وزارة الداخلية: ضبط 40 شخصاً لمحاولتهم دفع الناخبين للتصويت لعدد من المرشحين في 9 محافظات    القاضى أحمد بنداري يدعو الناخبين للمشاركة: أنتم الأساس فى أى استحقاق    الإسماعيلية تحت قبضة الأمن.. سقوط سيدة بحوزتها بطاقات ناخبين أمام لجنة أبو صوير    وكيل تعليم القاهرة في جولة ميدانية بمدرسة الشهيد طيار محمد جمال الدين    السعودية تلغي المدفوعات على العمالة الوافدة في المنشآت الصناعية    نتنياهو يعلن رسميًا المصادقة على اتفاق الغاز مع مصر بمبلغ فلكي    الرقابة المالية توافق على التأسيس والترخيص ل 6 شركات بأنشطة صندوق الاستثمار العقاري    41 مؤشرًا لقياس أداء المدن الجديدة للتحول نحو مدن خضراء مستدامة    نتنياهو يعلن الموافقة على صفقة الغاز مع مصر    إطلاق حملة لدعم الأشقاء فى غزة خلال الشتاء ضمن جهود التحالف الوطنى    حكومة نتنياهو تجتمع غدا لمناقشة المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار بغزة    السلاح يضيف 7 ميداليات جديدة لمصر في دورة الألعاب الإفريقية للشباب    حقيقة رحيل هيرفي رينارد عن تدريب منتخب السعودية    جنرال التعليق مدحت شلبي في مهمة نهائي كأس العرب بين الأردن والمغرب    ضبط شخص يوزع أموالا على الناخبين ببركة السبع    بعد جريمة هزت الصعيد.. الإعدام ل8 متهمين بقتل عامل وسرقته في سوهاج    إصابة 3 طلاب بكفر شكر ألقي عليهم ماء نار أثناء استقلالهم توك توك    عرض حفلات الأوسكار على يوتيوب بدءا من عام 2029    رسالة مفاجئة من ياسر جلال لمصطفى أبو سريع بعد انفصاله عن زوجته    نجوم الفن فى عزاء إيمان إمام شقيقة الزعيم أرملة مصطفى متولى    رئيس إذاعه القرآن الكريم السابق: القرآن بأصوات المصريين هبة باقية ليوم الدين    ما حكم حلاقة القزع ولماذا ينهى عنها الشرع؟.. أمين الفتوى يجيب بقناة الناس    إصابة شخصين في حادث تصادم 3 سيارات أعلى الطريق الأوسطي    "جبران" يلتقي وزيرة العمل الإيطالية لتعزيز التعاون المشترك    يسري نصر الله: باسم سمرة فنان كبير رغم عدم امتلاكه لغات أجنبية    الحكومة تستهدف استراتيجية عمل متكامل لبناء الوعى    خالد الجندي: من الشِرْك أن ترى نفسك ولا ترى ربك    محافظ الجيزة: زيادة عدد ماكينات الغسيل الكلوى بمستشفى أبو النمرس إلى 62    جلسة صعود وهبوط: 6 قطاعات فى مكسب و10 قطاعات تتراجع    الداخلية تكشف حقيقة إجبار سيدة على ترك مسكنها بالبحر الأحمر    بوتين: روسيا ستسعى لتوسيع مكاسبها في أوكرانيا حال فشل محادثات السلام    السيسي يرحب بتوقيع اتفاق الدوحة للسلام الشامل بين حكومة وتحالف نهر الكونغو الديمقراطية    محمود كارم: خطاب الكراهية أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة    البنك الزراعي المصري يسهم في القضاء على قوائم الانتظار في عمليات زراعة القرنية    مستشار رئيس الجمهورية: مصر تمتلك كفاءات علمية وبحثية قادرة على قيادة البحث الطبى    أرفع أوسمة «الفاو» للرئيس السيسى    جامعة الدول العربية تطلق المنتدى العربي الأول للإنذار المبكر والاستعداد للكوارث    الصحة: إجراء جراحة ميكروسكوبية دقيقة لطفل 3 سنوات بمستشفى زايد التخصصى    جوائز مالية ضخمة للمنتخبات المشاركة في كأس العالم 2026    تأييد حبس الفنان محمد رمضان عامين بسبب أغنية رقم واحد يا أنصاص    مفتي الجمهورية يلتقي نظيره الكازاخستاني على هامش الندوة الدولية الثانية للإفتاء    مكتبة الإسكندرية تشارك في افتتاح الدورة العاشرة لملتقى القاهرة الدولي لفن الخط العربي    أسوان تكرم 