قوى داخلية وخارجية نشطت ضد الثورة العرابية.. كما تنشط مثيلاتها الآن ضد ثورة 25 يناير عبد الله النديم كان أبرز الأصوات التى بلورت أهداف الثورة العرابية وآمال الشعب فى التقدم والإصلاح البارودى اعترض على نزول الخديو توفيق على إرادة القناصل الأوروبيين ضمن «مؤامرة الضباط الشراكسة» التى كانت بداية الخراب والثورة المضادة السيناتور جون ماكين أصر على رحيل الأمريكيين المتهمين فى قضايا التمويل الأجنبى لبعض منظمات المجتمع المدنى مغادرة الأجانب بالآلاف للإسكندرية إثر مذبحة دبرت فى بيت القنصل الإنجليزى «كوكسن» خلقت مناخًا دوليًّا يوصى بغياب الاستقرار عن مصر.. وهو أشبه بما يحدث الآن كانت الثورة العرابية أولى الثورات الدستورية الكبرى فى العالم العربى، ولكنها لم تكن، مثلها فى ذلك مثل ثورة 25 يناير، وجل الثورات الكبرى التى تعبر عن مطامح الشعوب العريضة، تصميما هندسيا مكتمل الأركان، ولا عملية جراحية تامة التعقيم، لأن هذه هى سمة الانقلابات العسكرية وحدها، ولكنها ثورة شعبية حقيقية، ملحمة شعب اندفع إليها الناس بحوافز ماضيهم وحاضرهم وأحلامهم وثقافتهم، وعبء التاريخ الذى يحملونه على ظهورهم، سواء أوعوا ذلك أو أم لم يدركوه، وتماما مثل ثورة 25 يناير كانت هناك قوى كثيرة معها، وجموع شعبية غفيرة تشعر بأنها تعبر عنها وأنها ذات مصلحة فيها، وقوى أكثر تنظيما ضدها، عملت على إجهاضها، بل وأدها وتشويه رموزها. صحيح أنها كانت ثورة ذات قيادة، عملت لسنوات فى السر عبر الحزب الوطنى الذى تزعمه أحمد عرابى، ولم يخرج إلى العلن إلا بعد انتصار الثورة فى مظاهرة ميدان عابدين الشهيرة، وتأليف حكومة محمد شريف باشا التى تمخضت عنها الثورة. وضمت بين صفوفها الأعيان والمثقفين والضباط، لكن كان لها، كثورة 25 يناير تماما، أعداء أكثر تنظيما وأشد حنكة، وأوفر دعما فى الداخل والخارج على السواء. ليسوا هم أعداء كل تغيير، قد يفقدهم بعض مواقعهم ومزاياهم القديمة، وهو أمر تستطيع الثورات الواعية التغلب عليه. ولكن كان عليها، كما هو الحال الآن مع ثورة 25 يناير، أن تواجه وهى لا تزال غضّة لم يتصلب عودها بعد، ولم تتبلور قواعدها الشعبية والمؤسسية الجديدة، قوى خارجية جبارة تتآمر على مصر من أجل تحقيق مصالحها، من ناحية، ومن أجل أن تظل مصر مهيضة وتابعة من ناحية أخرى، وهذا هو الأخطر والأهم. فقد كانت هناك دائما بسبب موقع مصر وقدرها التاريخى، ومنذ الثورة العرابية وحتى اليوم، شبكة من المصالح والقوى المتحالفة أحيانا والمتصارعة أخرى، تحيط بمصر. وتعى جميعها مدى خطورة أى نهضة حقيقية فيها على مصالحها المختلفة فى المنطقة، وحتى على صبواتها فى التحقق الداخلى، كانت تتمثل أيام الثورة العرابية فى القوى المحلية التى تمالئ تركيا، وفى القوى الخارجية الكبرى وهى إنجلتراوفرنسا، وتتمثل الآن فى العدو الصهيونى، واستراتيجيات الهيمنة الأمريكية، وشبكة القوى