كان من ظواهر الثورات العربية بروز واختفاء واندماج مصطلحات على الساحة الشعبية والإعلامية، منها الديمقراطية والحرية والمساواة والمواطنة واستحقاقات الثورة، وعندما انقسم الشعب المصرى بين ثوار وأتباعهم ومعاونيهم ومتحولين إسلاميين أو علمانيين انضموا إليهم أمام فلول واتباعهم ومعاونيهم، واحتارت الصفوة الحرة مع أى الجهات تندمج وإلى أيهما تسير، وسار الإعلام تابعا بشدة لمصالح مموليه؛ مما أنتج نوعا من الإعلام المعاق ذهنيا وفكريا، فهذا إعلامى يدافع بشدة عن النظام البائد ويجمع مناصرين له فى وجود عنصر واحد، ضعيفا كان أم قويا ثائرا؛ ليجتمعوا عليه، ويشوشوا فكرته، وينهوا اللقاء بإعلان فوزهم المزعوم؛ والمشاهد صدعت رأسه، وشوهت أفكاره؛ ليرى الحق بعيدا، ولا يتعدى خمس المشهد. ونشأت الديمقراطية الغربية غريبة على الشعوب العربية، لكنها عاشت بينهم زورا بممارسة مزورة لحكام زائفين حكموا بها الشعوب عقودا ومورست منذ نعومة أظفارها فى دول العرب بحكم سلطوى وكلمات حماسية زائفة تستهل ب"أيها المواطنون"، وما أعجب قبول الناس المصطلح وتعايشهم معه فى بيئة من الفقر والجهل والمرض وقبولهم لنسبة 99.9%. وفى الوقت الذى ازداد فيه استخدام الديمقراطية على الساحة الإسلامية شاع الربط المقصود أو الممنهج بين الإسلاميين والتكويش كبديل منبوذ للأغلبية وللديمقراطية واستخدمته الساحة الليبرالية واليسارية والعلمانية. رافضين تماما ما ينبغى من حكم الأغلبية واحترام الإرادة الشعبية، هذا على الرغم من أن الديمقراطية كانت الهم الشاغل لإلهاء الشعوب بالنظم السياسية الحاكمة مع ممارسة وهمية لها على الساحة السياسية من خلال الانتخابات المزورة لعقود. أعتقد تشعب أصل هذا الخلاف المجتمعى فمنه تاريخى وفقهى ودعوى وسياسى وطائفى واستبدادى. التاريخ يقر بوجود نظم عربية سلطوية حكمت شعوبها بدعوى الديمقراطية كما يقر بوجود جماعات دينية واجهت هذه النظم وجاهدت للحفاظ على هويتها الدينية والمجتمعية، ولاقت أشد أنواع المهانة والإذلال والتعذيب والخراب فى الوقت الذى حمت فيه العلمانية والليبرالية النظم الديكتاتورية، وصنعوا لأنفسهم صورة صفوة متميزة فى وسائل الإعلام وفى قيادة الدولة ومؤسساتها، ومارسوا كل أشكال العزل والإقصاء للإسلاميين فى مؤسسات بعينها كالشرطة والإعلام والسياسة والأمن والقضاء، فمارسوا الإقصاء فى ظل ديمقراطيتهم، واستخدموا نفس المصطلح لرفض ديمقراطية الأغلبية ورفض الإرادة الشعبية. وفقهيا نجد المصطلح يتشابه فى كثير من جوانبه مع مصطلح الشورى فى الإسلام، إلا أن الأمر الأساسى الجدالى يأتى فى نقطة المرجعية، فلو كانت المرجعية فى الإسلام للقرآن والسنة، الأمر الذى نجد فيه تفسيرا لمفهوم السياسة القذرة، وهى التى تعمل من أجل تحقيق مصالح الفرد الذاتية بالأساس، ثم جماعته التى ينتمى إليها، ما يسمح للمرشح مثلا اتباع أساليب غير أخلاقية كالكذب والخداع والتدليس على الآخرين من أجل زيادة حصته التصويتية، كما أن الديمقراطية لا تشترط على المرشح توافر صفات العدل والأمانة، فيزيف الحقائق، وينهب لتحقيق مصالح الطبقة التى يخدمها، وكذلك الناخب نجده لا يشهد بالحق. وفى الإسلام يختلف الأمر، فيشترط أن يكون فى الناخب ما فى الشاهد من العدالة وحسن السيرة والصدق، والأمر يتعلق بالتحلى بصفات المؤمنين {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}. [الشورى: 38-39]. وفى إطار الخلاف العنصرى للمصطلح نجد أن المشكلة الكبرى لدى العلمانيين والليبراليين المعادين للفكرة الإسلامية تتمحور حول رفضهم أهم بند من بنود الديمقراطية وهو الأغلبية فبدءوا يتحدثون عن الصفوة فى مقابل الفقراء والجهلاء، وشذ منهم البعض لكى يرى أن يحسب صوت الجاهل بنصف صوت، ومما له العجب أنهم من يتغنون بحقوق الإنسان ومواثيق حقوق الإنسان، وشذ منهم من رأى أن المرجعية اللازمة لحل المشكلة اللجوء للقانون الدولى وجعله يعلو على القانون المحلى، وشذ منهم من طالب اللجوء لمحاكم دولية لتضع دستور بلاده. وعلى جانب الخلاف السياسى فإن فكرة الأغلبية التي تقوم عليها الديمقراطية الغربية تنصرف إلى العدد كأساس لعملية الترجيح، بحيث يصير العدد محك إضفاء الشرعية على الفكرة والحكم على مدى صلاحيتها. فلو استطاع مرشح الرئاسة الحصول على أغلبية فاز ولو كان على قمة النظام الفاسد طالما استطاع بأى السبل الحصول على الأصوات الأكثر "وعلى خلاف هذا الفهم، تقدم الرؤية الإسلامية نقدا ً لفكرة الأغلبية، بحيث لا يعتد بها فى إضفاء الشرعية إلا بعد توفر عناصر مثل العدل والحق والقدرة، وتقوم الأحزاب السياسية الإسلامية بدور فى التقارب بين مفهوم الشورى والديمقراطية عندما ترشح من قبلها العناصر الصالحة، ثم تلجأ إلى الساحة الانتخابية لتقرر الإرادة الشعبية من تريد، ومن ثم لا أفهم قيام أحد المنتمين لحزب له مرجعية إسلامية أن يستغل مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص والحقوق فى ترشيح نفسه بدون مشورة واستشارة من قيادات وأعضاء الحزب؛ ففى السنة المطهرة (إن أمتى لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافا ً فعليكم بالسواد الأعظم). وعلى مستوى الخلاف المجتمعى الفقهى نجد أن الإسلام له من قواعد النظام العام التى تؤكد احترام أصول عقيدة الإسلام وشريعته، فلا يعقل فى دولة إسلامية أن يدعو إنسان على الملأ إلى ممارسة الزنا أو شرب الخمر بدعوى حريات الإنسان. وإذا كانت البشرية أوجدت للديمقراطية صيغًا وأشكالاً مثل الانتخاب والاستفتاء وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، واستقلال القضاء، وحق الأقلية فى المعارضة؛فإن هذه السبل تمثل أطر وضعتها البشرية بصيغ مختلفة تطبيقيا وممارسة وفكرا أيضا ما يجعل مدارسها وتفسيراتها وتعريفها تختلف باختلاف الثقافات والبيئات بدليل اختلافها فى دول العالم.