الرسالة الأهم في مسلسل (الاختيار2) هي التأكيد على تحولات العقيدة القتالية والأمنية للمؤسستين العسكرية والأمنية، فلم يعد النظام يقوم بوظائفه الأساسية في حماية الوطن وأمنه القومي، حتى لو كان العدو بالغ السفور في عدوانه كما في الحالة الإثيوبية التي تصر على حجز مياه النيل بدءا من يوليو المقبل 2021م؛ فالمهم عند النظام العسكري هو قمع المعارضين في الداخل الذين ينتقدون سياساته وتوجهاته، فهم أكثر خطرا على بقائه واستمراره؛ والغريب أن النظام العسكري يتعامل مع العدوان الإثيوبي الصارخ والسافر بشكل سياسي وعبر المفاوضات رغم اليقين بعبثيتها، أما المعارضون المطالبون بالحرية والديمقراطية فيتم التعامل معهم عسكريا في انقلاب صارخ لوظيفة الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية. الرسالة الثانية، أن (الاختيار 2) يعيد بناء جمهورية الدم الثانية التي أعلن عنها السيسي؛ ولعل أبرز تمثّلاتها كان في أغنية "احنا شعب وانتوا شعب"، فكان المعتصمون هم العدو وكبش الفداء، وتمت المجزرة التي تلعب دوراً في تماسك الشلة الناشئة وهي هنا النظام العسكري، مع العمل على منع الضحية من الاندماج في المجتمع، كما أن العنف تجاه الضحايا مأمون العواقب فلا خوف من الثأر، بل إن الضحية تُشيطن وتصور على أنها الجاني، وهو ما يُذكرنا بما قاله السيسي بأن الضابط الذي سيَقتُل لن يُحاسَب. وبحسب الفيلسوف "باومان" فإن مثل هذه المجزرة "جريمة القتل الأولى كما جرى في رابعة" تمثل التأسيس التاريخي لشلة النظام الجديد، ويجب أن تخرج الضحية كما يرى باومان حية من المجزرة، لأن بقاءها حية يبث الخوف، ويعني أن النظام في حاجة دائمة إلى الوحدة، وهو ما رأيناه في شماعة الإخوان والإرهاب، ويضيف باومان أن الاشتراك في الدم هو السبيل الوحيد للانضمام لشلة النظام، "فلا يهم كثيراً عدد القتلى من الأعداء/الضحايا"، بل المهم هو العدد الكبير من القتلة، ومن المهم أيضا ارتكاب الجريمة في العلن، في وضح النهار، وأمام أعين الجميع، ليظل النظام هو المأوى الوحيد. ويختتم باومان حديثه عن ميلاد مثل هذه الشلل المافياوية العنصرية القاتلة كالنظام العسكري في مصر بأن هذه الشلة "لا يمكنها أن تضمن بقاءها زمنا طويلا إلا إذا حافظت على الجريمة الأولى من النسيان"(جريمة فض رابعة والنهضة)، فالجناة بعلمهم بوجود أدلة على جريمتهم يجب أن يظلوا متحدين على قلب رجل واحد، "وأفضل طريقة لتحقيق ذلك تتمثل في الإحياء المنتظم، أو المتواصل، لذكرى الجريمة والخوف من العقاب عبر إضافة جرائم جديدة إلى الجرائم القديمة". ومن هذه المجزرة الأولى تولد الجمهورية الثانية كما يسميها السيسي؛ ولذلك فإن المستهدف من الرسائل الواضحة للمسلسل ليس عموم الشعب المراد خداعه وتضليله، ولكنها جبهة النظام الداخلية من شرطة وإعلام وقضاء، فالجميع شارك في القتل، لتقوم الجمهورية الجديدة على جماجم الضحايا الذين كانوا يمثلون تهديداً لهم، بالإضافة إلى المواطن العادي الذي قد يعجب بالتصوير ومشاهد الأكشن، وبالتالي يكون عرضة في حالة هياجه العاطفي وشعوره بالتهديد لقبول رسائل مثل أن خطر جارك الإخواني أكبر من خطر إسرائيل، وسبيل النجاة هو الالتفاف حول الدولة وقيادتها. الرسالة الثالثة هي تكريس الانقسام المجتمعي وقطع الطريق على أي أمل في لم الشمل الوطني من خلال اعتماد النظام على نظرية "صناعة العدو"؛ فالمسلسل يحتوي على كثير من الرسائل لكن أكثرها خطورة على الإطلاق هو تعميق تكريس الانقسام السياسي في مصر. ويمكن فهم أهداف ورسائل مسلسل "الاختيار" بجزئيه من خلال اعتماد النظام على الاستغراق في نظرية "صناعة العدو" وتكريس الانقسام المجتمعي، ويقصد بالعدو هنا "الإسلاميون" بعد أن بات الاحتلال الإسرائيلي صديقا وحليفا وعلى هذا الأساس يصر النظام على تقسيم المجتمع المصري واعتبار نصفه على الأقل من الإسلاميين عدوا له منذ انقلاب 3 يوليو 2013م، ويتم توظيف الخطاب السياسي والإعلامي وجميع مؤسسات الدولة لنسج الأكاذيب وفبركة الأخبار والقضايا والتهم حول هذا العدو "الوهمي" (الإرهاب) الذي يتسع بحسب أهواء النظام ليضم جميع الإسلامين الرافضين لانقلابه، كما يتسع ليضم قوى علمانية أبدت معارضتها لسياسات النظام وتوجهاته. فالإرهاب هو البعبع الذي صنعه النظام بنفسه ويبالغ في تضخيمه من أجل توظيفه سياسيا وإقليميا ودوليا لخدمة أهداف ومصالح النظام حتى لو تعارضت مع الأمن القومي المصري.
