أقل من شهر.. جدول امتحانات الشهادة الإعدادية 2024 بمحافظتي القاهرة والجيزة    حملة مقاطعة الأسماك: وصلنا ل25 محافظة.. والتاجر تعود على المكسب الكبير مش عايز ينزل عنه    رئيس برنامج دمج أبناء سيناء يكشف جهود الدولة لتحقيق التنمية المستدامة    الأسهم الأوروبية تنخفض عند الإغلاق مع استيعاب المستثمرين للأرباح الجديدة    حماس تكشف عن عرض قدمته لإسرائيل لوقف إطلاق النار: مجندة أمام 50 أسيرا وأسيرة    علي فرج يواصل رحلة الدفاع عن لقبه ويتأهل لنهائي بطولة الجونة للإسكواش    صدمة قاتلة لبرشلونة بشأن الصفقة الذهبية    موقف ثلاثي بايرن ميونخ من مواجهة ريال مدريد في دوري أبطال أوروبا    الأرصاد: تسجيل مزيد من الانخفاض في درجات الحرارة غدا الجمعة    تامر عاشور وأحمد سعد يجتمعان بحفل غنائي بالإمارات في يونيو المقبل    التغيرات المناخية ودور الذكاء الاصطناعي.. لقاء ثقافي في ملتقى أهل مصر بمطروح    هالة صدقي: «صلاح السعدني أنقى قلب تعاملت معه في الوسط الفني»    تخصيص غرف بالمستشفيات ل«الإجهاد الحراري» في سوهاج تزامنًا مع ارتفاع درجات الحرارة    عضو بالشيوخ: ذكرى تحرير سيناء تمثل ملحمة الفداء والإصرار لاستعادة الأرض    بفستان أبيض في أسود.. منى زكي بإطلالة جذابة في أحدث ظهور لها    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    لماذا حذرت المديريات التعليمية والمدارس من حيازة المحمول أثناء الامتحانات؟    فيديو.. مسئول بالزراعة: نعمل حاليا على نطاق بحثي لزراعة البن    الجيش الأردني ينفذ 6 إنزالات لمساعدات على شمال غزة    الكرملين حول الإمداد السري للصواريخ الأمريكية لكييف: تأكيد على تورط واشنطن في الصراع    أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية بالاستفزازية    وزارة التموين تمنح علاوة 300 جنيها لمزارعى البنجر عن شهرى مارس وأبريل    المغرب يستنكر بشدة ويشجب اقتحام متطرفين باحات المسجد الأقصى    الأهلى يخسر أمام بترو الأنجولي فى نصف نهائى الكؤوس الأفريقية لسيدات اليد    عامل يتهم 3 أطفال باستدراج نجله والاعتداء عليه جنسيا في الدقهلية    تشكيل الزمالك المتوقع أمام دريمز الغاني بعد عودة زيزو وفتوح    يمنحهم الطاقة والنشاط.. 3 أبراج تعشق فصل الصيف    في اليوم العالمي للملاريا.. أعراض تؤكد إصابتك بالمرض (تحرك فورًا)    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    سبب غياب حارس الزمالك عن موقعة دريمز الغاني بالكونفيدرالية    استجابة لشكاوى المواطنين.. حملة مكبرة لمنع الإشغالات وتحرير5 محاضر و18حالة إزالة بالبساتين    دعاء يوم الجمعة.. ساعة استجابة تنال فيها رضا الله    تشيلي تستضيف الألعاب العالمية الصيفية 2027 السابعة عشر للأولمبياد الخاص بمشاركة 170 دولة من بينهم مصر    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    دعاء الاستخارة بدون صلاة .. يجوز للمرأة الحائض في هذه الحالات    مدرب صن دوانز: الفشل في دوري الأبطال؟!.. جوارديولا فاز مرة في 12 عاما!    