العربية المتخلفة التى لا دور لها إلا فى غياب دور مصر، والمدعومة بقدرات نفطية ومالية جبارة. وقد نشطت هذه القوى ضد الثورة العربية، كما تنشط الآن ضد ثورة 25 يناير، منذ أن بدأ محمد شريف باشا بوضع «اللائحة الأساسية» أى الدستور. وقد وضع على أحدث المبادئ العصرية، متضمنا القواعد الأساسية للنظم البرلمانية من فصل بين السلطات، وتقنين إصدار القوانين، والرقابة على الميزانية، وعدم فرض أى ضرائب إلا بموافقته، وغير ذلك من القواعد الدستورية المنظمة للحريات والضامنة لها. وما إن عرض هذا الدستور على البرلمان، وصادق عليه فى يناير 1882 حتى تدخلت كل من إنجلتراوفرنسا، وقدمتا مذكرة للخديو (فى 7 يناير) انتحلتا لنفسهما فيها حق القوامة على مصر، والتدخل فى شؤونها، بما فى ذلك الغضب من سماح الخديو بانتخابات مجلس النواب، ووضع الدستور. ورفضتا أن يخوّل مجلس النواب حق إقرار الميزانية، فى مذكرة أخرى (فى 26 يناير) قدماها إلى شريف باشا. وقد عمّ السخط البلاد على هذا التدخل الفظّ السافر فى شؤونها الداخلية، رغم نص اللائحة على احترام مصر لكل اتفاقاتها الخارجية الخاصة بتسوية الديون. فلم يجد المصريون أى مبرر لتذرع إنجلتراوفرنسا بالديون لحرمان مجلس النواب من حق إقرار ميزانية بلاده. وكان هناك فريق يمثله شريف باشا ومحمد عبده وولفريد بلنت ينصح عرابى، بتأجيل البت فى موضوع حق المجلس فى إقرار الميزانية اتقاء للأزمة التى تنذر بمواجهة عسكرية مع أقوى دولتين فى العالم وقتها، وطامعتين فى مصر كل بطريقتها. لكن المشاعر الشعبية ضد هذا التدخل السافر كانت قد تأججت، بصورة لم تكن تسمح بالتراجع، وقد دعمتها مطامح محمود سامى البارودى فى أن يحل محل شريف باشا بعد هزيمة مقترحه الذى وصف بالمتخاذل، والذى شن عبد الله النديم عليه حملة شعواء حينما كتب: «ومسلكى أن أكشف حقائق الأمور ملتزما جانب التصريح لا التلميح، وأن أجلو مبادئ الحرية، وأن أبين معايب اللصوص الذين نسميهم أولى الأمر، ومثالب الخونة الذين ندعوهم وهما أمناء الأمة، ومفاسد الظلمة الذين ننعتهم جهلا ولاة النظام» وضم صوته بوضوح إلى صوت عرابى الرافض لأى تفريط فى الاستقلال الوطنى، ولقد «أعلنت حب العسكر والتعويل عليهم، وناديت بانضمام الجموع إليهم، وبينت مثالب الحكام، ولا أعرفهم إلا بالجهلاء الأسافل، ولا أبالى بهم وهم ملء المحافل». ولا يجب أن ننسى هنا أن عبد الله النديم كان أبرز الأصوات التى بلورت أهداف الثورة وآمال الشعب فى التقدم والإصلاح، وأنه كتب لائحة الإصلاح التى صدرت عن «جمعية فتيان مصر» و«جمعية اتحاد مصر الفتاة» والتى استخدمت أساسا لكتابة اللائحة الوطنية. لذلك كان من العسير على ثائر مثله أن يساوم على أحد أهم المبادئ الدستورية المتعلقة باستقلال القرار الوطنى. ورفض المجلس تأجيل مادة الميزانية من اللائحة، وأقر مبدأ حقه فى الإشراف على الميزانية وإقرارها، مما دفع شريف