يطالع القارئ لتاريخ مصر الحديث صفحات سوداء عن حثالات دنيئة من الذين باعوا أنفسهم وأهليهم ووطنهم بثمن بخس للعدو والمحتل الأجنبي فاستحقوا اللعنات في الدنيا والآخرة. ولا يقتصر أمر هؤلاء الخونة على حقبة معينة، بل هو متناثر كالأورام السرطانية الكئيبة بطول الزمن وبخاصة في فترات الضعف التي أصيبت بها أمتنا ومنها زمن الحملة الفرنسية والثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي وأخيرا الكيان الصهيوني. ففي زمن الحملة الفرنسية كان أشهر الخونة هو الأمير العسكري المملوكي مراد بك الذي قاتل الفرنسيين في البداية وهزم في موقعة إمبابة وفر إلى الصعيد. ولأنه لم يكن معتاداً على المعيشة بعيداً عن قصوره وجواريه، فقد بدأت المراسلات بين كليبر ومراد بك، واتفقا على أن يحكم مراد بك الصعيد باسم الجمهورية الفرنسية. وكانت قمة خيانة مراد بك أثناء ثورة القاهرة الثانية، حيث شارك في عمليات القتال ضد المصريين، ومنع عن القاهرة الإمدادات الغذائية ولم يكتفِ بذلك، بل قدم للفرنسيين المؤن والذخائر، وسلمهم العثمانيين اللاجئين إليه، وسعى إلى سحب المماليك الشرفاء الذين يقاتلون الفرنسيين داخل القاهرة إلى جواره لينضموا إليه في معاهدته وينهي بذلك ثورة القاهرة، ولما فشل في ذلك، كان هو الذي أسدى كليبر النصح بأن يحرق القاهرة على من فيها، وهو الذي أمد الفرنسيين بالبارود والمواد الحارقة التي استخدمت بالفعل في تدمير أحياء القاهرة. ولما بدأ الخائن يرى بعينيه نهاية الحملة الفرنسية، ولأنه لا يستطيع أن يعيش بلا خيانة، فقد اتصل بالإنجليز، ونجحت مفاوضاته معهم بالفعل، ولكن قبل نشوب المعركة الأخيرة بين الإنجليز والفرنسيين، أصاب الطاعون مراد، ومات به غير مأسوف عليه. ومن الخونة في زمن الحملة الفرنسية بارثلميو يني الرومي المسيحي المشتهر لدى العامة ب"فرط الرمان" لشدة احمرار وجهه، وقد كان يعمل لدى أحد المصريين، فلما جاءت الحملة الفرنسية انضم إليهم وقاد فيلقاً من الأروام لدعم الاحتلال الفرنسي لمصر، وكان يستمتع بقطع رؤوس الفلاحين البسطاء الذين يلقيهم حظهم العاثر في طريقه أو رؤوس المواطنين الذين يقاومون الاحتلال، لكي يقدم تلك الرؤوس هدية للقوات الغازية. ومنهم بيقولا باباز وغلو، الذي كان خادماً عند مراد بك ورئيساً للترسانة التي أنشأها بالجيزة، فلما جاءت الحملة الفرنسية أنشأ كتيبة من الأقباط منذ الأيام الأولى للحملة على مصر وصل عددها إلى 1500 قبطي في خدمة الحملة، حتى تمت ترقيته بعد ثورة القاهرة الثانية إلى جنرال. ومنهم المدعو "شكر الله" الذي عينه الفرنسيون لجباية الأموال، فنزل بالناس منه ما لا يوصف، إذ كان يدخل إلى دار أي شخصٍ كان لطلب المال الذي عليه ومعه عسكر الفرنسيين والفَعَلة وبأيديهم القرم، فيأمرهم بهدم البيت وقت تاريخه إن لم يدفعوا المقرر عليهم, وكان يحبس الرجال مع النساء ويدخن عليهم بالقطن. ومن الخونة في عهد الفرنسيين المعلم يعقوب - يراه بعض المؤرخين الأقباط مثل لويس عوض وأنور لوقا بطلا ثائرا - الذي قاد فصيلة من الجيش الفرنسي، وتولى جمع الضرائب من أهالي الصعيد، وكان يستخدم أبشع وأعنف الوسائل في الجباية، وساعد كليبر على قمع ثورة القاهرة الثانية، ومع نهاية الحملة