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    إصابة سيدة وأبنائها في حادث انقلاب سيارة ملاكي بالدقهلية    جامعة حلوان توقع مذكرتي تفاهم مع جامعة الجلفة الجزائرية    رد فعل غير متوقع من منة تيسير إذا تبدل ابنها مع أسرة آخرى.. فيديو    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    طريقة عمل مافن الشوكولاتة بمكونات بسيطة.. «حلوى سريعة لأطفالك»    ضبط عامل بتهمة إطلاق أعيرة نارية لترويع المواطنين في الخصوص    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    الرئيس السيسي: نرفض تهجير الفلسطينيين حفاظا على القضية وحماية لأمن مصر    مستقبل وطن: تحرير سيناء يوم مشهود في تاريخ الوطنية المصرية    أبطال سيناء.. «صابحة الرفاعي» فدائية خدعت إسرائيل بقطعة قماش على صدر ابنها    محافظ قنا: 88 مليون جنيه لتمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر خلال العام الحالي    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    هيئة الرعاية بالأقصر تعلن رفع درجة الاستعداد تزامنا مع خطة تأمين ذكرى تحرير سيناء    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحزان هزيمة الثورة العرابية.. ودهاء سلطات الاحتلال د. صبرى حافظ
نشر في التحرير يوم 07 - 12 - 2013

ثمة مفارقة مدهشة فى تاريخ مصر الحديث تتصل بلا شك بما جرى فى الثورة العرابية، بل ويعود الفضل فيها إلى يقظة الوعى الوطنى المصرى التى فجر أحمد عرابى شرارتها الأولى فى وقفة عابدين الشهيرة عام 1881. فعلى الرغم من نجاح بريطانيا، كقوة عظمى فى ذلك الوقت، فى احتلال مصر، مدعومة بأفضل تكنولوجيا حربية وعتاد وجيش عرمرم وقوده الهنود والأفارقة، وبأكثر السياسات مكيافيلية كما بينت، وبتخطيط ودهاء ماكر دقيق على الجبهة الدولية، وخيانات بشعة على الجبهة الداخلية التى تحدثنا عن امتدادها من الخديو وكبار الأعيان، وحتى أبرز المثقفين وبدو الصحراء، فإنها فشلت فى أن تجعلها مستعمرة بريطانية، أو أن تضمها إلى التاج البريطانى الذى لم تكن تغرب عنه الشمس وقتها، وما زال إرثه وطيفه بعدما انصرم فاعلا حتى اليوم فى ما يعرف باسم «الكومنولث» ومنظمة بلدانه التى لا تعد مصر واحدة منها. وهو أمر يحسب لمصر، وينتقص من قدرة القوة العظمى وقتها، بعد نجاحها فى استعمار الأرض لكل ما ذكرته من أسباب، على فرض إرادتها الرمزية عليها، أو بالمعنى الجرامشى فرض هيمنتها المعنوية على شعبها العظيم، لأنه يتأبى على الإخضاع برغم صبره الحضارى العريق، أو بالأحرى بسببه. وهو نفس الإخفاق الذى يتكرر الآن، وبدرجات وتجليات مختلفة بالنسبة للقوة الأمريكية العظمى الجديدة مع ثورة 25 يناير.
