المستشار عبد الرزاق شعيب يفتتح صرحا جديدا لقضايا الدولة بمدينة بورسعيد    أرباح إيسترن كومبانى تنمو 36% خلال 9 أشهر.. بدعم 27 مليار جنيه إيرادات    تويوتا RAV4 موديل 2026 تعتمد على نظام السيارة الهجينة القابلة للشحن    بعد استهداف الوفد الدبلوماسي، كندا تستدعي السفير الإسرائيلي وتطالب بالمحاسبة    تحركات أوروبية ودولية تجاه غزة.. خبراء ل "الفجر": الدعم رمزي والمطالبات بتفعيل الضغط على إسرائيل    بعد تأهل توتنهام.. 3 فرق إنجليزية تضمن المشاركة في دوري أبطال أوروبا    ميدو يكشف تطورات أزمة الزمالك وعبدالله السعيد.. ويوجه رسالة ل إمام عاشور    ضبط 7 عمال أثناء التنقيب عن الآثار بمنزل في سوهاج    ننشر أسماء المصابين في حادث انقلاب سيارة ميكروباص بالعريش في شمال سيناء    من هم المتهمون الستة في واقعة خط الغاز بالواحات؟.. «المصري اليوم» تنشر الأسماء والتفاصيل    محافظ الدقهلية: 1522 مواطن استفادوا من القافلة الطبية المجانية بقرية ابو ماضي مركز بلقاس    إجراء طبي يحدث لأول مرة.. مستشفى إدكو بالبحيرة ينجح في استئصال رحم بالمنظار الجراحي    استشهاد 5 فلسطينيين في قصف للاحتلال الإسرائيلي على "جباليا" شمال غزة    كندا تطالب إسرائيل بتحقيق معمّق في واقعة إطلاق النار على دبلوماسيين بالضفة الغربية    مراسم تتويج توتنهام بلقب الدوري الأوروبي للمرة الثالثة فى تاريخه.. فيديو وصور    رئيس جنوب أفريقيا: نرحب بالاستثمارات الأمريكية ونتوقع زيارة من ترامب    القبة الذهبية Vs القبة الحديدية.. مقارنة بين درعي حماية أمريكا وإسرائيل من الصواريخ    «تعليم القاهرة» تنشر نموذج امتحان مادة الهندسة المستوية للشهادة الإعدادية 2025    اليوم.. انطلاق امتحانات نهاية العام لصفوف النقل بالمحافظات    الهلال يتمم المقاعد.. الأندية السعودية المتأهلة إلى دوري أبطال آسيا للنخبة    الدوري الأوروبي، مدرب مانشستر يونايتد يكشف أسباب الخسارة أمام توتنهام    الاقتصاد الأخضر نحو الاستدامة (ج1)    نشرة التوك شو| لا توجد أوبئة للدواجن في مصر وافتتاح أكبر سوق جملة أكتوبر المقبل    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الخميس 22 مايو 2025    توقعات حالة الطقس اليوم الخميس    بعد صدور لائحته التنفيذية.. عقوبة اصطحاب كلب دون ترخيص    مسلم ينشر صورًا جديدة من حفل زفافه على يارا تامر    بأجر كامل.. تفاصيل إجازة امتحانات العاملين في قانون العمل الجديد    السفارة التركية بالقاهرة تحتفل بأسبوع المطبخ التركي    الهلال ينجو من خسارة جديدة في الدوري السعودي    "من أجل المنتخبات".. ورش عمل لتطوير مسابقات الناشئين 24 و25 مايو    محافظ الغربية يُشيد بابنة المحافظة «حبيبة» ويهنئها لمشاركتها في احتفالية «أسرتي.. قوتي».. صور    باختصار.. أهم الأخبار العربية والعالمية حتى الظهيرة.. العالم يدين إطلاق الجيش الإسرائيلى النار على الوفد الدبلوماسى بجنين.. وحظر تصدير الأسلحة إلى الاحتلال والتهدئة فى الهند وأوكرانيا والتفاوض مع إيران    وزير الزراعة يرد على جدل نفوق 30% من الثروة الداجنة في مصر    سعر الخوخ والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 22 مايو 2025    وزير الزراعة يحسم الجدل حول انتشار وباء الدواجن في مصر    بعد مطاردة بوليسية.. ضبط سيارة تهرب 8 آلاف لتر بنزين قبل بيعها في السوق السوداء بدمياط    حريق هائل في مطعم مأكولات سورية بالإسكندرية وإنقاذ 10 طلاب داخل سنتر مجاور    كيف تعرف أن «الأسانسير» قد يسقط بك؟ 