الرسالة الرابعة هي ترميم شعبية المؤسسة الأمنية، فالجزء الأول من المسلسل اهتم بترميم شعبية المؤسسة العسكرية، أما الجزء الثاني فيسعى إلى ترميم صورة الداخلية المعروف عنها البلطجة والاستعلاء على الشعب وإذلاله؛ الأمر الذي جعل المصريين يكرهون الظروف التي تضطرهم إلى التعامل مع أقسام الشرطة. فالداخلية هي سيف النظام العسكري القمعي الذي ترهب به الناس حتى يستسلموا خاضعين للنظام رغم فشله في كل شيء. وخلال السنوات التي تلت ثورة يناير ارتكب ضباط الشرطة وخاصة ضباط وعناصر جهاز أمن الدولة أحط الجرائم وأبشعها وسفكت دماء آلاف المصريين، من أجل إعادة إنتاج نظام مبارك بصورة أخرى تكرس مصالح الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة العميقة، وتضمن استمرار نفوذ المؤسسة العسكرية سياسيا واقتصاديا، فالداخلية مع المخابرات بنوعيها العامة والحربية هي من كانت تمثل "الطرف الثالث" الذي أثار الفوضى بعد الإطاحة بمبارك وعملت على إفشال المرحلة الانتقالية والحيلولة دون تأسيس نظام ديمقراطي، ولما نجحت ضغوط الشعب في اختيار رئيس مدني منتخب لأول مرة في تاريخ البلاد، تآمرت هذه الأجهزة على المسار الديمقراطي ودبرت انقلابها المشئوم بعد عام واحد فقط من انتخاب الرئيس. ونسفت المسار الديمقراطي بكل عنف ووحشية، وعملت على إعادة تصميم النظام سياسيا واقتصاديا بما يضمن مصالحها ومصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية والكيان الصهيوني وممالك وإمارات الخليج الثرية التي تربطها علاقة مصالح مع المؤسسة العسكرية. مسلسل "الاختيار" إذا بجزئيه هو محاولة إعادة الاحترام والهيبة لصورة المؤسستين العسكرية والأمنية بعد أن تشوهت بفعل جرائمها المتكررة واحتكارها للسلطة والثروة بينما يئن غالبية الشعب في الفقر والجوع والحرمان. الرسالة الخامسة هي تسويق الرواية الأمنية التي يتبناها النظام مهما كانت مفبركة وبالغة الركاكة، فالمسلسل يحاول تكريس الرواية الأمنية حول ثورة يناير والإخوان والانقلاب وتبرير المذبحة الأكبر والأكثر وحشية في تاريخ مصر (رابعة والنهضة) وما يجري حاليا في سيناء، والحط مما عداها من روايات مهما كانت قوية وموثقة وشديد العمق والإقناع، وعلى هذا الأساس يتم توظيف عناصر العمل الدرامي لتحقيق هذا الهدف، فيتم توظيف القصة والسيناريو وانتقاء الممثلين والبنية النفسية لشخصيات العمل والمبالغة في تجميل عناصر الجيش والشرطة ليظهروا في صورة طيبين غيورين على الوطن ويتصفون بصفات أسطورية ، مقابل الإسلاميين المتشددين الإرهابيين الذين يمثلون الشر. ( ) ف«"المسلسل" يعكس منطق اللعبة الصفرية التي تمارسها وتجيدها كافة الأنظمة السلطوية، والتي تقوم على مبدأ: إما نحنّ وإما همّ. فيحاول المسلسل "أسْطَرَةَ" العسكر والشرطة، وترسيخ صورتهم الذهنية لدى العوام، وذلك من خلال استعراض "أسطوري" لشخصية ضباط الجيش والشرطة، في الوقت الذي يتم فيه إظهار الآخرين المعارضين في صورة شريرة حتى يستجلب التعاطف مع الأبطال الوهميين من ضباط الجيش والشرطة رغم أنهم السفاحون القتلة في معظم الأحداث التي جرت أثناء ثورة يناير وما بعدها وخصوصا في مذبحتي "رابعة والنهضة". الخلاصة، أن الإنفاق الباهظ على عمل درامي لتكريس رواية النظام العسكري حول ثورة يناير ومذابح رابعة والنهضة يؤكد أن النظام لا يزال يعاني أزمة كبيرة في مجالين رئيسَين هما الشرعية والثقة. ولو كان النظام يؤمن أنه يمتلك شرعية حقيقية بين الناس لما اضطر لصرف الملايين على عمل درامي يسعى من خلاله لتثبيت شرعيته في الحكم، وتحويل الانقلاب في وعي الناس إلى ثورة. ولو لم يكن السيسي وأركان حكمه يعلمون أن أغلبية الشعب المصري لا تثق بهم لما اضطر لمثل هذا العمل لإعادة بناء الثقة. المسلسل في هذا التوقيت وفي وقت تتعرض فيه مصر لتهديدات وجودية متمثلة في إصرار أثيوبيا على حجز مياه النيل يمثل برهان على خلل الأولويات لدى النظام وأنه يتسم بقدر هائل من الغباء يستحق معه أن يكون مسئولو هذا النظام في مستشفى للأمراض العقلية وليس على كراسي الحكم في أكبر دولة عربية.