القنصل البريطانى الذى حرض الخديو على قتل عرابى شهد بأن الحركة العسكرية المصرية كانت وطنية ونشأت بين الضباط العرب بسبب وضع القيادة فى يد الأتراك والشركس
رغم احتلال بريطانيا مصر فإنها فشلت فى جعلها مستعمرَة أو ضمّها إلى التاج الملكى الذى لم تكن تغرب عنه الشمس
بريطانيا اضطرت بين عامى 1882 و1907 إلى إصدار 120 إعلانًا باعتزامها الانسحاب من مصر
فقد ظل احتلال بريطانيا لمصر، بالرغم من استمرار جيشها فيها لسبعين عاما، مسألة إشكالية وخلافية فى بريطانيا ذاتها. تحول حتى بين الإنجليز أنفسهم وبين اعتبار مصر مستعمرة من مستعمراتهم، برغم رغبة كثيرين منهم فى ذلك. ناهيك بضمها إلى ممتلكات التاج البريطانى. فقد اضطرت مصر بريطانيا إلى أن تصدر بين 1882، تاريخ احتلالها لمصر بعد هزيمة الثورة العرابية، و1907 تاريخ مغادرة اللورد كرومر لها عقب فضيحة مذبحة دنشواى المدوية، 120 إعلانا باعتزام الانسحاب من مصر. طبقا لما وثقته المؤرخة المصرية المرموقة عفاف لطفى السيد فى كتابها الشهير (Egypt and Cromer: A Study in Anglo-Egyptian Relations, 1968, p. xi and 72) أو 72 إعلانا باعتزامها مغادرة مصر كلية، وفقا للمؤرخ الإنجليزى النزيه بيتر مانسفيلد (Peter Mansfield, The British in Egypt, 1971, p.ix.)، وحتى نفهم سر هذه المفارقة الجميلة التى تزيدنا إيمانا باستحالة إخضاع مصر وشعبها الأبىّ، مهما تحالف عليها أعداء الداخل والخارج على السواء، وهو درس أرجو أن يفهمه العسكر والإخوان معا، علينا أن ننتقل إلى الرجال الثلاثة الباقين من الرجال الخمسة الذين أشرت إليهم من قبل: وهم أحمد عرابى وكرومر وبلنت. وأن نتعرف على الأدوار التى لعبها كل منهم، وعلى ما دار لا فى مصر وحدها، عقب وصول قوات ولسلى إلى القاهرة بعد انتصارها ب«الولس» فى معركة التل الكبير، ومباركة الخديو وبطانته للاحتلال والانصياع له، ولكن أيضا فى بريطانيا نفسها التى كان بلنت قد أشعل فيها الرأى العام ضد الاحتلال وافتقاده للمشروعية والأخلاقية.
فلا يمكن بأى حال من الأحوال أن نأخذ تهليل بشارة تقلا فى «الأهرام» صبيحة الاحتلال ب«بشراك يا مصر» على علّاته. لأن الصورة على الجانب الآخر فى بريطانيا كانت مختلفة تماما، لأننا لحسن الحظ نعيش فى عالم إنسانى وليس فى غابة يستطيع فيها القوى أن يفعل ما شاء، برغم تعضيد الخونة له. فمهما كانت موازين القوى مختلّة، ومهما كان صاحب الحق ضعيفا لا يفطن للمؤامرات التى تحاك له فى الخارج والداخل على السواء، سيظل هناك ضمير إنسانى يدافع عنه، وسيظل هناك من يقول لا فى وجه من قالوا نعم، فيعيش روحا عبقرية كما قال شاعر جيلنا الراحل الكبير أمل دنقل. حتى ولو كان صوتا متوحدا فى البرية، كما سنرى. وسيظل للحق المدعوم بالموقف الأخلاقى الأعلى صوتٌ مسموعٌ، حتى داخل معسكر الباطل نفسه، بل الباطل المسلح بأقوى الجيوش فى العالم فى ذلك الوقت، يعرقل مؤامراته، ويدفعه إلى إعادة ترتيب أوراقه.