5 علامات تحذيرية    مجلس الوزراء يوافق على إنشاء جامعة مصر الجديدة المملوكة ل «أخبار اليوم»    ياسمين صبرى فى العرض الخاص لفيلم the history of sound بمهرجان كان السينمائى    كيف تغلبت ياسمين صبري على التصميم الجريء لفستانها في مهرجان كان؟ (صور)    عادات المليونيرات.. 4 مفاتيح مالية يتجاهلها معظم الناس (تعرف عليها)    4 أبراج «حياتهم مستريحة».. مرفّهون لا يركضون خلف الثروة لأنها تأتيهم تلقائيًا    28 يونيو.. ماجدة الرومي تحيي حفلا غنائيا في مهرجان موازين بالمغرب    أسماء بنات على «فيسبوك» توحي بالثقة والقوة.. تعرف عليها    اليوم.. العرض المسرحي "العملية 007" على مسرح قصر ثقافة بورسعيد    كيف كان مسجد أهل الكهف وهل المساجد موجودة قبل الإسلام؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    هل به شبهة ربا؟.. أمين الفتوى يحسم حكم البيع بالتقسيط وزيادة السعر (فيديو)    لحظة وصول بعثة بيراميدز إلى جوهانسبرج استعدادا لمواجهة صن داونز (صور)    في الجول يكشف آخر تطورات إصابة ناصر ماهر    محافظ الدقهلية: 1522 مواطنا استفادوا من القافلة الطبية المجانية ب«بلقاس»    كواليس خروج مسمار 7 سم من رأس طفل بمعجزة جراحية بالفيوم -صور    افتتاح وحدة تكافؤ الفرص بالجامعة التكنولوجية فى بني سويف -صور    وزير الصحة يستجيب لاستغاثة أب يعاني طفله من عيوب خلقية في القلب    وزارة الأوقاف تنشر نص خطبة الجمعة بعنوان "فتتراحموا"    رئيس إذاعة القرآن الكريم الأسبق: أيام الحج فرصة عظيمة لتجديد أرواح المسلمين.. فيديو    موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى المبارك 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تقاطع المصائر وخيانات المثقفين فى الثورة العرابية د. صبرى حافظ
نشر في التحرير يوم 30 - 11 - 2013

لم يكن وراء عرابى جيش كبير ولا أموال.. وكان ظهره مكشوفًا لخيانات الخديو وأتباعه من الأعيان والمثقفين الخونة مثل محمد سلطان وعلى مبارك
حرص الإنجليز على حرمان المصريين إبان الحرب من أموالهم.. ونقلوها إلى الأسطول الإنجليزى فى الإسكندرية
إدوار هنرى بالمر عرفه البدو باسم عبد الله أفندى.. وهو أول من قدم خريطة تفصيلية دقيقة جغرافيًّا وسكانيًّا لسيناء
على مبارك آثر الولاء للحاكم التركى ووافق على أن يبعث به الخديو ليساعد الإنجليز على احتلال بلده
أبلى جنود مصر بلاءً حسنا على الجبهة الغربية وكبدوا الإنجليز خسائر فادحة على ترعة المحمودية.. ومنعوهم من اختراق تحصينات العرابيين فى كفر الدوار
خدع ديليسبس عرابى وسمح للإنجليز باستخدام القناة لاستقدام آلاف الجنود من الهند إلى السويس ومنها إلى الإسماعيلية لفتح جبهة شرقية
ليس هدفى من كتابة هذه السلسلة من المقالات عن الثورة العرابية التأريخ من جديد لهذه الثورة المصرية الباكرة، لأن هذا أمر لا طاقة لى به، وقد قام به كثيرون من قبلى من المؤرخين المصريين والأجانب خير قيام. وعلى المؤرخين المتخصصين الاضطلاع به فى ضوء ما نعيشه الآن من ناحية، كى نتعلم دروس تاريخنا ولا نكرر أخطاءنا، وفى ضوء ما كشفت عنه الوثائق البريطانية التى أصبحت الآن، بسبب مرور الزمن متاحة، بصورة تصحح كثيرا من التصورات الخاطئة عن أحمد عرابى وعن ثورته الباكرة.