باشا إلى تقديم استقالته، رغم معارضة الخديو للأمر، وتخوفه من سيطرة العسكر كلية على الحكم، وقد تذرعت هذه المرة بإرادة مجلس النواب. وألف محمود سامى البارودى الوزارة فى فبراير 1882 وأسند فيها وزارة الجهادية إلى أحمد عرابى، فنال بذلك لقب الباشا. وأقر مجلس النواب الدستور الجديد، وصادق عليه مجلس الوزراء والخديو، وبدا وكأن الثورة قد حققت أبرز مطالبها. لكن ما إن مضى شهران على إقرار الدستور حتى بدأت أولى المؤامرات، والتى عرفت بمؤامرة الضباط الشراكسة على طلبة باشا عصمت وقادة الثورة من الضباط. وبدأ التحقيق فى المؤامرة بصورة قادت إلى عثمان رفقى، عدو عرابى اللدود، وأكثر من أربعين من كبار الضباط الشراكسة. حكم عليهم بالتجريد من ممتلكاتهم ورتبهم والنفى إلى أقاصى السودان. وهو الحكم الذى اعتبره الخديو قاسيا ورفض التصديق عليه. هنا وجد سير أدوار ماليت، قنصل بريطانيا، أن فرصة دق إسفين بين الخديو والثوار قد سنحت، فشجع الخديو على رفض التصديق وإصدار «إرادة سنية» بتخفيف الحكم عليهم بالنفى أنّى يشاؤون وعدم تجريدهم من رتبهم أو ممتلكاتهم، وقد أصدر الخديو حكمه الجديد مخفورا هذه المرة بالقنصل البريطانى، والمسيو سنكفكس قنصل فرنسا. ولما اعترض البارودى على نزول الخديو على إرادة القناصل، وإهماله رأى وزرائه، أصر ماليت ومعه القنصل الفرنسى على أن ينفذ الخديو إرادته السنية وأن لا يعبأ بحكومته. وكانت هذه هى بداية الخراب والثورة المضادة، والاعتماد على التدخل الأجنبى. حيث بدأ الاستقطاب بين الإرادة الأجنبية والتبعية، بكل ما تنطوى عليه من عصف بالاستقلال الوطنى، وبين إرادة الثورة الوطنية الحريصة على استقلال القرار الوطنى. وتفاقمت أزمته على مد شهر مايو 1882، وتطايرت فيها نذر التضحية بالخديو مرة وتنصيب الأمير حليم بدلا منه، والأمر بنفى عرابى وصحبه أخرى، وهو ما طالب به الإنجليز منذ ثورة الضباط الأولى عام 1879. ألا يذكرنا هذا بما جرى لثورة 25 يناير، حينما قدم جون ماكين على متن طائرة عسكرية أمريكية، ظلت رابضة فى مطار القاهرة، تهدد بأنها لن تبرحه إلا بعد أن يأخذ معه «الشراكسة» الجدد من العاملين مع المعهد الجمهورى ونظيره الديمقراطى والممولين معا من منظمة الوقف القومى للديمقراطية (The National Endowment for Democracy NED)، أنشط أذرع وكالة الاستخبارات الأمريكية، وكذلك معهد إديناور التابع للاستخبارات الألمانية، والذين كانوا قد قُدموا للمحاكمة عقب الثورة لتآمرهم عليها؟ وقد حقق ما أراد شكرا لمتآمرى الداخل الذين شكرهم ماكين عقب عودته بالاسم وفى مقدمتهم خيرت الشاطر والإخوان والمجلس العسكرى، بينما قدم الثوار الذين رفضوا الأمر كله إلى محاكمات عسكرية جائرة. وكما كان تدخل ماكين السافر فى شأن داخلى مصرى، وعصفه بالقضاء المصرى، والاستقلال الوطنى المصرى، هو بداية الخراب الذى جلب الإخوان إلى الحكم عام 2012، كان هذا الخلاف بين الخديو المدعوم بالقناصل الأجانب، والثوار الذين يؤازرهم مجلس النواب الجديد والمنتخب، هو بداية الخراب الذى أدى إلى شق الصف الوطنى، ورعى شرارة المؤامرة على احتلال البلاد بعد شهور. فعلى إثره قدمت البوارج البريطانية إلى ميناء الإسكندرية يوم 19 مايو لاستعراض القوة، رغم توصل الفريقين إلى تسوية للنزاع بينهما قبل قدومها يوم 15 مايو 1882. وتجمعت أعداد كبيرة منها فى ميناءى الإسكندرية وبورسعيد، ثم وجهت بريطانياوفرنسا فى 25 مايو إنذارا رسميا «نوتة» بضرورة استقالة وزارة البارودى، ونفى عرابى خارج البلاد، وعزل عبد العال حلمى وعلى فهمى وتحديد إقامتهما الجبرية فى الأرياف بجهات لا يسمح لهم بمغادرتها. وقد حاول محمد سلطان باشا، الذى كان رئيسا لمجلس النواب، أن يقنع عرابى والبارودى بتنفيذ ما تطالب به إنجلتراوفرنسا طوعا. فاجتمع مجلس الوزراء ورفض الإنذار، لكن الخديو قبله، فكان معنى هذا إقالة الوزارة بالفعل. ولما أمر الخديو محمد شريف باشا بتأليف وزارة جديدة رفض، وبدأ التوتر بين المعسكرين، وظلت مصر بلا وزارة منذ استقالة البارودى فى 27 مايو حتى وقوع مذبحة الإسكندرية، حيث تم التوافق بعدها على أن يؤلف إسماعيل راغب باشا الوزارة ويبقى فيها عرابى وزيرا للحربية، لكن إنجلترا لم ترض عن عودة التوافق للحالة المصرية، وأخذت تعمل على خلق المناخ المواتى لها كى تحتل مصر. وكما هو الحال فى الثورة المضادة، وقتها والآن، فإنها تعمل على عدة جبهات، وبتنسيق مدهش فى جميع الأحوال. فعلى الجبهة الداخلية عملت على توسيع الخلاف بين عرابى والثوار من ناحية، وبين الخديو من ناحية أخرى، والذى عمل بدوره على شق الصف بين عرابى وبين أعيان مجلس النواب بزعامة محمد سلطان باشا. وانضم سلطان باشا والأعيان إلى معسكر الخديو المدعوم بالأجانب، وبعث الباب العالى بعثة برئاسة مصطفى درويش باشا لمعالجة الحالة المصرية. بينما دعى رئيس الوزراء الفرنسى إلى التدويل وعقد مؤتمر أوروبى للنظر فى المسألة المصرية. وقد حاول درويش باشا أن يبعد عرابى تنفيذا للأمر الإنجليزى عن مصر بالحيلة، بدعوته لزيارة الأستانة كى ينعم عليه السلطان بالنيشان المجيدى من الطبقة الأولى، أرفع الأوسمة العثمانية، لكن عرابى فطن إلى الحيلة ورفض الدعوة. وبينما كان درويش يحاول درء أخطار التدخل الأجنبى بالحيلة، من أجل أن تستعيد تركيا مواقعها التى فقدتها فى مصر، كان الإنجليز يعززون قوتهم البحرية فى الإسكندرية، وكان هذا التعزيز يفاقم التوتر بين المصريين الغاضبين من التهديدات الأوروبية لبلدهم، والأجانب الذين ازداد توافدهم على مدينة الإسكندرية ليكونوا بالقرب من حماية بوارجها الأجنبية لهم. واندلعت شرارة التوتر حينما قتل مالطى مخمور من رعايا بريطانيا، وشقيق خادم قنصلها فى الإسكندرية، وكأن الأمر مدبر بليل، فى 11 يونيو 1882، مكاريا سكندريا يدعى «السيد العجان» لأنه جادله