فلم يكن الأمر، كما تكشف لنا الوثائق الآن صداما بين بريطانيا ومصر، لأن مصر كانت دوما موضوعا لمؤامرات الآخرين ومطامحهم، ولمكائد كل من يستشعرون الخطر من استقلال إرادتها، ويسعون حتى اليوم لحرمانها من أن تلعب الدور الجدير بها فى عالمها ومحيطها. وإنما كان الصراع فى حقيقة الأمر بين نزعة استعمارية منتشية بإنجازات العصر الفيكتورى، الذى كانت لبريطانيا فيه إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، يمثلها اللورد كرومر، وبين الجانب الإنسانى والأخلاقى فى الثقافة الإنجليزية نفسها، يمثله ويلفريد سكاون بلنت، الذى دعم عرابى ورؤيته الوطنية حتى اللحظة الأخيرة. لأن ثقافته كشاعر وضميره الإنسانى كانا يمليان عليه أن يقف إلى جانب الحق، حق المصريين فى التعبير عن أنفسهم، وفى إدارة شؤون بلادهم. فالحقيقة واحدة وذات وجه مضىء، أما الكذب والزيف فمتعدد المسوخ. بل إن الوثائق البريطانية نفسها تحفظ لنا رسالة من تشارلز كوكسن، القنصل البريطانى فى الإسكندرية وقتها الذى حرض الخديو يوم وقفة 9 سبتمبر 1881 الشهيرة أمام قصر عابدين على قتل عرابى، بعث بها إلى وزير خارجية بريطانيا وقتها لورد جرانفيل ذكر فيها بالحرف الواحد «إن الحركة العسكرية هى حركة وطنية صميمة نشأت بين الضباط العرب أنفسهم، الذين يشعرون بجرح الإهانة بسبب وضع القيادة فى يد الأتراك والشركس حصريا، وللأسف فهم لا يثقون على الإطلاق بتأكيدات الخديو ورياض باشا». كما قال القنصل البريطانى سير إدوار ماليت فى رسالة له عنها إلى وزير خارجيته اللورد جرانفيل: «إنها فى الأصل حركة مصرية لا شبهة فيها ضد استبداد الحكم التركى.. ومع أنها موجهة ضد الأتراك فى الأصل، فإنها فى صميمها نهضة مصرية وطنية، تعنى فى الوقت الحاضر بتجنب الإساءة إلى الأوروبيين لحاجتها إليهم فى الصراع القائم بينها وبين خصومها المباشرين. ومع ذلك لا تستطيع أن تبذل ودها للأوروبيين، أو تتمنى شيئا غير التخلص منهم فى يوم من الأيام».
كما أن اللورد كرومر نفسه، وهو مهندس نجاح الاحتلال الإنجليزى لمصر، كما سنرى بعد قليل، يعترف بعد عودته لبريطانيا فى كتابه الشهير «مصر الحديثة» بأن الحركة العرابية «حركة وطنية لا شبهة فيها ضد استبداد الحكم التركى، ومع أنها موجهة ضد الأتراك فى الأصل، إلا أنها فى صميمها مصرية وطنية». بل ويعترف بشكل أكثر صراحة ووضوحا بأهميتها وانتصارها حينما يقول «إن الثورة العرابية كانت منتصرة على طول الخط، وناجحة مئة فى المئة، لولا عدوان بريطانيا الذى قضى على النهضة المصرية، وأعاد للخديو نفوذه وهيبته». لكن دعنا نرسم صورة ما دار عشية انتصار الإنجليز فى التل الكبير فى كل من مصر وبريطانيا، حتى نعرف حقيقة الدور الذى قام به كل رجل من الرجال الثلاثة، وكيف أثرت عملية تقاطع مصائرهم على بعضهم البعض.
