أتعجب كثيرا من إثارة الغبار بشكل مستمر حول المادة الثانية فى الدستور التى تحدد هوية مصر ولغتها ودينها ومصدر التشريع فيها، وقد حظيت الصياغة التى احتواها دستور 71 بالرضا من الأغلبية حتى الآن مسيحيين ومسلمين، ومن كل التيارات على قلة أعدادهم مثل العلمانية والليبرالية واليسارية وغيرها.. وإلى هنا يبقى التساؤل: علام يختلفون فى الجمعية التأسيسية إذن؟ طالب الإخوة المنتمون للتيار السلفى بتغيير المادة إما بحذف كلمة المبادئ أو بذكر كلمة أحكام فى نص المادة التى تقول "ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع"، وهنا ثارت الشكوك وجاء من أضاف مرجعية الأزهر لتفسير المادة كلما اختلف عليها، وهناك من طلب إضافة استكمال يسمح لأصحاب الأديان السماوية بالاحتكام لشرائعهم فى الأحوال الشخصية، ودخل فى الحديث من يريد تأجيج نار الفتنة، وظهر من يرفض المادة بأكملها، وبدت المزايدات بين إفراط وتفريط تتصدر المشهد على الرغم من أن الأمر أبسط من ذلك بحكم التاريخ والتجربة، وهناك موقفان أذكرهما لتبيان أن ما حدث لا يخدم أبدا المخلصين من أهل مصر، بل يفتح باب فتنة لا مبرر لها، وأن نص المادة كما هو لا غبار عليه بالنسبة للمسلمين والمسيحيين، وهو الحل الأمثل دون زيادات أو مزايدات! أولا: البابا شنودة استند إلى نص المادة الثانية كما هو عند رفضه حكما قضائيا باتّا بالسماح بالطلاق لغير الأسباب التى اتفق عليها المجمع الكنسى صدر من المحكمة الإدارية العليا، منوها بأن هذا الرفض تنفيذ لنص المادة الثانية، الذى يؤكد أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيس للتشريع، وهو ما يسمح للمسيحيين بالاحتكام إلى شرائعهم فيما يخص الأحوال الشخصية وهو فهم راق وواضح ومباشر لنص المادة التى أثاروا بسببها حوارات ومناقشات لا ضرورة لها!! ثانيا: إنه فى ظل هذه المادة بنفس ألفاظها وثقت مضبطة الجلسة السبعين فى أول يوليو 1982 فى ختام دور الانعقاد لمجلس الشعب المصرى تم الانتهاء من تقنين الشريعة الإسلامية، بعد أن اتخذ المجلس قراره بالبدء فى التقنين فى جلسة 17 ديسمبر 1978، وفى خلال أربع سنوات شكلت فيها اللجان المتخصصة وحشد لها كل علماء مصر فى كل المجالات، وتم الانتهاء من تقنين الشريعة، وفى كلمة الدكتور صوفى أبو طالب فى هذه الجلسة: "إن وضع الشريعة الإسلامية موضع التطبيق والنزول على أحكامها هو عودة بالشعب المصرى بل الأمة العربية والإسلامية كلها إلى ذاتها العربية والإسلامية بعد اغتراب عشناه فى ظل القوانين الأجنبية أكثر من قرن من الزمان، وإنه إنهاء للتناقض بين القيم الأخلاقية نبت هذه الأرض الطيبة والسياج الحضارى الذى يربط شعبها وبين القوانين الوضعية". "وقد روعى فى إعداده وسيراعى فى تطبيقه أحكام الشريعة الإسلامية والمبادئ الدستورية على السواء، بما فيها حرية العقيدة لغير المسلمين، ويكفل المساواة بين المسلمين وغير المسلمين فى الحقوق والواجبات، كما أنه يتعين تفسير أى نص فى الدستور بما يتفق مع باقى نصوصه وليس بمعزل عن أى منها، كما أنه من المسلم به أن مبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء تقرر أن غير المسلمين من أهل الكتاب يخضعون فى أمور أحوالهم الشخصية من زواج وطلاق وغيرهما لشرائع ملتهم، وعلى هذا استقر رأى فقهاء الشريعة منذ أقدم العصور". "أهم الملامح الرئيسية للتقنينات الجديدة تظهر فيما يلى: 1- إن هذه التقنينات مأخوذة من الشريعة الإسلامية نصا أو مخرجة على حكم شرعى أو أصل من أصولها وذلك دون التقيد بمذهب فقهى معين، ومن هنا استنبطت الأحكام من آراء الفقهاء التى تتفق مع ظروف المجتمع. 