41 سيدة من حافظات القرآن الكريم ضمن حلقات الشيخ شعيب أبو سلامة    18 فبراير 2026 أول أيام شهر رمضان فلكيًا    سوريا.. الأمن يوقف متورطا بجرائم حرب زمن النظام المخلوع    اليونيفيل: التنسيق مع الجيش اللبناني مستمر للحفاظ على الاستقرار على طول الخط الأزرق    المحمدي: ظُلمت في الزمالك.. ومباريات الدوري سنلعبها كالكؤوس    اتجاه في الزمالك لتسويق أحمد حمدي في يناير    إقبال على التصويت بجولة الإعادة في انتخابات مجلس النواب بالسويس    سعر طن حديد التسليح اليوم الأربعاء 17 ديسمبر في مصر    المصرف المتحد يرعى المسابقة العالمية للقرآن الكريم في نسختها الثانية والثلاثين    إصابة سيدة وابنها صدمتهما سيارة بقرية فى أبو النمرس    محافظ قنا يوجه بحملات مرورية مكثفة للحد من حوادث الطرق    متحدث وزارة الصحة يقدم نصائح إرشادية للوقاية من الإنفلونزا الموسمية داخل المدارس    أجواء شتوية وفرص لسقوط أمطار.. الأمطار تكشف تفاصيل حالة الطقس    النائب أيمن محسب: الخروقات الإسرائيلية تهدد الانتقال للمرحلة الثانية من وقف إطلاق النار    «كامل أبو علي»: أتمنى فتح صفحة جديدة وعودة العلاقات مع الأهلي    مصطفى عثمان حكما لمباراة البنك الأهلي ومودرن سبورت في كأس عاصمة مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.




نشر في الوطن يوم 21 - 12 - 2015

أسابيع معدودات تفصلنا عن الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير 2011، ثمة حالة من القلق الذى يرقى فى أحوال إلى مستوى الخوف، من جانب أطراف عدة، من هذا اليوم. هناك الخائفون منه، والخائفون عليه. الكل يتساءل ماذا يمكن أن يحدث فى هذا اليوم، خصوصاً أن هناك أطرافاً متنوعة بدأت منذ عدة أسابيع التحضير للحدث، بعض هذه الأطراف مثل «الإخوان» يدعو إلى ثورة كبرى يوم 25 يناير، ظهر ذلك فى رسالة المرشد التى سرّبها من السجن إلى قواعد «الإخوان»، وبعضها، مثل مجموعة من الشباب المحسوب على «يناير»، بدأ يحشد للخروج، منطلقين من رؤية إلى أن مطالب «يناير» لم تتحقق بعد، وأن السلطة الحالية حادت عن مسار الثورة. يرى هذا الشباب أن ثمة رفاقاً لهم من المحسوبين على «يناير» يقبعون الآن خلف جدران السجون، ويرون أن ثمة سكوتاً من جانب السلطة على عملية الطعن والتجريح المتواصل منذ شهور، فى الثورة، ووصمها ب«المؤامرة»، وبين هؤلاء بدأت وجوه معروفة «ينايرية» فى الظهور، بعد اختفاء دام لشهور عديدة، مثل الدكتور محمد البرادعى ووائل غنيم، وغيرهما من الوجوه التى كان لها أدوار محسوسة فى التخمير والدفع لاندلاع ثورة يناير 2011. هذه الأطراف فى مجملها تحلم بتكرار السيناريو الذى شهدته مصر منذ خمس سنوات، لكنها تتحرّك بدرجة كبيرة من عدم الاطمئنان والخوف من أن تمر الذكرى مروراً هادئاً، أو تشهد أحداثاً حفظها المصريون طوال السنين الماضية، دون تغيير يُذكر على أرض الواقع. وفى المقابل من هؤلاء يطفو على السطح أطراف عدة تبدو خائفة من هذا اليوم، وهى تتحدد فى السلطة والنخب المختلفة التى تدور فى فلكها، وجوهر الخوف يتعلق بالخشية من تكرار سيناريو يناير 2011، حين اندلعت نار عظيمة من شرارة صغيرة لم يأبه أحد لخطورتها فى البداية، بل أنكروا كل الإنكار احتمالية أن تتحول الشرارة إلى نار قادرة على التهام الجالسين على كراسى السلطة. فى ظنى أن تقدير الموقف ومستوى الوعى بالظرف يعوزه الكثير من التدقيق، سواء لدى الخائفين من «يناير» أو الخائفين عليها. ودعونا نبدأ بالخائفين على «يناير»، بحكم أنهم الطرف الذى فجّر حالة «الخوف».