ولا شك عندى، بعدما غرقت فى القراءة عن الثورة العرابية منذ عودتى من سيريلانكا وتتبع آثار عرابى فيها، بل وحتى قبل زيارتى لها، أن وقع هزيمة الثورة العرابية على عرابى وصحبه، وعلى شعب مصر الصميم من ورائهم كان شديد المرارة وفادح الأثر. لأنه انتهى حقيقة باحتلال بريطانيا لمصر من وراء الواجهة الوهمية لاستعادة الخديو سلطته. وأطاح بحلم مصر فى النهضة الحقيقية وفى الحرية والعدل لسنوات طويلة. وقد عشت، كما عاش جيلى كله فى شرخ الشباب، علقم وقع الهزيمة الدامية عام 1967 على الروح المصرية والعربية من ورائها، وهو ما يجعلنى مدركا لفداحة هزيمة الثورة العرابية على مصر وقتها، وعلى نفسية شعبها العظيم. والغريب فى الأمر أننى كلما قرأت عما جرى إبان هذا العام الثقيل الممتد من نشوة وقفة عابدين فى 9 سبتمبر 1881 التى تذكرنا بنشوة العزة والتحقق فى 11 فبراير 2011، والمنتهى بهزيمة التل الكبير فى 14 سبتمبر من العام التالى، والتى تعيد إلى الذاكرة مشاهد هزيمة يونيو 76، كلما تبدت لى مشاهد متكررة مما عشته ولا نزال نعيشه من تبدلات المصائر والأحداث فى الثورة المصرية الراهنة من ناحية، وما عاشه جيلى خصوصا من أحزان على مد الساحة العربية الممتدة من ناحية أخرى.
فمن يقرأ تفاصيل وقائع ضرب الإسكندرية بأوهى الأعذار يوم 11 يوليو 1882 يشعر كأنه يتابع فصولا من عملية الرصاص المصبوب فى غزة، وليس عملية اختلاق الذرائع الكاذبة فى أحداث ضرب الطوابى فى الإسكندرية. فقد قتل فى هذا اليوم الذى دافع فيه المصريون ببسالة عن المدينة أكثر من ألفى مصرى بينما لم يخسر الإنجليز سوى خمسة قتلى. أو كأنه يقرأ عن قصف بغداد فى 2003 حيث مات آلاف من العراقيين، بينما لم يخسر الأمريكان غير حفنة من الجنود. ومن يتابع ما جرى فى القصاصين والتل الكبير، من تخبط فى الإدارة والتخطيط، يخيل له أنه يقرأ فيها صفحات اجتياح سيناء عام 1967 وبنفس خطة اجتياحها عام 1956. ناهيك باجتياح بيروت عام 1882، أو اجتياح الإنجليز للبصرة عام 2003. كأننا لم نتعلم شيئا من تاريخنا القريب، حيث تضرب قوة عسكرية غاشمة ولا خلاق لها، ولكنها مسلحة بالتفوق التكنولوجى والعتاد العسكرى الكبير، قوة أقل منها تسليحا وتقدما وعتادا فتسحقها برغم تسلح الأخيرة بالموقف الأخلاقى الأعلى.
وبالرغم من افتقار الاحتلال كلية لأى مشروعية سياسية أو أخلاقية، حسب اعتراف كثير من الساسة والمثقفين الإنجليز أنفسهم. فإن من يقرأ كيف انهالت على المحتلين التهانى وقتها يزداد غما وكمدا. حيث نقرأ فيما جرى كثيرا مما يدور اليوم أيضا. فما إن هنأت فرنسا إنجلترا على انتصارها فى التل الكبير حتى كان رد اللورد جرانفيل وزير خارجية بريطانيا دالًّا «إن موقعة التل الكبير هى انتصار أوروبى، ولو انهزم الجيش الإنجليزى لكان ذلك كارثة على كل الدول التى تحسب حسابا للتعصب الإسلامى»، وهو الأمر الذى يؤكده مسيو ديكليرك رئيس وزراء فرنسا للسفير البريطانى بباريس بقوله «إن لانتصار الإنجليز على العرب فى مصر، نتيجة طيبة لفرنسا فى تونس والجزائر». لكن الدوائر قد دارت الآن دورة كاملة. وأصبح همّ الولايات المتحدة الأمريكية الآن بعد ما تم تدجينها لأجنحة متعددة من الإسلامجية هو تسليم المنطقة برمتها للتعصب الإسلامى الذى كان أسلافها من الإنجليز والفرنسيين يخشونه. كى يحيلوها إلى كانتونات وجيوب طائفية متصارعة لا سبيل إلى النهوض بها أبدا. وكى يبرر وجود تلك الجيوب القائمة على أسس دينية وطائفية ديمومة دولة الاستيطان الصهيونى فى المنطقة، بل وسيطرتها عليها.