حول أجره. فانفجرت على إثر ذلك ما عرف باسم مذبحة الإسكندرية التى راح ضحيتها كثيرون من المصريين والأجانب (49 قتيلا منهم 38 من الأجانب)، وجرح فيها عدد من القناصل، بمن فيهم قنصل الإسكندرية الإنجليزى كوكسن الذى سبق أن حرض الخديو على قتل عرابى يوم مظاهرة عابدين الشهيرة. ولم يستطع عمر باشا لطفى، محافظ الإسكندرية وقتها، الحفاظ على الأمن، فوفد الخديو إليها وعمل على استقرار الوضع فيها. لكن توافد الأجانب إلى الإسكندرية للمغادرة منها إلى بلادهم ظل يتزايد، حتى بلغ عدد من غادروها بأموالهم وأمتعتهم فى الأسبوع التالى للمذبحة 32 ألفا، بل وتجاوز الستين ألفا فى الأسبوعين التاليين. وكان تزايد مغادرة الأجانب يعزز الإشاعات بقرب ضرب الأسطول الإنجليزى لها، خصوصا بعدما تكاثرت بوارجه فى الميناء. وتصاعد مع كثرتها خوف السكندريين من الحرب. وعلى الصعيد الدولى وبعد أن أتت مذبحة الإسكندرية أُكلها، والتى ندرك الآن أنها دبرت فى بيت كوكسن القنصل الإنجليزى بالإسكندرية، أخذت مغادرة الأجانب بالآلاف للإسكندرية تخلق المناخ الدولى الذى يؤكد غياب الاستقرار والأمن فى مصر، وضرورة فرضه بالقوة عليها لحماية الجاليات الأوروبية الكبيرة فيها. هل يذكرنا هذا بما يجرى الآن فى مصر وخلق حالة من غياب الاستقرار والأمن، وأمل الإخوان فى أن يؤدى هذا إلى تدويل المسألة المصرية والتدخل الأجنبى فى شؤونها؟ وإصرارهم على استمرار الفوضى ونزيف الدم وغياب الأمن؟ وبينما يخطط الإنجليز لخلق الذرائع لاحتلال مصر، فقد كان كل من إدوار ماليت وأوكلاند كولفين من عتاة الاستعماريين الذين نعرف من تقاريرهم العديدة التى كُشف الآن عنها حثهم المستمر لحكومة بلادهم على احتلال مصر وتسويغهما له. كان رئيس الوزراء الفرنسى شارل دى فريسينيه (1828-1923) Charles de Freycinet يعمل على حرمان إنجلترا من هذه الفرصة، فدعا إلى مؤتمر لمناقشة المسألة المصرية، ولبت الدعوة الدول الأوروبية الكبرى الست: بريطانيا وألمانيا وروسيا والنمسا وإيطاليا، بينما رفضتها تركيا بحجة أنها أرسلت درويش باشا إلى مصر، وسوف يقوم بحل المسألة. ومع ذلك توالت فصول المهزلة، وانعقد المؤتمر فى الأستانة فى 25 يونيو دون أن تشارك فيه تركيا التى ينعقد على أرضها، أو مصر التى ينعقد بشأنها. وقد صدر عن مؤتمر الأستانة ذاك فى 27 يونيو «ميثاق النزاهة Protocole de Dissenteressement» والذى ينص على أن: «تتعهد الحكومات التى يوقع مندوبوها على هذا الميثاق بأنها لا تبحث فى كل اتفاق يبرم بشأن تسوية المسألة المصرية عن احتلال أى جزء من أراضى مصر، ولا الحصول على امتياز خاص بها، ولا على نيل امتياز تجارى لرعاياها لا تتمتع به رعايا البلاد الأخرى». والغريب أن بريطانيا وقعت عليه وهى تعد العدة لاحتلال مصر الذى بدأته بعد أسبوعين من هذا التوقيع، بضرب الإسكندرية فى 11 يوليو 1882. وكأن هذا الميثاق كان من أدوات