لكن ما دفعنى لاستعادة تلك التواريخ، ضمن سياقات الرحلة التى تتبعت فيها مؤخرا خطى عرابى وصحبه الكبار فى منفاهم، هو الرغبة فى إماطة اللثام عن كل التصورات السلبية التى ترسبت فى ذاكرتنا عن عرابى وثورته، والتى وجدت لها صورة مناقضة تماما من فرط إيجابياتها عنه فى سيريلانكا، التى وصل إليها مقهورا منفيا مهزوما، فغير كثيرا من جوانب الحياة فيها وبصورة إيجابية باهرة. فكيف يستقبل الآخر الصورة التى تتبدى لى الآن بعد كل ما انشغلت به من بحث وقراءات عن الموضوع منذ عودتى من سيريلانكا، أقرب إلى الحقيقة، من تلك التى شوهتها الكتابات المتكررة عن عرابى وثورته؟ كتابات شارك فيها كتاب ومثقفون كبار من طراز أحمد لطفى السيد، والتى أصبحت قصيدة أحمد شوقى الرديئة، وبيتها الافتتاحى المتحامل الأشهر «صَغَار فى الذهاب وفى الإياب * أهذا كل شأنك يا عرابى؟» شارة عليها وعلى عملية التشويه المستمرة والمتعمدة للوطنية المصرية معها.
وقد دفعنى هذا التناقض الواضح بين الصورتين، وسوف أعرض على القارئ فى مقال قادم الصورة فى بريطانيا ودورها فى مسار الأحداث، قبل التعرف على تجلياتها فى سرنديب عند استقبال عرابى فيها، إلى تأمل العلاقة بين ما تعرضت له الثورة العرابية من تشويه، وبين ما يدور على الساحة المصرية الآن، وما تتعرض له ثورة 25 يناير من تشويه مماثل، ومؤامرات مماثلة للثورة المضادة. فأخذت أقرأ التاريخ على مرايا الحاضر، وأتأمل الحاضر فى مرايا التاريخ. وبدأت نفس استراتيجيات الثورة المضادة تسفر عن وجهها القبيح فى الحالتين. وأهم هذه الاستراتيجيات هى عملية التنسيق المحكمة بين ما يدور فى الخارج وما يدور فى الداخل، من أجل تحقيق أهدافها فى هزيمة الثورة. بل والعودة بعد هزيمتها بالوضع لا إلى ما كان عليه، بل إلى أسوأ مما كان عليه. وسوف أركز هنا، وأنا أتتبع آخر خطوات الثورة قبل هزيمتها فى التل الكبير، ومحاكمة عرابى ونفيه، على خمسة رجال كبار تشابكت مصائرهم فيها.
وليس ثمة مجال للخلط بين الرجال الخمسة الذين أود التعامل معهم هنا، والباشوات السبعة الذين نفاهم الاحتلال البريطانى إلى سرنديب، وعلى رأسهم أحمد عرابى. وإن كان عرابى نفسه أحد الرجال الخمسة الذين تقاطعت مصائرهم فرسمت بعض أقدار مصر، وشيئا من محنتها فى ذلك الزمن البعيد. وقد اخترت هؤلاء الرجال الذين ينتمون إلى جيل واحد، وجنسيتين مختلفتين. لأن الحديث عنهم يكشف كثيرا مما غاب عنا فى التأريخ لتلك الثورة المصرية الكبيرة. وبين الرجال الخمسة مثقفان مختلفان تكوينًًا وتوجهًا هما إدوارد بالمر وعلى مبارك، وعسكريان سياسيان هما اللورد كرومر وأحمد عرابى، وقد ولدا -لغرابة المصادفات- فى نفس العام 1841، وسيطر أولهما على مقدرات مصر أربعة وعشرين عاما، بينما نُفى ثانيهما عن أراضيها تسع عشرة سنة. أما الخامس ويلفريد سكاون بلنت (1840 - 1922) فيكبرهما بعام واحد، كما كان أطول الثلاثة عمرًا، فقد جمع بين المثقف والسياسى، وبين الشاعر الذى يطمح إلى أن يكون ضمير عصره، والمغامر المولَع بالحياة. ولعب دورا مرموقا فى مسار كل ما جرى لعرابى من أحداث، وخصوصا بعد هزيمة ثورته، كما أنه يكشف لنا عن أهمية الحرية فى الثقافة، وأهمية الثقافة فى الدفاع عن هذه الحرية وإرهاف ضميرها.