وما يزيد المتابع غما وكمدا، أن التهانى لم تقتصر على المعسكر الغربى وحده، فقد قرأنا تهليل جريدة «الأهرام» وكتابات المثقفين المهزومين الخونة فى مصر من عينة بشارة تكلا وهم يهتفون «بشراك يا مصر بشراك! فقد نلت المنى ودخلت العساكر الإنجليزية باسم الحضرة الخديوية عاصمة بلادك فاحتلتها وقبضت على عرابى وطلبة وإخوانهما، واستلمت القلعة وقصر النيل وسواهما من المراكز العسكرية. وتسنى لسمو خديوك المعظم أن يتم فيك مقاصده النبيلة الآيلة إلى نجاحك ورقيك. وانفتحت لأبنائك أبواب العصر الجديد فادخلوها بسلام آمنين». كما قالت «الأهرام» صبيحة 15 سبتمبر 1882. كما أقبلت وفود الأعيان بزعامة محمد سلطان باشا وأحمد السيوفى وغيرهما على رياض باشا تخبره بأن أعيان البلاد من المرتشين والخونة يريدون أن يقدموا لقادة الاحتلال هدايا فاخرة «شكرا لهم على إنقاذ البلاد من غوائل الفتنة». فكان نصيب ويلسلى بطل مذبحة التل الكبير سيفا من الذهب الخالص، بينما كان نصيب سيمور مخرب الإسكندرية طبنجة من ألماس. وسرعان ما رد الإنجليز على الهدايا بأحسن منها فأنعموا على سلطان باشا بوسام «صليب القديس جورج» البريطانى مكافأة لما بذله فى خدمة الجيش الإنجليزى، علّه يصلب عليه فى نار جهنم. وزاده عليه الخديو بالوسام المجيدى وعشرة آلاف جنيه من الذهب الخالص مكافأة له على خيانة مصر والعرابيين. وتوالت النعم على مشايخ بدو الشرقية وفى مقدمتهم سعود الطحاوى ومحمد البقلى بعد رشوات إدوار بالمر ومحمد سلطان السابقة لهم، تقديرا لجهودهم فى توطئة الجبهة الشرقية لجيش الاحتلال.
ولم يقتصر الأمر على ذلك. فقد فتحت أبواب السجون للوطنيين والشرفاء وعلى رأسهم حسن الشريعى باشا وزير الأوقاف، وعبد الله فكرى باشا وزير المعارف، والشيخ محمد عبده والشيخ الإمبابى شيخ الأزهر الذى أفتى بمروق الخديو من الدين وخيانته للوطن والشيخ العدوى وغيرهما من صفوة العلماء والمثقفين، كما تم تسريح كل الضباط فوق رتبة بكباشى وتجريدهم من رواتبهم وممتلكاتهم. حتى بلغ عدد المسجونين 29 ألفا، ولم يتمكن من الاختفاء سوى عبد الله النديم. حتى الذين نجحوا فى الهرب من مصر من الثوار مثل السيد حسن موسى العقاد سر تجار القاهرة، والقائمقام سليمان سامى أحد قادة الدفاع عن الإسكندرية، وكانا قد تمكنا من الهرب إلى كريت، فإن الخديو أرسل للحكومة التركية يطلب تسليمهما، فاستجابت ثم حاكمَ سليمان سامى بتهمة حرق الإسكندرية وحكم عليه بالإعدام. وقد رافق هذا بالطبع مكافأة الخونة وإثابتهم على خيانتهم فعين الشيخ المهدى شيخا للأزهر مكان الشيخ الإمبابى الذى كان قد أفتى بمروق الخديو عن الدين، وعين عمر لطفى وزيرا للحربية وعلى مبارك وزيرا للمعارف، فأى معارف سيقدمها مثل هذا الخائن للجيل الجديد. ونوبار باشا نصير التدخل الأجنبى وزيرا للمالية وقائمة هذه الوزارة تكشف عن عار ما بعد الاحتلال. إذ تنطق بهذا التراجع الجذرى والتدهور برغم أن محمد شريف باشا كان رئيس الوزراء ووزير الخارجية فيها.