التعمية التى تخدر بها مصر، فلا تقوم بتجييش شعبها لرد العدوان. بل تواصلت هذه التعمية بتحفيز الدولة العثمانية لإرسال جيش لمصر كى يفرض الأمن والاستقرار فى ربوعها، شريطة أن لا يبقى على أرضها أكثر من أشهر ثلاثة، وهو شرط حرص الإنجليز على تأكيده، وراوغوا فى تنفيذه حتى تم لهم احتلال مصر، فصرفوا النظر عنه فى رسالة مهينة لتركيا، تأمرها بأن لا ترسل جيشها فقد أعاد الإنجليز الأمن. ولا شك أن تركيا لعبت دورا قذرا فى فصول تلك الجريمة التى ارتكبت ضد مصر وثورتها. وسوف يزداد هذا الدور قذارة بإصدار السلطان أمرا بعصيان عرابى فى أثناء احتدام المعارك فى التل الكبير، مما أسهم فى تدمير الروح المعنوية، وهزيمة الجيش، ونجاح الاحتلال الإنجليزى لمصر. كانت مؤامرات الثورة المضادة وأساليب التعمية الخارجية والداخلية على السواء تستهدف جميعها إقناع عرابى بأن الحرب غير ممكنة، فتيقن أن المسألة ستحل عن طريق المفاوضات، وهو الأمر الذى تمناه، لأنه كان يدرك مدى ضعف الجيش وعدم قدرته على مواجهة أقوى جيوش العالم وقتها دون حشد شعبى واسع، وهو الأمر الذى يستغرق زمنا وحالة من التوافق الوطنى العريض. لذلك عمل بدوره على درء خطر الحرب فنزع من الإنجليز كل الذرائع الواهية، بما فى ذلك التجديد الدورى للطوابى التى زعموا أنها تهدد أساطيلهم التى جاءت لتهديد مصر واحتلالها. لكن العمل على الجبهة الداخلية جرى على محورين: محور بريطانى تولاه بالمر، وآخر مصرى تولاه سلطان باشا. وبالمر هو أحد الأسلاف الأوائل للورنس العرب الشهير، والذى جاء من كيمبريدج وليس من أكسفورد هذه المرة، هو إدوار هنرى بالمر (Edward Henry Palmer 1840-1882) والذى عرفه بدو سيناءوالشرقية باسم عبد الله أفندى، والذى تحتاج قصته إلى أن تكتب بالتفصيل ضمن وقائع الثورة العرابية المهمة. فقد كان بالمر من المستشرقين الذين كشف إدوار سعيد فى كتابه المهم «الاستشراق» عن دورهم الأساسى فى ترسيخ المشروع الاستعمارى. فهو أحد الذين سخروا أبحاثهم فى خدمة الإمبراطورية، وهو صاحب أولى الدراسات التفصيلية عن أرض التيه فى سيناء (صحراء الخروج التوراتى The Desert of the Exodus 1872) بتمويل من صندوق الاستكشافات الفلسطينية. إذ دعته الحكومة البريطانية، بعدما قررت احتلال مصر ووافق مجلس العموم فى يوليو على اعتمادات مالية إضافية، بمبلع مليونين وثلاثمئة ألف جنيه، وهو مبلغ كبير بمقاييس تلك الأيام، لاحتلال مصر بأغلبية 277 ضد 11 صوتا فقط، وهو ما يشبه الإجماع. دعته للعودة إلى سيناء لمساعدة الحملة الإنجليزية على مصر، وتجنيد بدو سيناء وبدو الشرقية لمساعدتها، أو على الأقل لعدم مقاومتها. وقد واصل عمله هذا بنجاح كبير، وبالتنسيق مع محمد سلطان باشا الذى أوفده الخديو للقيام بنفس الأمر حتى كشفه بعض المصريين وقتلوه قبل معركة القصاصين الشهيرة. وحرص الإنجليز بعد الاحتلال على القبض على قاتليه وإعدامهم.