فتح بث مسلسل «الاختيار 2» الأبواب أمام ضرورة توثيق الأحداث التاريخية على النحو جرى بالفعل وليس بناء على سردية أمنية تتبناها أجهزة النظام الأمنية لغسل يديها من الدماء التي سفكتها والمؤامرات التي حاكتها للسطو على الحكم بقوة العنف والإرهاب بعيدا عن الأدوات الدستورية التي أقرهتها كل دساتير مصر. مجرد عرض هذه العمل الدرامي المشبوه في ظل هذا التوقيت يجعل من تحليل سياسات هذا النظام العنصري ضروره لأنه يفوق في قمعه ووحشيته نظم الحكم النازية في المانيا والعنصرية في جنوب أفريقيا والفاشية في إيطاليا موسوليني. لتحليل السياسات التي قام عليها نظام 30 يونيو يتوجب التعرف على أهم مكونات نظرية "صناعة العدو" والتي تلقى رواجها كبيرا في الأوساط الدولية و المخابراتية؛ ذلك ان مشهد 30 يونيو قام على أساس "الكراهية" وشيطنة الآخر الأيديولوجي والمختلف سياسيا (الإخوان والإسلاميون)والذي يراد إبادته كهدف إقليمي دبرت له (إسرائيل والإمارات والسعودية بضوء أخضر أمريكي كما أوضح كتاب "كير كيباتريك" مدير مكتب النيويورك تايمز في القاهرة إبان الأحداث)، وقام بالتنفيذ داخليا أركان الدولة العميقة (الجيش والشرطة والقضاء والإعلام)، إضافة إلى قوى علمانية متطرفة رأت في الإطاحة بالمنافس السياسي عبر انقلاب أسهل من الإطاحة به عبر صناديق الاقتراع بعد أن يئست من الفوز بثقة الشعب في كل الاستحقاقات الديمقراطية التي جرت بنزاهة غير معهودة في أعقاب ثورة 25 يناير2011م. وإن كان ذلك لا يمنع من وجود أنصار لثورة يناير وقعوا في فخ الخداع وسوء التقدير فشاركوا في "مشهد 30 يونيو" كتفا بكتف ضباط الشرطة المتهمين بالتعذيب وفلول نظام مبارك الفسدة؛ لأهداف أخرى لم يكن من ضمنها الانقلاب وما تلاه من كوارث ومذابح وإجهاض للديمقراطية والثورة معا. ولعل أهم ما تم تأليفه في هذا المجل كتاب هو «صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح؟»، للمؤلف «بيار كونيسا» والذي يتناول دور نظم الحكم وأجهزة المخابرات في صناعة العدو باعتباره حاجة اجتماعية سياسية عليا يحقق كثيرا من الأهداف التي تتعلق بالتماسك المجتمعي وتحميله خطايا الفشل والإخفاق ونعته بأحط الصفات؛ ليلبي نوازع الإحساس الكاذب لدى الطغاة والمستبدين وحتى نظم ديمقراطية بالحسن والتظاهر بالصلاح الكاذب والتقوى المصطنعة. يكتسب الكتاب أهميته كون المؤلف باحثا فرنسيا شغل منصب مساعد مدير لجنة الشؤون الإستراتيجية في وزارة الدفاع الفرنسية، وهو حالياً أستاذ في معهد العلوم السياسية. وجود "العدو" ضرورة بحسب الكتاب فإن «معظم أجهزة الدولة والمخابرات، ومراكز التفكير والتخطيط الإستراتيجية، وكل صُناع الرأي يشتغلون على صنع العدو، سواء أكان هذا العدو منافساً عالمياً كما بين (الصينوأمريكا)، أم عدواً قريباً كخلاف حدودي مثل الصراع بين (الهند – باكستان)، أم عدواً داخلياً حميماً مثل الصراع