الخديو دعا أنصاره إلى تشويه صورة عرابى بعد عجزه عن إعدامه بأمر من الإنجليز
فى مثل هذا المناخ الكئيب كانت الوقائع كلها تشير إلى أن عرابى سيعدم حتما، ليس فقط تنفيذا لإعلان السلطان الأحمق بعصيانه، ولا حتى كى يشفى الخديو غليله منه، فقد كان توفيق مشوقا للانتقام منه منذ هوانه أمامه يوم وقفة عابدين الشهيرة. ولكن أيضا لأن مسار الوقائع يحتم ذلك. فنحن من الناحية القانونية المحضة بإزاء ضابط تمرد على سلطة الخديو، وعصى كل أوامر رؤسائه، وأعلن الحرب على الحاكم الفعلى للبلاد، وكلها أمور تستوجب الإعدام رميا بالرصاص وفقا لكل القوانين العسكرية، وإحقاقا للعدالة. وكان توفيق يتطلع إلى اليوم الذى ينتقم فيه من عرابى ويساق هو وزملاؤه إلى المشنقة. ولم يكن حرص الخديو على إعدام عرابى، وجعله مثالا لكل من تسول له نفسه التمرد على سلطاته خافيا عن بريطانيا التى كان لها رأى آخر فى المسألة برمتها.
فقد حرص اللورد جرانفيل، وزير خارجية بريطانيا ومهندس عملية احتلال مصر برغم تردد رئيس وزرائه جلادستون، على أن يرسى ما عرف فى ما بعد باسم «مبدأ جرانفيل» فى حكم مصر. إذ بعث رسالة إلى معتمد بريطانيا الجديد فى مصر إيفلين بارنج «وهو من سيصبح فى ما بعد اللورد كرومر، بعد الإنعام عليه باللقب» قال فيها: «يجب عند البحث فى المسائل المهمة الخاصة بسلامة مصر وإدارتها أن تتبع نصائح حكومة جلالة الملكة، ما دام الاحتلال المؤقت مستمرا، وعلى الوزراء والمديرين تنفيذ هذه النصائح، وإلا أقيلوهم من وظائفهم»! هكذا تم إرساء القاعدة التى ستحكم على أساسها مصر من قصر الدوبارة، مقر السفارة البريطانية حتى اليوم، لسبعين عاما تالية. وكان لا بد من تطبيق هذا المبدأ على أكبر رأس فى الدولة أولا! وسوف يعاد اللجوء إليه بالنسبة لأكبر رأس فى الدولة أيضا فى حادثة 4 فبراير الشهيرة عام 1942، التى أوشك فيها الإنجليز على الإطاحة بالملك فاروق لمخالفته أوامرهم الصارمة بدعوة مصطفى النحاس لتأليف حكومة وفدية، لولا أن أحمد حسنين باشا أنقذه فى اللحظة الأخيرة. لكن دعنا نتعرف أولا على الممارسة الأولى والحاسمة لهذا المبدأ.