وقد كشفتُ فى مقال الأسبوع الماضى كيف أن العمل الذى دار على الجبهة الدولية، سواء بتمويهات «ميثاق النزاهة» العارى من أى نزاهة، والذى يجب تسميته بميثاق الغدر والبهتان، أو بتأكيدات ديليسبس الكاذبة لأحمد عرابى بأن حيدة قناة السويس ستحول دون استخدام الإنجليز لها فى الحرب، وأن فرنسا لن تسمح لهم بذلك. أو حتى بضغط بريطانيا بعدما لاقت قواتها مقاومة أكبر مما تصورت، وخصوصا أمام خطوط كفر الدوار الحصينة، وعلى ترعة المحمودية التى أشرف عليها عرابى وطلبة باشا عصمت، وخداعها السلطان العثمانى بأنها ستساعده كى يسترد سلطانه المفقود على مصر، كى يعلن عصيان عرابى، فأصدر فرمان عصيانه فى 6 سبتمبر 1882، وفى أثناء احتدام المعارك فى الجبهة الشرقية فى القصاصين وعلى مشارف التل الكبير، ونشر الأمر فى (الجوائب) ففرح به الخديو توفيق، لأنه جاء كطعنة فى ظهر عرابى، خصوصا بعدما كان السلطان العثمانى قد أسبغ عليه أحد أهم أوسمة السلطنة، وأوكل إلى سلطان باشا نشره بين المصريين وتوزيع نسخ من (الجوائب) التى تضمنته على الأعيان، وكان لهذا الإعلان أثره الفادح على سير المعارك، كما ذكرت لسطوة قوة الخلافة الدينية، كما هو الحال مع كل من يستخدمون الدين لتحقيق أهداف سياسية مشبوهة فى عرقلة الثورة المصرية الجديدة، بل وفى الإجهاز عليها وتوطئتها لخدمة الأهداف الصهيوأمريكية فى المنطقة.
وكان يرافق هذا التجهيز على الجبهة الخارجية، كدأب الثورة المضادة الآن، تجهيزات أهم على الجبهة الداخلية. وقد دارت هذه التجهيزات على محورين: أولهما محور إنجليزى داخلى، حيث حرص الإنجليز على حرمان المصريين إبان الحرب من أموالهم. وتأكدوا من أن الخزانة المصرية كانت فارغة، فقد أفرغها المراقب المالى الإنجليزى كولفن مما بها من أموال قبل الغزو، ونقل كل ما بها إلى الأسطول الإنجليزى فى الإسكندرية، كما نقل كل ما فى صندوق الدين من أموال إليه أيضا، وتكفل المندوب الفرنسى بنقل ما تبقى فيه من أموال للسفن الفرنسية. كى يستخدموها فى رشوة المصريين الخونة، وبأموال مصرية خالصة. أيذكرنا هذا بشىء من التمويل الأجنبى وتورطاته فى ثورة 25 يناير، والإنفاق منه خصما على أموال المعونة الأمريكية. فلما حانت ساعة الوغى لم يكن وراء عرابى جيش كبير ولا أموال، وكان ظهره مكشوفا لخيانات الخديو وأتباعه من الأعيان الخونة بقيادة محمد سلطان باشا. ومن المثقفين الخونة بقيادة على مبارك باشا، ومع هذا أبلى جنود مصر بلاء حسنا على الجبهة الغربية وكبدوا الإنجليز خسائر فادحة على ترعة المحمودية. وعلى مدار أكثر من شهر كامل من المعارك الحامية، التى تواصلت عقب ضرب الإسكندرية، طوال ما بقى من يوليو وشهر أغسطس. وبعد وصول ويلسلى ورغم كل إمداداته أخفق الإنجليز فى اختراق تحصينات العرابيين فى كفر الدوار، وارتدوا على أعقابهم خاسرين فى أكثر من معركة، بعدما كبدهم المصريون خسائر حالت دون تحقيق أى تقدم ملموس على تلك الجبهة الغربية.