الإثني في "رواندا"»، في إشارة إلى الحروب الأهلية التي يسعى فيها الطرف الأقوى (غالبا هو نظام الحكم أو جنرال عسكري أو قبيلة قوية) إلى شيطنة الآخر(المختلف عرقيا أو دينيا أو سياسيا) وتوظيف الآلة السياسية والإعلامية والعسكرية والأمنية من أجل تبرير إبادة هذا الشقيق الحميم وتحويل قتله المجرم قانونا إلى فعل مشروع يستحق المتورطون فيه أنوط الشجاعة والتكريم! وترى هذه الجهات (أجهزة الدول والمخابرات ومراكز البحث والتفكير) التي تُفصِّل من هو العدو وتصنعه بناء على مصالحها أنه من المفيد وجود عدو يصهر الأمة، ويؤكد قوتها، ويشغل قطاعها الصناعي والعسكري. فوجود العدو أمر ضروري بالمجتمع، فهو يؤدي أدوارًا اجتماعية وسياسية عديدة، فعلى الجانب الاجتماعي: يلبّي العدو حاجاتٍ اجتماعية متعددة، كالحاجة إلى الهُوية (تعريف الذات من خلال تعريف الآخر)، والحاجة إلى تهدئة حالات القلق الاجتماعي (فحين يعاني المجتمع، يشعر بالحاجة إلى أنْ يجد أحدًا يمكنه أنْ يعزو إليه ألَمَه، وينتقم منه لخيبات أمله)، (كما هو الحال في مصر حاليا والتي تمزّق نسيجها الاجتماعي) ولذلك يسعى النظام إلى اختلاق وصناعة "عدو" يتطيَّر به ويعزو إليه كل الازمات والكوارث والمصائب. وعلى الجانب السياسي، يُمكن استخدام العدو لشرعنة استخدام القوة وتبرير القمع المفرط والجرائم الوحشية التي تمارسها السلطة. وحتى المجتمعات الغربية «الديمقراطية» عمدت إلى صناعة "العدو" تحت مبرّر «الحرب العادلة»، فكانت هذه هي الحجّة التي اتّبعها المحافظون الجُدُد لابتكار مبدأ «الحرب الاستباقية». فمن خلال هذا المبدأ يمكن للولايات المتحدة أنْ تتخذ قرارًا أُحاديًّا بشنّ الحرب حين تتوافر شروط الحرب العادلة، وهي المصلحة العامة لأمريكا والدولة المارقة. وعلى هذا النحو، فالعدو لا يجب قتله؛ فمن مصلحة القاتل أن يبقي في عدوه رمقًا يستمد منه حياته ويبرر به بناءه العسكري والسياسي؛ ولعل هذا يبرر أسباب عدم القضاء على حفنة مسلحين في سيناء تعهد السيسي مرارا بالقضاء عليهم دون أن ينجز وعده. كما أن "العدو" يمثل مخرجا مهما بالنسبة للسلطة الفاشلة والنظم المفلسة التي تواجه مصاعب داخلية حيث يتم تعليق الفشل عليها وتحميله أسباب الإخفاق المستمر. دور الإعلام وغسيل الأدمغة العظيم في كتاب «بيار كونيسا» أنه يسلط الضوء على عمليات غسيل الأدمغة وحملات الدعاية السوداء التي تقوم بها الدول والنظم وأجهزة المخابرات من أجل شرعنة جرائم الإبادة الوحشية ضد الإنسانية ، ودفع الآلة الإعلامية الجبارة وتوظيف الخطاب السياسي والديني لنسج الأكاذيب والافتراءات ونشر الشائعات وتكريس حالة الانقسام المجتمعي من أجل شيطنة الآخر وتصوير قتله وإبادته والقضاء عليه (وهو فعل مجرم في كل القوانين والشرائع السماوية والوضعية) بأنه فعل عظيم ورحمة وإنسانية يتعين على الناس توجيه الشكر والتقدير لفاعلها الذي