الخائفون على «يناير»
يتأسس خوف هؤلاء على عدد من الفرضيات غير الدقيقة التى تضللهم فى أحوال عن استيعاب الموقف المعيش بصورة موفقة. أولها فرضية أن ثورة يناير لم تُحقق شيئاً على الأرض. وهى فرضية غير دقيقة من عدة جوانب، أولها أنها تختزل الثورة فى عدد من الوجوه التى غيّبتها السجون، لأنها عضّت على قناعاتها بالنواجذ، ونابذت بها السلطة، فكان السجن ثمناً متوقعاً لثباتها وجرأتها فى المواجهة. وثانيها أن ثمة تحولات عديدة حدثت على الأرض يمكن عزوها بسهولة إلى «يناير»، منها على سبيل المثال، المظاهرات الفئوية التى لم تتوقف يوماً طوال الفترة الماضية، رغم وجود قانون التظاهر، الأمر الذى يعكس حقيقة أفرزتها «يناير»، أن الشعب حين يريد لا يأبه بالقوانين الظالمة، تعالَ بعد ذلك إلى مستوى النزاهة فى الانتخابات، بدءاً من استفتاء 19 مارس 2011، وحتى انتخابات مجلس النواب الأخيرة، وستجد أن مستوى النزاهة ارتفع، انتقل من المشهد السياسى إلى المشهد الاقتصادى، وسوف تجد أن السلطة تحاول إرضاء الطبقات الفقيرة من شتى السبل، فى الخبز والتموين والأسعار، وخلافه، وكلما اقتربت ذكرى يناير، نشطت أكثر وأكثر فى إرضاء هذه الطبقة، وليس يخفى على أحد أن العدالة الاجتماعية كانت مطلباً أساسياً من مطالب «يناير»، نعم تبدو الإجراءات التى تتخذها السلطة فى هذا الاتجاه بعيدة عن المفهوم الحقيقى للعدالة الاجتماعية، إلا أنها تؤشر إلى أن «الهاجس الينايرى» جزء من تفكير صانع القرار. من المؤكد أن «يناير» لم تحقق مطامحها، لكن إطلاق الأحكام بالحديث عن أن «يناير» ضاعت وانتهت، وغير ذلك من عبارات غير واعية بمنطق التاريخ وقوانين التغيير فى حياة الشعوب، يفتقر إلى الموضوعية. «يناير» تغيرت على أرض الواقع بصورة بطيئة، لكنها مستمرة، وليس أدل على أن «يناير» ما زالت على الأرض من ذلك القلق الذى اعترى الكثير من خصومها مع قُرب الذكرى الخامسة لها.
الفرضية الثانية التى تسيطر على الخائفين على «يناير» هى فرضية «الشعب على رنة». يظن الداعون إلى النزول يوم 25 يناير المقبل أن الشعب المصرى أصبح على «رنة»، وأنه ليس من المطلوب منهم أكثر من دعوة الشعب إلى مقابلتهم فى الميادين حتى يستجيب، وتقديرى أن هذا التفكير ينطوى على قدر كبير من المبالغة. تحرُّك الشعب يحتاج إلى تخمير، بما يعنيه من تراكم أحاسيس الغضب والاحتقان والظلم الذى يصل بالناس فى النهاية إلى الانفجار. ذلك ما حدث فى 25 يناير 2011، ولو يذكر الكثيرون، فقد سبق هذه الثورة العديد من المظاهرات الفئوية التى دارت جميعها فى فلك «التخمير». ويصعب تحديد فترة زمنية معينة لاستواء حالة التخمير تلك بصورة تهيئ الشعب للخروج، فقد تستغرق عاماً، وقد تتواصل لأعوام، تبعاً لأحوال الظرف والسياق. نعم ثمة نوع من الضجر والتبرّم والتذمّر من جانب «الينايرجية» من السياسات الحالية، وثمة نوع من الغضب من المحاولات الدؤوبة لتشويه ثورة يناير، لكن لا بد من الاعتراف بأن أغلب هؤلاء يخشون من النتائج التى يمكن أن تترتب على حالة الانفلات، يمكن أن تتعرّض لها البلاد فى لحظة، تفقد فيها السيطرة على الأمور، والتوابع الخطيرة التى يمكن أن تتأسس على ذلك. لا بد أن يأخذ الشعب وقته فى التخمير وتقدير وحسابات الموقف قبل أن يتحرّك. وموضوع تقدير الموقف ينقلنا إلى الفرضية الثالثة غير الدقيقة التى تشكل جزءاً من تفكير الخائفين على «يناير».