الفرنسية ركب معهم السفن المغادرة، ولكنه أصيب بعد يومين من ركوبه السفينة بالحمى ومات، وتم إلقاء جثمانه في البحر. وكان السبب الرئيس لانكسار الثورة العرابية أمام الإنجليز هو الخيانة، بداية من الخديو توفيق الذي استقبل في قصر الرمل بالإسكندرية الأميرال سيمور قائد الأسطول البريطاني، وانحاز إليهم وجعل نفسه وسلطته الحكومية رهن تصرفهم حتى قبل أن يحتلوا الإسكندرية، وأمر أحمد عرابي في كفر الدوار بالكف عن الاستعدادات الحربية، فلما رفض عزله من منصبه. وكان من بين الخونة رئيس مجلس الأعيان محمد باشا سلطان، الذي اغترف من ذهب الإنجليز، وراح يوزعه على البدو والرحل في الصحراء الشرقية، كي ينسحبوا من الجيش أثناء القتال، وكان يرافق جيش الاحتلال في زحفه على العاصمة وأثناء المعارك مع العرابيين بغرض تقديم العون اللازم لتسهيل مهمته. ومن الخونة فرديناند ديلسبس الذي أقنع عرابي بأن الإنجليز سيحترمون حيدة القناة وأثناه عن قرار سدها. وعملت الرشوة فعل السحر في شراء الذمم الضعيفة وصناعة الخونة كالأميرالاي علي يوسف (خنفس باشا) الذي أخلى الطريق للإنجليز عند التل الكبير. وقدم أحد ضباط الجيش البريطاني قائمة بأشهر مشايخ العربان الذين يمكن شراؤهم، ومنهم مسعود الطحاوي في الصالحية -الذي كان مرشدا لعرابي وجاسوسا عليه في الوقت نفسه، وأيضا محمد البقلي في وادي الطميلات، بينما ذكر "بالمر" أنه يستطيع شراء 50 ألف بدوي بمبلغ 25 ألف جنيه. أما عصر الاحتلال الانجليز فقد امتلأ بالخونة ومنهم الشاب محمد نجيب الهلباوي الذي كان وطنيا في بداية الأمر ثم أغراه الذهب وباع نفسه للشيطان الإنجليزي. ألا يذكرك ببعض شباب ثورة 25 يناير ممن انضموا للانقلابيين فيما بعد؟. ومن الخونة القاضي أحمد فتحي زغلول – أخو سعد زغلول - وبطرس باشا غالي اللذين حكما بأحكام قاسية على فلاحي قرية دنشواي، والذي دافع عن القتلة الإنجليز المحامي إبراهيم الهلباوي. ومن الخونة القاضي أحمد الخازندار الذي كانت له مواقف متعسفة في قضايا الفدائيين الوطنيين ضد الإنجليز، حيث أدان بعض شباب الإخوان لاعتدائهم علي جنود بريطانيين في الإسكندرية بالأشغال الشاقة المؤبدة. ومن الخونة وزير الداخلية ورئيس الوزراء المجرم محمود فهمي النقراشي الذي أعاد فتح باب المفاوضات مع بريطانيا على أساس التمسك بمعاهدة 1936م التي أعطت مصر استقلالاُ منقوصاً يتمثل في بقاء قوات بريطانية في مصر لتأمين قناة السويس، فلما خرجت مظاهرات الطلبة معترضة قام بفتح الكوبري عليها وبدأ الاعتداء على الطلبة فسقط البعض في النيل وقتل وجرح أكثر من مائتي فرد، وواصل أدواره القذرة وسلم فلسطين لليهود بعدة وسائل منها تسليم القيادة العامة للجيوش العربية المسلحة إلى إنجليزي صهيوني هو جلوب باشا، وعدم وضع خطة محكمة لتحركات الجيش وتسليحه بأسلحة فاسدة، وقبول الهدنة ليلتقط الصهاينة أنفاسهم، وأخيرا سجن المتطوعين المجاهدين لتحرير فلسطين. قائمة الخونة طويلة لكنني أؤكد لكم أنهم في النهاية قد ذهبوا إلى مزبلة التاريخ، تماما كما سيذهب غيرهم من الخونة والعملاء (الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد)، فانتظروا لتشاهدوا كيف سيصب عليهم سوط العذاب قريبا إن شاء الله.