لكن «الولس» كسر عرابى كما يقول التعبير المصرى الشائع والصادق معا! وكان هذا الولس مركبا. فقد بدأ بأن خدع ديليسبس عرابى، وسمح للإنجليز باستخدام القناة لاستقدام آلاف الجنود من الهند إلى السويس، ومنها إلى الإسماعيلية، لفتح جبهة شرقية. بينما كانت العساكر البريطانية تتدفق على الإسكندرية من مالطا وقبرص وجبل طارق حتى بلغ عددها أكثر من 14 ألفا، بينما كان عدد الجيش المصرى المكبل بالفرمانات العثمانية والخيانات المحلية لا يزيد على 13 ألفا، حسب تقديرات بلنت نفسه؛ موزعين على كل الجبهات بين الإسكندرية ورشيد ودمياط. ومع ذلك لم يستطع الجيش الإنجليزى التقدم على الجبهة الغربية رغم المدد الوفير الذى تدفق عليه فى شهر أغسطس 1882. وقد كان لا بد أن تبالغ الصحف البريطانية فى حجم الجيش المصرى الذى أوقف زحف الإنجليز فى كفر الدوار، فذكرت أنه يتكون من 47 ألف مقاتل، كى تتم التعبئة لإرسال آلاف جديدة من الجند والعتاد. برغم معرفة بريطانيا الوثيقة بالفرمانات التى لا تبيح له أن يتجاوز 18 ألفا، وعرقلتها النشيطة لأى زيادة له منذ عصر إسماعيل. وطوال العام الذى انقضى منذ نجاح الثورة فى وقفة عابدين وحتى اندلاع الحروب. ألا يذكرنا هذا بما يدور الآن وامتناع أمريكا عن تسليم أى أسلحة متفق عليها للجيش؟
وكانت هذه المبالغة الكاذبة ضرورية كى تدفع بريطانيا بعشرات الآلاف من الجنود الذين جاءت بهم من الهند. وكان لا بد من مدد وفير منهم، لفتح جبهة شرقية أخرى، من جهة قناة السويس التى صرفت فرنسا نظر عرابى عن حمايتها حتى اللحظة الأخيرة. وكان هذا المدد الهندى كبيرا، فقد نجحت الدعايات الصحفية التى اقتربت بالجيش المصرى من الخمسين ألفا، إلى الحد الذى نعرف الآن أنه اقترب من الأربعين ألفا. أى أننا بإزاء غزو كاسح يستخدم أكثر من خمسين ألف جندى بعتاد حربى متفوق. ولم يكن هذا كله كافيا دون «الولس» لتحقيق نصر على مصر. وإلى جانب هذه الآلاف التى جاءت من الهند، ونزلت فى السويس ثم سارت إلى الإسماعيلية، كان ثمة وعى لدى العدو بأنه من الممكن أن تصطدم هذه الجيوش بمقاومة عسكرية وشعبية كبيرة، خصوصا أن مشاعر المصريين كانت معبأة ضد الإنجليز. لكن الدور التمهيدى الذى قام به هذا الإنجليزى العتيد الذى دعوته بأحد الأسلاف الأوائل للورنس العرب الشهير، كان له دور مهم فى تهيئة المناخ الذى أسهم فى هزيمة عرابى وثورته. ألا وهو إدوار هنرى بالمر (Edward Henry Palmer -1840 -1882) والذى عرفه بدو سيناء والشرقية باسم عبد الله أفندى.
وبالمر هو صاحب أولى الدراسات التفصيلية عن أرض التيه فى سيناء بعنوان «صحراء الخروج التوراتى The Desert of the Exodus 1872» التى تقدم أول خريطة تفصيلية دقيقة جغرافيا وسكانيا لبدو سيناء، ترتبط فيها طوبوغرافيا المكان بسلالات سكانه وقبائلها المختلفة، أرجو أن يرجع إليها كل المهتمين الآن بتطهير سيناء من العناصر الإرهابية التى تستهدف، بعد تآمر الإخوان على الثورة، الإجهاز الكامل على الثورة المصرية الجديدة، بإدخال مصر فى مستنقع الدم، وتدمير الدولة المصرية معا. وبينما كان هذا المثقف الإنجليزى يتفانى فى خدمة مشروع بلاده الاستعمارى البغيض، لدرجة أنه دفع حياته ثمنا لنجاح هذا المشروع كما ذكرت، كان المثقف المصرى المرموق، على مبارك، يسهم بدم بارد فى خيانة بلده، وتوطئة أرضها الطاهرة للمستعمرين، كما كشفت من خلال الوثائق الإنجليزية التى بعث بها إدوار ماليت للجنرال ويلسلى. ومعها رسالة توصية بإكرام وفادة محمد سلطان باشا وعلى مبارك باشا ومرافقيهما الخونة وتمكينهم من تمهيد أرض مصر للجيش الإنجليزى الغاصب.