فقد أعلنت بريطانيا، بعد تقديم عرابى وصحبه للمحاكمة عن رغبتها فى أن لا يحكم على أى منهم بالإعدام. وقوبل هذا الإعلان فى مصر بالوجوم، والغيظ الشديد من الخديو وبطانته. وقد حاول الخديو تجاهل هذه الرغبة البريطانية، وأوعز للوزارة العميلة برفضها. لكن أمر اللورد جرانفيل جاء صارما فى إنذار حاسم: «ليس هذا أوان ظهور الحكومة المصرية بمظهر الممانعة والمعارضة، وإن استمرارها على هذا الإجراء يعرضها للفشل والخطر. ولا تكون هذه النتيجة مقتصرة على الوزارة وحدها، بل تتناول مركز الخديو نفسه. وإذا لم تقبل الحكومة المصرية وجهة نظر الحكومة الإنجليزية، فلا يسع هذه إلا أن تتحمل تبعة ما يترتب على رفضها من النتائج السيئة بعد انقضاء ثمانية أيام من تبليغ هذا الإنذار». هكذا يسفر «مبدأ جرانفيل» الذى أرساه كرومر، والذى يتيح للإدارة الإنجليزية طرد أى مسؤول مصرى لا ينصاع لها، عن أنيابه من الأيام الأولى للاحتلال، ومع أكبر رأس فى البلاد. ولم يكن باستطاعة الخديو الذى توهم أن الإنجليز جاؤوا للقضاء على الثورة ولتوطيد حكمه، وأن تدخلهم موقوت بهذا الأمر، إلا الانصياع. فقد كشف له جرانفيل عن أن العزل قد يكون جزاءه إذا ما جرؤ على معارضة أسياده، كما حدث لأبيه من قبل. فما كان منه إلا أن دعا أنصاره إلى تشويه صورة عرابى بعد عجزه عن إعدامه، وذلك بالإعدام المعنوى الذى أشاع أن حرص الإنجليز على حياته ليست إلا «ثمن» تواطؤ عرابى مع ويلسلى فى التل الكبير، وهى الإشاعة التى كان لها أثر مرير فى نفوس المصريين فوق مرارة الهزيمة والخيانة. وهكذا تمت محاكمة عرابى فى مناخ تم فيه الحكم عليه بالإعدام معنويا. ولم يشأ الإنجليز تطهير ساحة عرابى من تلك الأكاذيب، برغم معرفتهم بكذبها. فقد كان من مصلحتهم تلويث الجميع: الخونة منهم والوطنيين. ولم نعرف الحقيقة إلا بعد ربع قرن كامل، وبعد ظهور كتاب كرومر وشهادته على ما جرى، ولم تتداول الحركة الثقافية أو التاريخية المصرية طوال ربع قرن أى تفسير غير ذلك التفسير الحقير الذى أشاعه الخديو وبطانته. حيث يؤكد كرومر فى كتابه ذاك «مصر الحديثة» الذى ترجم الجزء الخاص منه عن الثورة العرابية، عبد العزير عرابى، ابن أحمد عرابى، «أن بلاده هى التى حالت دون إعدام عرابى، لأن قتله كان يرفعه إلى مصاف الشهداء، فوق منزلته كبطل وزعيم. بينما لا يتكفل بالقضاء على شهرته، والزج به فى عالم النسيان إلا النفى والإبعاد. ولأن بريطانيا من جهة أخرى كانت تهدف إلى تهدئة الخواطر عقب الاحتلال لا إثارتها من جديد بقتل الزعماء. فليس من تقاليد بريطانيا إعدام أعدائها بعد هزيمتهم، وإلا لأعدمت نابليون الذى دوخها ودوخ أوروبا معها. ألم تنف نابليون من قبل إلى سانت هيلانة!» (راجع الثورة العرابية للورد كرومر، ترجمة عبد العزيز عرابى).
لكن الأمر لا يعود فحسب إلى تقاليد بريطانيا، ولا حتى إلى رفضها رفعه إلى مرتبة الشهداء، وإنما أيضا إلى ما كان يدور على الساحة البريطانية فى الفترة نفسها، وإلى الدور الذى لعبه ويلفريد بلنت وأصدقاؤه من المدافعين عن الحق، فى مواجهة دهاء كرومر السياسى وحكمته. وهذا ما سنتعرف عليه فى الأسبوع القادم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.