لكن أخطر ما دار على الجبهة الداخلية، وما كشفت عنه الوثائق البريطانية التى أفرج عنها بعد 50 عاما من تلك الأحداث هو الخيانة الداخلية التى غابت عن كثير من مؤرخى الثورة العرابية. ففى الوقت الذى أمر فيه الخديو عرابى فى 17 يوليو بعد استيلاء الإنجليز على الإسكندرية، وبالمخالفة لقراره مع مجلس الوزراء ردا على الإنذار الإنجليزى قبل الضرب، بالكف عن مقاومة الغزو الإنجليزى بعدما انتقل إلى عمل استحكاماته فى كفر الدوار، ولما رفض عرابى الأمر عزله وعين عمر باشا لطفى فى 20 يوليو بدلا منه. أصدرت الملكة فيكتوريا أمرا بتعيين سير جارنت ولسلى (Sir Garnet Wolseley 1833-1913) لخبرته العسكرية الطويلة فى بورما والهند وإفريقيا وحرب القرم، كى يتولى قيادة الحملة على مصر. ولما وصل إلى مصر غيَّر استراتيجية الحملة، وتوجه بها شرقا إلى قناة السويس، التى كان الفرنسيون قد أكدوا لعرابى حيدتها، بصورة لن تستخدمها أى قوة للعدوان على مصر. فى هذا الوقت، وكما اكتشف الشعب المصرى بحدسه الصادق، الذى كانت له قدرته الباهرة على كشف الحقيقة، إذ ظل يردد بأن «الولس كسر عرابى». دارت واحدة من أكبر الخيانات المصرية القذرة، ليست تلك التى نعرفها جميعا عن خيانة الأميرالاى على يوسف خنفس لجيشه، وإنما خيانة أفدح وأشد تأثيرا. فقد كشفت الوثائق البريطانية ذاتها، أن نجاح بريطانيا فى احتلال مصر ما كان ممكنا دون هذا «الولس» أى الخيانة الحقيرة. فهناك ملف مذهل فى مكتب المحفوظات البريطانية العامة Public Record Office يكشف عن كثير من وقائع ما جرى، وأدعو المؤرخين إلى ترجمة كل وثائقه. فبه وثيقة سرية من وثائق الخارجية البريطانية تحمل الرقم (F.O. 141/160 N104) أرسلها سير إدوارد ماليت، قنصل بريطانيا فى مصر وقتها، والذى لعب دورا خطيرا فى عملية احتلال مصر، ورقشت بريطانيا اسمه فى خريطة عاصمتها، حينما سمت شارعا صغيرا خلف المتحف البريطانى باسمه، كى تظل سيرته حيّة فى ذاكرة بلاده. وقد بعث بها من الإسكندرية يوم 23 أغسطس 1882 إلى سير جارنت ولسلى قائد الحملة البريطانية التى جاءت لاحتلال مصر، وفى أثناء عملية تحول المعارك الاستراتيجية من الجبهة الغربية التى فشل الإنجليز فى إحداث أى تقدم بها، إلى الجبهة الشرقية، التى أكد ديليسبس نفسه لعرابى استحالة أن يستخدمها الإنجليز، يبلغه فيها حرفيا: «يرغب الخديو أن يلحق بكم -بصفة مندوبين مدنيين- على باشا مبارك المعين وزيرا للأشغال العمومية، وسلطان باشا رئيس مجلس شورى النواب، وستكون مهمتهما استمالة الأهالى حينما يتقدم الزحف، وإعطاء معلومات عن سلطة ومنزلة الأشخاص الذين يأتون إليكم فى ظل البيان الخاص بعصيان عرابى، وكلاهما رجل كبير الشأن والتأثير فى البلاد، وأرى أن هذا الاقتراح اقتراح وجيه، فهل توافق على إرسالهما؟» ثم برقيتان بالشفرة من نفس القنصل الرهيب فى 28 أغسطس 1882 إلى الأميرال سيمور، وإلى نائب الأميرال سير فرانسيس سولوين يوصيهما خيرا بسلطان باشا مندوب الخديو، ويرجو تيسير وصوله إلى الإسماعيلية فى أسرع وقت (وثيقتان: 141/160 N118 & N119 F.O) ثم نص رسالة التوصية التى حملها سلطان بيده من مالت إلى ولسلى، وهى أيضا بتاريخ 28 أغسطس: «سوف يسلمك هذه الرسالة سلطان باشا رئيس مجلس شورى النواب الذى عينه جناب الخديو مندوبا مدنيا ليصحب سعادتكم فى زحف الجيش على القاهرة. وإذ أوصى سعادتكم بإيلاء سلطان باشا آيات كرمكم، فإننى لست بحاجة إلى إطالة الحديث عن خدماته، أو تذكير سعادتكم بما أبدى من الوطنية، بوصفه رئيس مجلس النواب، فى مناصرة الخديو. وفى معيته فريد باشا مدير الشرقية سابقا، وزكى بك أحد رؤساء تشريفات الخديو ليقوم بالترجمة، وستة سكرتيرين، وستة قواسين» (F.O. 141/160 N120). وما يؤلمنى فى هذا كله ليست خيانة محمد سلطان باشا، وهو الإقطاعى الذى كون ثروته بالتجارة فى الحشيش وخيانة ثوار المنيا الأوائل حينما كان مجرد أفندى يعمل فى أبعديات السراى، وبيعهم للخديو إسماعيل مقابل إقطاعه أبعديات المنيا له، مع أنه كان من الذين تصدروا الحزب الوطنى الذى أسسه عرابى، ومن الذين تزعموا خيانته أيضا. ولكن انضمام مثقف مصرى مرموق، هو على مبارك الذى كان له فضل إدخال لفظة المواطن ومفهوم المواطنة إلى اللغة العربية، فى الوقت الذى لم يستطع فيه رفاعة رافع الطهطاوى (الذى عمل حفيده فى مكتب محمد مرسى) أن يعثر على كلمة ثورة، ليصف بها ما شاهده بأم عينيه وهو فى فرنسا عام 1830. وهى واحدة من أبرز حلقات الثورة الفرنسية التى عمّدت بالدم مفهوم الحرية، ولا تزال أسماء شهداء أيامها الثلاثة مرقوشة بماء الذهب فى عمود الباستيل الشهير وسط باريس، فدعاها بالفتنة على أولى الأمر. ألا يذكرنا هذا كله بما يدور فى مصر هذه الأيام، وبتصدر جعجعات من قالوا بأن الخروج على أولى الأمر فتنة، لمنصة الحديث باسم الثورة الجديدة الآن وهم يجهضونها عن طريق الحديث باسمها؟! فهل ثمة أمل فى أن تنتصر ثورة بعد كل تلك الخيانات؟ هذا ما سنتعرف عليه عندما نصحب عرابى فى رحلته إلى سرنديب فى المقال القادم.