وتوشك المقارنة بين مسيرة بالمر الذى علم نفسه، وأنفق حياته من أجل نجاح مشروع بلاده، ومسيرة على مبارك الذى تعلم على حساب مصر وخانها، أن تجلب الدموع إلى عيون القراء والحسرة إلى عقولهم، وتشعرهم بالخزى لتخلى مثقفيهم عنهم، وعن وطنهم. فمع أن بالمر كان يصغر على مبارك بسبعة عشر عاما، وأنه تعلم على حسابه الخاص عديدا من اللغات، بما فى ذلك الهندية والفارسية، وحصل على وظيفة فى جامعة كيمبريدج المرموقة، فإنه تطوع عام 1868 للمشاركة فى المسح الاجتماعى الجغرافى اللغوى لسيناء على حساب صندوق الاستكشافات الفلسطينية وقتها، فقام باستكشاف صحراء التيه التوراتية مع زميل له هو تشارلز دريك «Charles Drake» ومسح سيناء مشيا على الأقدام ودون أى دليل. وواصل هو بعدها البحث والتنقيب فى الكتب والمخطوطات لتوثيق كل ما شاهده فيها، وما دوّنه بها من معلومات حتى كتب نتيجة لذلك كتابه المهم عام 1872. وحصل بفضله على كرسى الدراسات العربية فى جامعة كيمبريدج المرموقة فى العام نفسه.
ثم واصل بعد هذا الكتاب تأليف مجموعة مقالات علمية عن الملل والنحل السرية فى سيناء، وعن شبكة القبائل والتجمعات فيها. وهى كلها من المراجع المبكرة والمهمة فى هذا المجال. لكن ما أن دعاه وطنه حتى لبى النداء، وترك وظيفته الجامعية المريحة من ورائه وعاد إلى سيناء يستخدم كل معارفه وصلاته القديمة فيها لخدمة بلده. ويكرسها لضمان ما طلبته منه حكومته، وهو حث أهالى سيناء على التخلى عن أى دعم للجيش المصرى من ناحية، والتأكد من عدم تهديدهم قناة السويس حال استخدام الإنجليز لها فى مهاجمة مصر من ناحية أخرى. وقد قام بالأمرين على خير وجه، بل ودفع حياته ثمنا لتحقيق النصر لبلاده.
أما على مبارك «1823 - 1893) الذى انحدر من محافظة الدقهلية، واستخدم معرفته بالمنطقة لمساعد الإنجليز فى الجبهة الشرقية، وليس للوقوف مع ثورة بلاده وجيشها المدافع عن استقلالها الوطنى؛ فقد كان ضمن البعثة التعليمية الشهيرة إلى فرنسا، والمعروفة ببعثة الأنجال، لسفر أربعة من أبناء محمد على وأحفاده بها، التى زامل فيها إسماعيل بك إبراهيم، حفيد محمد على الذى أصبح فى ما بعد الخديو إسماعيل. إذن فقد تلقى كل تعليمه على حساب مصر وبأموالها، واقترب بسبب ابتعاثه على حسابها فى بعثة الأنجال من الأسرة الحاكمة، وهذا هو سر استعانة إسماعيل به بعد توليه الحكم، فقد تزاملا فى تلك البعثة التى ألهمت إسماعيل عملية تحديث مصر، على الطراز الباريسى، وجعلها «قطعة من أوروبا» كما كان يقول شعار عصره. لأن زمن بعثة الأنجال الشهيرة تلك تزامن فى باريس مع قيام البارون جورج - يوجين هاوسمان بإعادة تخطيط باريس وتحديثها. وهى العملية التى أحالت باريس منذ هذا الوقت وحتى الآن إلى واحدة من أجمل المدن الأوروبية. وقد قام على مبارك بدور بارز فى عمليات التحديث فى عصر إسماعيل. سواء فى ذلك عملية تحديث المدينة أو تطوير النظم التعليمية فى مصر. لكنه ككثير من المثقفين المصريين فى عصرنا الحديث، استمرأ الحياة فى الحظيرة على حد تعبير فاروق حسنى، وعندما حانت لحظة الفرز، وأصبح مصير الوطن على المحك، آثر الولاء للحاكم التركى على الولاء لمصر، واختار الولوغ فى دماء المصريين ليخدم الحاكم الفاقد للشرعية والمصداقية، ووافق على أن يبعث به الخديو ليساعد الإنجليز على احتلال بلده، وخيانتها فعلا لا قولا. ألا يذكرنا هذا بتقدم جابر عصفور إلى القسم أمام مبارك المخلوع فى وزارته الأخيرة؟ والغًا هو الآخر فى دم الثوار فى ميدان التحرير؟!
