هل تذكرون مذاق المربى التي اعتادت ماما صنعها؟ .. الطعم الشهي والرائحة الطازجة والفاكهة التي شاركنا بأنفسنا في تقطيعها. على مدى سنوات عدة كنت أراقب ماما فينجر تنزل إلى سوق الفواكه والخضروات وتقضي ساعات طويلة لتنتقي ثمرات رخيصة وطازجة بعناية فائقة كأي ربة منزل متوسطة الحال لتساعد أبي في توفير النفقات. كانت ماما فينجر تعاين أفضل الثمار وأكثرها لمعانا لكن هذا لم يكن كافيا لشرائها فالأهم من وجهة نظرها أن تتناسب الثمرة مع الطريقة التي تطهو بها المربي فتختلط الفاكهة مع الشربات بصورة شديدة السلاسة ولذلك كانت تبتسم في دهاء حينما تقع يديها على ثمرة يانعة تثق تماما إنها صالحة لإنتاج أفضل مربى في الكون. بل وفي أغلب الظن لا يعرف البائع قيمة الثمرة التي بين يديه حتى لو كانت من النوع الهنري أو الفابريجاسي، فيبيعها قائلا "الحمد لله ها هو أحمق يقبل بشراء بضاعتي". وفي منتصف التسعينات وحتى مطلع الألفية الجديدة لم يكن هناك من ينافس ماما سوى العم فيرجسون صاحب المتجر المجاور والذي يتعامل معه الجميع لرخص أسعاره وسياساته التسويقية والاستثمارية الذكية فهو يتفاوض مع باعة الثمار بالجملة، ولا يكتفي ببيع المربى فقط بل يبيع أكواب وقمصان تحمل صور منتجاته الرائجة. ورغم ذلك كانت مربى فينجر هي الأشهى والأكثر جاذبية للجميع حتى ممن لا ينتمون إلى شارعنا فصنعت ماما أجود ما عندها موسم 2003-2004، وكادت تتوج بلقب أفضل طاهية في أوروبا عام 2006.
العم فيرجسون .. تاجر شاطر لكن كما يقولون دوام الحال من المحال نزل الأمريكيون والروس إلى المدينة فوافق العم فيرجسون على بيع متجره إلى مستثمر أمريكي بشرط بقائه في منصب الطاهي الأساسي في المطبخ، كما اشتروا متجر العم بنيتيث في ليفربول، ومع مرور الوقت بدأت مربى ماما فينجر تفقد سمعتها. مربى أرسنال الشهية والصحية قد تلاقي مصير جبن الخالة فالنسيا أو زيتون العمة موناكو أو حتى فطائر الجدة أياكس. كلها منتجات أصيلة اعتدنا الاستمتاع بمذاقها لكن كتب عليها التوقف عن النشاط منذ أن افتتح أونكل "بيريز" متجره من طراز "الهايبر ماركت" في نهاية الحي المدريدي، ومنذ جاء الخال إبراموفيتش بأموال النفط بعد سنوات الشقاء في سيبيريا ليستثمرها في تجارة الفطائر الجاهزة، هذا بخلاف بيتزا موراتي وعجائن بيرلسكوني ومصنع لوتشيانو موجي العائد بعد سنوات من الغلق لمخالفة الاشتراطات الصحية. ورغم المنافسة الشديدة التي تسببت في خروجها خاسرة كل موسم ودون ألقاب أصرت ماما فينجر على سياستها دون أن تدرك أن صناعة المنتج اليدوي الأصيل لا يمكنه الصمود أمام هدير المصانع وأصحاب الاستثمارات المالية الضخمة لا يقبلون بالخسارة. ورغم أن بابا وأفراد الأسرة عرضوا عليها ضخ أموال لشراء ثمار جديدة ولامعة تعينها على مواجهة طوفان البضائع الذي أغرق الأسواق رفضت ماما فينجر لأن ببساطة متعتها الشديدة ليست في المربى ذاتها بل في عملية اختيارها وإعدادها ورؤيتها تهزم أنواع المربى الأخرى المنتجة في المصانع، إنه إحساس لا يفهمه سوى النساء فمهما كانت الواحدة منهم غنية فإن مبعث فخرها أمام صديقاتها أن تشتري بضاعة "لقطة" بسعر مذهل. والمشكلة إن ماما فينجر لو وظفت القدرات المالية الموضوعة تحت يديها حتى رغم عدم وجود ضغط من إدارة البيت عليها بتطوير خط إنتاجها فستستطيع المنافسة والفوز، على الأقل بتوفير عمالة بديلة للعمالة المصابة كل موسم.
كانت الخسارة برباعية صدمة قاسية حتى إن غاب أرشافين يا ماما فينجر لكن المؤسف أن المتاجر والمصانع الكبرى صارت تغري مساعدي ماما الشباب بتركها والانضمام إليهم ومن بينهم العامل ضخم الجثة أديبايور الذي رقت ماما لحاله وجاءت به من منفاه الفرنسي وزميله كولو توري الذي خدمنا منذ أيام الأسطى كامبل.. ومن قبل هؤلاء رحل البيلاروسي وكتيبة العمال الفرنسيين. أخذت ماما تعدنا بالتحسن وقالت "صبرا قليلا .. لدي مجموعة من الشباب الصغار ممن أعلمهم حرفتي وسيزيد الإنتاج ويعم الخير والهناء"، وكنا نجوع طويلا لكن مشهدها عائدة من سوق الجوديسون بارك معقل إيفرتون بنصف دستة ثمار يثلج صدورنا ويسد رمقنا. وفي يوم السبت الحزين خرجت ماما لتبيع مربتها الأصلية في ذات يوم افتتاح متجر مانشستر سيتي والذي اجتذب أديبايور وتوري وعشرات من العمال المهرة بفضل أموال صاحبه الخليجي فجاءت الصدمة. "كانت الخسارة برباعية صدمة قاسية حتى إن غاب أرشافين يا ماما فينجر". والمصيبة أن مصنع سيتي هو رابع مشروع عملاق في المدينة وهو ما يهدد بحرماننا من الظهور في المعرض الأوروبي للمنتجات والذي كان يعزينا في بعض الوقت. عزيزتي ماما فينجر .. إن لم يتسم فكرك بالمرونة في الفترة المقبلة فإن كل ما أخشاه أن أذهب يوما إلى المعرض الأوروبي لأجد بضاعتك وقد اختفت وحل محلها أنواع غريبة ومختلفة الألوان والنكهات من المربات لا يجمعها كلها إلا عبارة "صنع في مانشستر".