المشكلة الكبرى أن القوى العلمانية التى يحلو لها أن تطلق على نفسها مسمى القوى المدنية، تناوبت خلال المرحلة الانتقالية المواقف ونقيضها والآراء وعكسها، وتداولت الأدوار وتناوبتها فى الاتجاه المعاكس دون أن تشعر بغضاضة فى عمليات التناوب والتداول المحمومة. فهم يعلنون اليوم من خلال تظاهراتهم أنهم يرفضون إعطاء الرئيس صلاحيات مطلقة، ويسعون للتصدى لتركيز سلطة التشريع وإصدار الإعلانات الدستورية فى يد الرئيس. وفى المقابل تحاول هذه القوى مرات ومرات دون ملل ولا كلل أن تضع العراقيل أمام إنجاز دستور يحدد صلاحيات الرئيس، ويؤذن بقيام دولة المؤسسات، وينزع الصلاحيات التى تركزت فى يد الرئيس دون رغبة منه. وكلما اقتربنا من الهدف وشعرنا أننا قاب قوسين أو أدنى من سحب السلطة التشريعية وسلطة إصدار إعلانات دستورية من الرئيس بعد أن فرضت عليه، وجدنا هذه القوى نفسها تسعى لتأجيل الوصول إلى نهاية سريعة للمرحلة الانتقالية من خلال عرقلتها كل الجهود التى تستهدف الانتهاء من صياغة الدستور. هذه القوى هى التى طالبت بتمديد المرحلة الانتقالية وبقاء واستمرار حكم العسكر لمدة عام أو عامين، وهى التى طالبت فى المقابل بالتخلص من حكم العسكر والانتقال إلى قيادة مدنية. هذه القوى هى التى طالبت بالتعجيل فى إنجاز الدستور حتى كانت مقولة "الدستور أولا" شاهدا ومعلما رئيسا يدل على موقفها الصارم من تأجيل الدستور أو التباطؤ فى إنجازه. ثم تأتى هذه القوى ذاتها بشخوصها ورموزها وكل مكوناتها لتعرقل الدستور وتسعى إلى إرجائه وتسويفه من خلال الطعن على الجمعية تارة، ومن خلال الانسحابات المتكررة بحجة عدم "سلق الدستور". هذه القوى نفسها هى التى طالبت بمحاكمات ثورية لرموز الحكم السابق، ثم هى ذاتها التى تعترض اليوم وتتظاهر ضد قرارات الرئيس التى جاءت استجابة لمطالبهم ومطالب الشعب معهم. هذه القوى هى التى طالبت بعزل النائب العام باعتباره من بقايا النظام السابق، وعندما جاءت الاستجابة الأولى من الرئيس بتقديم عرض للنائب العام بالعمل فى السلك الدبلوماسى قامت الدنيا ولم تقعد، واعترضوا جميعا على قرار الرئيس. هذه التناقضات والازدواجية الفجة التى اعتادها الشعب من أهلها بإمكانها أن تفرز الواقع الثورى، لتؤكد أن هناك ثوارا حقيقيين ثابتين على مبادئهم لا يتخلون عنها بفعل دوافع سياسية أو حزبية ضيقة، وأن هناك متحولين من موقف إلى نقيضه دون أن يشعر أحدهم بحمرة الخجل.