تشهد فرنسا أعمال شغب وعنف عشرات المرات لأسباب مختلفة اقتصادية وعنصرية وسياسية، لكن الانتفاضة التي اندلعت منذ 27 يونيو 2023 واستمرت قرابة أسبوع وشهدت حرق مئات السيارات والمتاجر وأعمال عنف طالت عدة مدن كانت هي "الموجة الأعنف" ما أثار تساؤلات حول السبب. وهل العملية مجرد احتجاج على قتل الشرطة شاب فرنسي من أصل جزائري أم تراكمات عقود من العنصرية والتهميش والسياسات الإقصائية وتعمد الشرطة ترك أحياء المهاجرين فريسة للعصابات؟. وقالت وزارة الداخلية الفرنسية، 2 يوليو 2023، إن "حصيلة الخسائر احتراق 871 موقعا عاما، و577 سيارة، وإلحاق أضرار ب 74 مبنى وإصابة 45 شرطيا، بخلاف اعتقال قرابة أربعة ألاف منذ بداية الأحداث" وفق رصد "الاستقلال". تحليلات فرنسية وغربية قالت: إن "عنف الانتفاضة الأخيرة سببه تراكمات العنصرية والتهميش والسياسات الإقصائية، وتعمد الشرطة ترك أحياء المهاجرين فريسة للعصابات وفشل دمج المسلمين بقوة العلمانية". أحد أبرز أسباب أعمال الشغب بهذه الصورة غير المعتادة هو "عمق التوترات الاجتماعية بفرنسا، وعدم الاهتمام بالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية العميقة الجذور بالأحياء الفقيرة والإرث الطويل من إهمال الحكومة، بحسب تحليل لصحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية 30 يونيو 2023. تحليلات فرنسية ذكرت أن أغلب من نفذ هذه الاحتجاجات هم من الشباب ذوي الأصول المهاجرة وهم شباب خضعوا لعقود لسياسة باريس، لإبعادهم عن هويتهم العربية والإسلامية وقطع علاقتهم ببلاد أجدادهم، أو بقيمهم الدينية بشكل قسري. قالوا: إن "غالبيتهم شباب لا يجيد العربية في الأغلب، وكثير منهم لا يذهب للمساجد التي تغلقها فرنسا، ويتبنى بعض القيم الغربية التي تنافي القيم الإسلامية، بما في ذلك التي تضعف تأثير رجال الدين والأسر لديه، لذا فشلت مناشدة ماكرون الأسر لمنع أبنائهم من المشاركة في الاحتجاجات". أكدوا أن مشهد التخريب والسلب في قلب باريس عاصمة النور شهادة واضحة بفشل فرنسا الذريع في سياسة الدمج القسري تجاه الأقلية المسلمة العربية في البلاد وخاصة الجيل الثاني من المهاجرين. صحيفة "لوموند" ذكرت 27 يونيو 2023 أن "فرنسا تواصل تهميش أجيال من المهاجرين"، ورصدت تفسيرات دول المغرب العربي لأعمال الشغب في فرنسا، مؤكده أن "فرنسا ترفض الاعتراف بأخطائها". قالت: "تواصل فرنسا تهميش أجيال من المهاجرين، وترفض، رغم أنهم ولدوا على أراضيها، أن يتمتعوا الفرنسيون بوضع الفرنسيين العاديين". فرنسا تواجه لحظة "جورج فلويد" وفي مقابلة أخري أجرتها "لوموند" مع الخبير السياسي 2 يوليو 2023، إيمانويل بلانشارد قال إن: "فرنسا لديها تاريخ طويل في عنصرية سيطرة الشرطة، والتاريخ الاستعماري يجب أن يؤخذ في الحسبان لفهم سبب ارتفاع عدد الأشخاص الذين قتلوا على يد الشرطة في فرنسا عنه في الدول الأوروبية الأخرى". وهو ما أشارت له أيضا "رقية ديالو" في تحليل بصحيفة "الجارديان" 30 يونيو 2023 ذكرت فيه أن فرنسا تواجه لحظة جورج فلويد، في إشارة للعنصرية الأمريكية ضد السود أيضا والتي أدلت لانتفاضة عنف وغضب عقب قتل شرطي أمريكي لشاب أسود. قالت: "تجاهلت فرنسا عنف الشرطة العنصري منذ عقود، وهذه الانتفاضة هي ثمن لهذا التجاهل". وخرج فرنسيون يهتفون ضد الشرطة الفرنسية، ويقولون