2- حرصت اللجان الفنية التى تولت إعداد هذه التشريعات على بيان الأصل الشرعى لكل نص من النصوص أو الأصل أو المبدأ الذى خرجت الحكم عليه حتى يمكن الرجوع فى التفسير والتأويل إلى مراجع الفقه الإسلامى بدلا من الالتجاء دائما للفقه الأجنبى. 3- أما بالنسبة للعلاقات الاجتماعية والمعاملات المالية الجديدة التى استحدثت ولم يتطرق لها فقهاء الشريعة اجتهدت اللجان فى استنباط الأحكام التى تتفق مع ظروف المجتمع وروح العصر بشرط مطابقتها لروح الشريعة الإسلامية وأصولها، ومن أمثلة ذلك معاملات البنوك والتأمينات وطرق استثمار الأموال. 4- إنه فى سبيل الحفاظ على التراث الفقهى المصرى ومبادئ القضاء التى استقرت طوال القرن الماضى فقد حرصت اللجان على الأخذ بالمصطلحات القانونية المألوفة ولم تخرج عليها فى الصياغة إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك، أما المضمون والمعانى فهما مطابقان للفقه الإسلامى. والتشريعات التى تم إنجازها هى: 1 - مشروع قانون المعاملات المدنية، ويقع فى أكثر من 1000 مادة (المقرر د. جمال العطيفى) 2 - مشروع قانون الإثبات، ويقع فى 181 مادة، ومشروع قانون التقاضى، ويقع فى 513 مادة (المقرر ا. ممتاز نصار). 3 - مشروع قانون العقوبات: القسم العام والحدود والتعزيرات ويقع فى 635 مادة (المقرر ا. حافظ بدوى). 4 - مشروع قانون التجارة البحرية، ويقع فى 443 مادة (المقرر المستشار أحمد على موسى). 5 - مشروع قانون التجارة، ويقع فى 776 مادة (المقرر د. محمد كامل ليلة). ما زالت كلمة رئيس مجلس الشعب تنطق بالحق وبالمجهود الذى بذل فى أربع سنوات حتى تهدأ نفوس المتشددين وتسكن نفوس المحرضين ولا يوفر كل منه جهده للتصويب فى الاتجاه الصحيح دون تكرار أو تضييع للوقت، والأهم فى حديث رئيس المجلس هو كيفية تطبيق هذه التشريعات، فيتحدث عن كيفية التطبيق فيقول "إن هذا العمل التاريخى الذى كانت إشارة البدء فيه من مجلسكم الموقر ما زال فى حاجة إلى جهد جهيد يتعين أن يسعى إليه كل الذين يريدون للشريعة الازدهار، كل فى مجال تخصصه، وهذا يقتضينا أن نبدأ منذ الآن بما يلى: 1- تهيئة المناخ الاجتماعى لقبول التقنينات الجديدة، ويكون ذلك عن طريق وسائل الإعلام المتعددة، وعقد جلسات استطلاع فى الموضوعات التى جدت فى المجتمع بعد قفل باب الاجتهاد وتبنت اللجنة بعض الآراء فيها. 2- يتعين تنظيم دورات تدريبية حتى ينفتح المجال أمام القضاة لدراسة واستيعاب التشريعات الجديدة. 3- يتعين تغيير برامج كليات الحقوق فى الجامعات المصرية بما يتمشى مع التقنينات الجديدة. ثم أعطى لمقرر كل لجنة الفرصة لاستعراض الخطوط العريضة لكل تشريع!! انتهى والشىء بالشىء يذكر عندما تقدم أحد نواب حزب النور بمشروع قانون حد الحرابة، قلت فى لجنة الاقتراحات والشكاوى إنه لا داعى لعرض اجتهادات جديدة لم تأخذ حظها فى الدراسة بل جمعت من أمهات الكتب دون تدبر أو صياغة ولنبث الروح فيما تم من مجهود حتى لا نكون كالتى نقضت غزلها من بعد أنكاثا قوة!. وأرجو من الذين يثيرون اللغط دون وجه حق عند المادة الثانية أن يتركوها، ففى ظلها -دون أى تعديل- احتكم المسيحيون فى مصر إلى شريعتهم، وتم تقنيين الشريعة الإسلامية إلى مواد قانونية جاهزة للمراجعة والإقرار من مجلس حيل بينه وبين أداء دوره، وهو الذى حصل على شرعية فاقت كل الشرعيات فى مصر، لكن ماذا نفعل للمتآمرين والمتربصين لوقف التطور الطبيعى لمصر ما بعد الثورة، بل يرغبون فى إفشال الثورة التى هددت نفوذهم وفضحت فسادهم وأظهرت عمالتهم! أرجو منهم أن يتريثوا قبل إثارة المشاكل ويبحثوا عن نقاط الاتفاق وعما تم إنجازه حتى لا تضيع أوقات قد نندم على ضياعها فيما بعد. اللهم بلغت اللهم فاشهد.