الأداء باعتبار المواطن فى النهاية هو من يتوجه له الجميع بإنتاج هذه الخدمات بما يحقق رغباته واحتياجاته بشكل مريح وممتع. إننا بما سبق وفى ضوء هذا الإجمال المركز نكون قد بدأنا التحرك نحو إنجاز دولة مصر التى نحلم بها بعد الثورة؛ لتكون دولة المواطن، وليست عزبة الحاكم التى تعانى من كل أنواع العشوائية والفساد والتخبط كما كان سائدا قبل الثورة... علينا أن نعلى من دور الكفاءات والخبرات فى كل فرع من فروع التخصص، بصرف النظر عن انتمائها الحزبى أو الفكرى.. المهم توافر الكفاءة والإخلاص، وحسن الخلق. ------------ أ. د. محمد المحمدى الماضى أستاذ إدارة الإستراتيجية بجامعة القاهرة www.almohamady.com