أن ما جرى على غرار قتل جورج فلويد في أمريكا. https://www.youtube.com/watch?v=e5w25BWEqeg سبب أخر للشغب أشارت له صحيفة الجارديان البريطانية التي ذكرت مطلع يوليو 2023 أن شرطة فرنسا تتعمد ترك أحياء المهاجرين فريسة للعصابات كما يحدث في مرسيليا. نقلت عن "جوزيف داونينغ"، المحاضر في السياسة والعلاقات الدولية، "من المستحيل استيعاب مدى تردي الأحوال في المجمعات السكنية بالضواحي الفرنسية، لا سيما سوء الخدمات، وغياب الدولة، وغياب المسؤولين إلى حد يستعصي على التصور". قال: إن "الشرطة تخشى الذهاب إلى هناك، وهذه الأماكن تقع خارج سيطرة الدولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، والساكن هناك إذا اتصل بالشرطة، لن يأتي إليه أحد". ويقول مسلمون فرنسيون" إن "المشكلة أن فرض العلمنة والفرنسة لم يؤد بالضرورة لخلق مواطن فرنسي، مثالي ومتحضر على النمط الأوروبي، فقد يكون الشاب ذو الأصول العربية المسلمة يجيد الفرنسية بطلاقة ويعاقر الخمر كأي فرنسي، وفي الوقت ذاته قد يتاجر في المخدرات، أو يشارك في نهب المحلات احتجاجاً على العنصرية ضده". وفي باريس ومحيطها الوضع لا يختلف كثيرا، حيث ترك سكان الضواحي ضحية الفقر والعصابات وعنصرية الشرطة، وجاءت حادثة اغتيال نائل لتصب الزيت على النار. عمق التوترات الاجتماعية بفرنسا يقول تحليل صحيفة الجارديان: إن "الاحتجاجات الأخيرة تظهر أن الأحياء الفقيرة والمختلطة عرقيا في فرنسا لا تزال على برميل بارود، وأن مشاعر سكانها تعاني الشعور بالظلم والتمييز العنصري وإهمال الحكومة لهم". ووفقا للتحليل، فإن عدم التغاضي عن عنف الشرطة هو خطوة أولى ضرورية، وإن لم تكن كافية، نحو استعادة النظام العام. فقد ألقى بعض الخبراء باللوم في إطلاق النار على الشاب الفرنسي نائل على قانون صدر في عام 2017 قبل تولي ماكرون السلطة، والذي يمنح الشرطة مزيدا من الصلاحيات لإطلاق النار على سيارة إذا رفض ركابها الامتثال لأمر الشرطة وعرضوا حياة عناصر إنفاذ القانون للخطر. وبخلاف ذلك هناك الاستخدام المفرط للقوة أثناء الاحتجاجات المناهضة للحكومة، بالإضافة إلى ممارسة عنف عنصري، كما حدث عندما تعرض منتج موسيقى أسود لضرب وحشي في واقعة جرى توثيقها بمقطع مصور، وفق ما ذكره التحليل. إضعاف المنظمات الإسلامية ويقول مسلمون فرنسيون: إن "الرئيس الفرنسي ماكرون أضعف المنظمات الإسلامية التي كان أغلبها حليفا للدولة، ليترك الأحياء ذات الغالبية المهاجرة لزعماء العصابات ومروجي المخدرات الذين يتحدثون الفرنسية جيدا ولا يذهبون للمساجد أو ينقطعون عن العمل في عيدي الفطر والأضحى ولا يصومون رمضان؛ وبالتالي لا يوقفون العمل أو المباريات أثناء موعد الإفطار، كما تريد فرنسا الرسمية". أوضحوا أن مثل هذه السياسات لم تضعف القوى التقليدية في المجتمع المسلم بفرنسا فقط، ولكنها بمثابة استفزاز إضافي للشباب حتى غير المتدين والمتفرنس من الجيل الثاني، الذي قد لا يريد أن يرتدي الحجاب، ولكن يشعر بالغضب؛ لأن والدته أو خالته ممنوع عليها الحجاب في العمل أو المؤسسات الحكومية. وأغلق ماكرون العديد من المساجد في المناطق المسلمة، وقد يكون راهن على الحانات لتكون بديلا، ولكن من يخرج من المساجد لن يشارك في الأغلب في أعمال السلب والنهب إذا شعر بالظلم، بينما من يخرج من الحانات قد يفعل ذلك.