ماذا قال بشارة تكلا مؤسس «الأهرام» عن معركة التل الكبير؟
ويطرح سلوك على مبارك ذاك، والذى يتواصل الآن فى سلوك عصفور وجمال الغيطانى، الذى سار على درب على مبارك فى كتابة الخطط، وغيرهما كثير من الأسئلة عن العلاقة بين المثقف المصرى والسلطة. فعلى مبارك هو أيضا صاحب «علم الدين» و«الخطط التوفيقية» وغيرها من الأعمال الثقافية المهمة، ولكنه أيضا صاحب هذا الموقف الشائن الذى صحب فيه الخائن الكبير للثورة العرابية محمد سلطان باشا، والقيام معه بتسهيل مهمة الجيش البريطانى فى احتلال مصر. خصوصا أن الأمر لم يقتصر عليه وحده، بل شاركه فى تلك الخيانة، كما هو الحال الآن، مثقفون آخرون. كان فى مقدمتهم بشارة تكلا صاحب «الأهرام». حيث يقول عرابى لمحاميه الإنجليزى برودلى «إن بشارة تقلا صاحب (الأهرام) ومحررها كان ممن يدينون بمبدئنا قبل الحرب، وكان قد أقسم بدينه وشرفه أنه واحد منا وأنه يعمل لحرية وطننا. وقد عددناه فى الحق من الوطنيين. ثم دخل على عرابى فى سجنه بعد الهزيمة، وخاطبه بأقذع الألفاظ، ووصفه بالخيانة وعدم الشرف». انظر ما كتبته «الأهرام» عشية نهاية معركة التل الكبير الفاصلة، واحتلال الإنجليز للقاهرة بعد انكسار الجيش، وتمعن فى دلالاته:
هل يمكن لصحفى أو كاتب أن يهنئ غزاة بلاده، وأن يتشفى فى زعمائها الوطنيين بهذه الطريقة؟ بعدما كان يعد نفسه أحد أنصار عرابى، ومن المؤيدين لحزبه الوطنى؟ إن قراءة هذه الكلمات التى تبدأ من العنوان اللزج: «البشرى العظمى»، وتتواصل مع وصف المحتل بالباسل، ووسم الزعيم الوطنى بالعاصى، والزعم بأن مصر تتهلل طربا وفرحا، وليس حزنا وكمدا، للاحتلال ثورث الغم! ناهيك بتهنئة الخديو وعن التهليل الفج «بشراك يا مصر بشراك! فقد نلت المنى ودخلت العساكر الإنجليزية باسم الحضرة الخديوية عاصمة بلادك فاحتلتها. وقبضت على عرابى وطلبة وإخوانهما. واستلمت القلعة وقصر النيل وسواهما من المراكز العسكرية. وتسنى لسمو خديوك المعظم أن يتم فيك مقاصده النبيلة الآيلة إلى نجاحك ورقيك. وانفتحت لأبنائك أبواب العصر الجديد فادخلوها بسلام آمنين» أى عار هذا؟!