أنقذ الدولة والشعب والمجتمع من هذه الآخر الذي يتم تصويره على أنه عدو إرهابي دموي يهدد وجود الدولة ويثير الفوضى داخل المجتمع ويعطل البناء والتقدم والإنتاج وحالة الاستقرار المنشود. المهم أن القاتل – مع خلفيته المسبقة هذه عن سبب القتل – يقتل وهو مرتاح الضمير، ذلك أنه خلق لنفسه قبل ذهابه إلى الحرب عدواً متوهماً يكون قتله مبرراً. فالحرب هي ترخيص ممنوح شرعياً لقتل أناس لا نعرفهم، أحياناً هي عكس نظام القيم الموجودة أصلاً حيث القتل جريمة، فينعكس الوضع ليصبح القتل مشروعاً ويكافأ الجنود عليه، الحرب هي أن نقول: إنه من غير الممكن التحادث مع هذه المجموعات؛ إذن يجب قتلها، هذا النظام الإستراتيجي موجود ليقنع الرأي العام بأن لا مجال إلا للحرب، وهذا يتم من خلال المثقفين والإعلام، وهو عمل مجموعة، والمثقف هو صوت لا يمكن قياس تأثيره، يوضح للرأي العام ما هو حاصل، يشرح لماذا علينا أن نصنع الحرب، أو لماذا يجب تفاديها، أو ما العدو. من هو العدو؟ الطرف الأقوى والدول الكبيرة هي من يملك حق تعريف عدوها وتحريفه في نفس الوقت، فإذا رأت أن تعريفاً ما لا يخدم مصالحها الإستراتيجية أو الآنية، لذلك تلجأ إلى وضع مصطلحات تحررها من المسؤولية وتوحي بمسؤولية القتيل عما حدث له لا مسؤولية القاتل عن فعلته؛ كما جرى تماما مع ضحايا العسكر في مذابح رابعة والنهضة حيث تم اتهام الضحايا وتتم محاكمتهم سياسيا على جرائم وقعت بحقهم بينما نجا القتلة والمجرمون وعلى الأرجح تم تكريمهم بترقيات استثنائية ومناصب أرفع. كما ابتكرت أمريكا مصطلح «المحارب غير الشرعي» لتبرير السجن أو التعذيب، وهو المحارب الذي لا يرتدي البزة العسكرية، ولا تنطبق عليه بذلك قوانين حقوق الأسرى، كما أن مصطلح «الإرهاب» جاء كمراوغة مشابهة، فبما أن الحرب على الإرهاب ليست حرباً ضد دولة؛ فإن اتفاقات جنيف لا تطبق على أسراه ومحاربيه. يقول «كونيسا»: عند اندلاع الحرب وارتداء الجندي البزة العسكرية، فإنه يصبح – جزئياً – غير مسؤول عن الأشخاص الذين يتسبب في قتلهم ضمن حدود قانون الحرب، وكما أنه يكون محمياً بقواعد حماية الجنود وأسرى الحرب التي تغطيهم. إن قانون الحرب يمثل إلى الآن العدالة التي يطبقها القوي على الضعيف، حيث يبقى جنود الطرف الأقوى محصنين، فالعملية «الإسرائيلية» «الرصاص المصبوب» على غزة أسفرت عن 1400 قتيل فلسطيني، وفي المقابل قُتل 14 جندياً «إسرائيلياً»؛ وهو ما دفع «إسرائيل» لتعديل اتفاقات جنيف التي تفرق بين المدنيين والمحاربين، ما قد يسمح بقتل المدنيين بصورة تضفي على هذه الجريمة شرعية زائفة. وحول أنواع العدو يصنف الكتاب الأعداء إلى "8" أنواع، تتعلق بالصراعات على الحدود أو التنافس الدولي أو الحرب الأهلية والعدو الهمجي حيث يبرر المحتلون عدوانهم بهمجية الشعوب المقهورة المحتلة كما في فلسطين، وهناك أيضا العدو المحجوب وهي هاجس ناجم عن نظرية المؤامرة الكونية والزعم بوجود قوة خفية تهدد الدولة وتبرر الانقلابات العسكرية. وهناك أيضا حرب الخير ضد الشر كما فعل بوش في حربه ضد العراق وأفغانستان وكما يفعل السيسي حاليا باستخدام مصطلح "أهل الشر". وهناك العدو التصوري ويتعلق بالحرب ضد المفاهيم مثل الحرب ضد انتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب الكوني. وأخيرا العدو الإعلامي الذي يبرر الأعمال العسكرية دون وجود عدو من الأساس ودائما ما يتحدث السيسي عن حروب الجيلين الرابع والخامس وما تسمى بحروب الشائعات. السيسي: «الشعب هو العدو» يقدم الطاغية عبد الفتاح السيسي نظريته الخاصة بالعدو، فهو يرى أن الخطر على الدول العربية لم يعد خطرا خارجيا، بل هو خطر داخلي. يقول السيسي في أحد خطاباته: "الجديد في الصراع بين الدول ليس مبنيا على صدام مباشر بين الدولة ودولة أخرى، الجديد في الموضوع النهارده أنه يتم تفكيك الدول من الداخل، وهو أصعب إجراء؛ لأن من يقوم به هم شعوب تلك الدول". «الشعوب» إذا هو العدو الجديد الذي يراه السيسي يستحق المواجهة. وفي خطاب آخر يقول: "الخطر الحقيقي الذي يمر ببلادنا وبالمنطقة التي نوجد فيها هو خطر واحد، وهو تدمير الدول من الداخل، عبر الضغط، والشائعات، والأعمال الإرهابية، وفقد الأمل، والإحساس بالإحباط، كل هذه الأمور تعمل بمنظومة رهيبة للغاية، الهدف منها هو تحريك الناس لتدمير بلدها، لا بد أن ننتبه تماما لما يحاك لنا". السيسي يريد أن يقول لنا عليكم أن تكونوا مطمئنين تماما من ناحية الخارج «إسرائيل والغرب»، وعليكم أن تنتبهوا إلى أعداء الداخل الذين حصرهم بقوله: الشائعات، والأعمال الإرهابية، وفقد الأمل، والإحساس بالإحباط، وهي أدوات من وجهة نظره تهدف ل"تحريك الناس لتدمير بلدها". بمعنى آخر فإن العدو هو تحرك الناس، وليس شيئا آخر! ولا يزال حتى اليوم يتعامل مع العدوان الإثيوبي والإصرار على حجز مياه النيل بصورة لا تتناسب مع حجم التهديد الذي يتعرض له أمن مصر القومي. وهنا لا يهم لماذا تحرك الناس، بل الأهم أن لا يتحركوا أبدا. تصورات السيسي لا تناقش أسباب انتشار الشائعات في الدول العربية فقط، ولم يناقش لماذا تفقد الشعرب العربية الأمل وتشعر بالإحباط، فهذا كله لا يهم. الأخطر في تصورات السيسي أنها تماهي بين النظام والدولة، فالنظام هو الدولة، وإن أي ثورة أو تحركات أو احتجاجات ضد النظام يعني أن الدولة ستفكك وتنهار! بالضبط هذا ما طبقه نظام بشار الأسد حين رفع شعار "إما الأسد أو نحرق البلد"! «في نظرية العدو عند السيسي لا مكان لإسرائيل وأثيوبيا كأعداء، فالنظرية تركز على الداخل، أي الشعوب، أما الخارج فهو صديق للغاية أو يمكن التعامل مع سياسيا» هذا يعني أن كل مقومات الدولة العسكرية والأمنية توجه للحرب على الشعوب وليس أعدائها كالاحتلال الإسرائيلي أو حتى إثيوبيا التي تهدد الأمن القومي المصري بسد النهضة.