ولم يكن هذا هو حال «الأهرام» وحدها، فقد سارت جريدة «الوطن» و«المحروسة» على نفس النهج. وانتهى أمرهما بالخيانة الصريحة. كما تطوع بعض الانتهازيين، وعلى رأسهم الشيخ حمزة فتح الله وأسس جريدة «الاعتدال» بعد الغزو البريطانى، وندد فيها بالعرابيين وموقفهم من الإنجليز، واصفا العرابيين بالجهل بفنون الحرب، وإقحامهم البلاد فى حرب لا طاقة لهم بها، وذلك لمآربهم الشخصية. واصفا عرابى بأنه جاهل خاطرَ بدماء المسلمين وأعراضهم. وظلت الصورة التى تواصل نسج أكاذيبها منذ افتتاحية «الأهرام» عشية الاحتلال وحتى قصيدة أحمد شوقى الرديئة، كى يتكرس فينا الخنوع والخضوع للحاكم مهما كان ضعيفا أو خائنا أو فاقدا للشرعية! وأهم من هذا كله كى تشوه رموزنا الوطنية.
ولا أريد أن أواصل الكشف عن خيانات المثقفين، خصوصا تلك التى أسفرت عن وجهها القبيح بعد الهزيمة وممالأة الخديو، الذى ثبت عرشه بالتضحية باستقلال مصر كلها. لكننى أود أن أعود إلى تأكيد أن سلطان باشا هو الذى قام بالدور الجوهرى فى طعن الجيش المصرى فى ظهره وخيانته. فلم يقتصر على توزيع «الجوائب» وإعلان عصيان عرابى بين الجند والأهالى فى أثناء احتدام المعارك، ولا حتى على ضمان أن لا يهاجم أهالى الشرقية وبدو صحاريها خطوط الجيش الإنجليزى الخلفية، ولكنه كما كشفت الوثائق لا يقل بأى حال من الأحوال عن دور الخائن على يوسف خنفس الذى كشف للجيش البريطانى خطط الجيش المصرى، وقاده إلى اختراق الصفوف الخلفية للجيش وطعنه من الخلف فى معركة القصاصين. فقد كان دوره كما كشفت رسالة الخديو وماليت لويسلى هو توفير دعم الأهالى لعملية الاحتلال، وتسهيل مهمة الجيش الإنجليزى لا مقاومتها. لأن ما قام به سلطان باشا على الأرض، هو الجانب العملى المهم الذى يتم عبره تحويل ضغوط الخارج وخداعاته إلى وقائع بالداخل وعلى الأرض. وقد قدمت صفحات من وثائق تلك الخيانات التى تورط فيها المثقفون، كما يتورطون الآن فى خيانة ثورة 25 يناير، وعلى رأسهم على مبارك، الذى سرعان ما نال مكافأته على خيانته، بأن أصبح وزيرا فى أولى وزارات الاحتلال البريطانى لمصر.
ولا أريد أن أنهى هذه الحلقة بسرد وقائع الهزيمة الناجمة عن هذا التنسيق المحكم على الجبهتين الخارجية والداخلية. ولكننى أود أن أذكر القارئ بالجانب المضىء أيضا فى الوطنية المصرية. فبالرغم من خيانة الأميرالاى على يوسف خنفس وتمرير خطة هجوم الجيش المصرى للإنجليز فى موقعة القصاصين فى 9 سبتمبر، وبعد أن ساعد عربان الهنادى، الذين جندهم سلطان باشا الجيش الإنجليزى على مفاجأة جيش العرابيين ليلا فى التل الكبير، ها هو البطل محمد عبيد والألاى السودانى بقيادته يسطرون بدمائهم تاريخا مجيدا فى معركة التل الكبير فى 13 سبتمبر، ويكبدون الإنجليز ثمنا فادحا فيها، وقد صمدوا حتى استشهد معظمهم، بمن فيهم محمد عبيد نفسه. لكن بقية المعركة كانت خليطا من المهزلة والخيانة وسوء التدبير معا، وقتل فيها أكثر من ألفين وغنم الإنجليز أكثر عتاد الجيش فيها. بعد انهيار الجيش الذى عانى من الضعف وخيانات الداخل والخارج على السواء. وسقطت تحصينات معركة التل الكبير على بعد 110 كيلومترات من القاهرة، فانفتح الطريق أمام جيش الاحتلال لوصولها فى نفس اليوم. ألا نجد فى هذا ترجيعا لأصداء محادثات الكيلو 110 ولكن على طريق السويس هذه المرة لا الإسماعيلية، بعد استفحال حجم ما يدعى بالثغرة فى حرب 1973؟
أما بقية الرجال الخمسة فسنتحدث عنهم فى المقال القادم!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.