إنها فرضية «التحرّك بلا رؤية ودون بديل»، وهى فرضية تفتقر إلى الواقعية والمنطقية، وتدلل على أن «الينايرجية» لم يتعلموا الدرس من التجارب السابقة، حين تحركوا للتغيير دون رؤية أو بطرح بديل، فكانت النتيجة أن فرضت عليهم الرؤية والبديل. وهذا الأمر ضرورى كل الضرورة، لأن أول سؤال سوف يسأله لك من تطالبه بالنزول: ما البديل؟ عندما يمتلك «الينايرجية» إجابة عن هذا السؤال فإن أموراً كثيرة على أرض الواقع سوف تتغير. الشعب يرى أن دوره يقتصر على النزول للمطالبة بالتغيير، لكن مهمة التغيير بعد ذلك ترتبط بدعاته وقياداته، وعدم وجود إجابة عن هذا السؤال يجعل الدعوة التى يتبناها البعض للنزول إلى الشارع غير واقعية فى نظر الكثيرين، خصوصاً أن هناك من يخشى من عواقب ومغبات التحرك على المستقبل، فى ظل التحديات الداخلية والخارجية التى نواجهها. ثمة فرضية أخيرة لا بد من أخذها فى الاعتبار أيضاً ونحن بصدد تحليل موقف الخائفين على «يناير»، وتتمثل فى «التوجس من النزول والإخوان فى الشارع». نزول الناس مع وجود الإخوان فى الشارع أمر صعب للغاية، لأن هناك فارقاً كبيراً بين نزول الإخوان الهادف إلى استرداد السلطة ووضعها من جديد فى يد «الجماعة»، ونزول الناس الهادف إلى تغيير الواقع، طبقاً لقيم ومطالب ثورة يناير. وطالما بقى الإخوان فى الشارع فسيكون صعباً على الكثيرين النزول. وكلنا يعلم أن الجماعة تُخطط لاستغلال 25 يناير المقبل كحلقة من حلقات مواجهاتها مع السلطة الحالية. وعلينا ألا نغفل أيضاً أن الكثيرين يخشون من أن يؤدى التغيير «دون وجود بديل» إلى عودة جديدة للجماعة. ويجب ألا ننسى أيضاً أن الإخوان لديهم ثأر مع كل من السلطة والشعب، إذ لا يستثنون المواطنين العاديين من الخصومة، لأنهم هم الذين نزلوا ضدهم، وهم الذين رضوا عن تنكيل السلطة بهم.
مجمل القول بالنسبة للخائفين على «يناير» أن احتمالات أن يتحرك الشعب فى هذا اليوم المعلوم «25 يناير» والمكان المحتوم «التحرير» ليست كبيرة، نعم الكثير من المواطنين يشعرون بالضجر جراء الضغوط المعيشية والممارسات الشرطية وتشوه المشهد السياسى، لكنهم يحتاجون إلى وقت ل«التخمير»، ومن لاحظ تدنى نسبة المشاركة فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة يستطيع أن يستخلص بسهولة أن حالة التخمير قد بدأت بالفعل، لكن من الضرورة بمكان أن تأخذ وقتها، حتى تصل إلى لحظة تحرك، فى تقديرى أن أحداً لن يستطيع أن يحددها بيوم موعود هو يوم الخامس والعشرين من يناير.
الخائفون من «يناير»
من الطبيعى أن تكون السلطة بكل شخوصها والقوى المدافعة عنها أو المستفيدة منها، الخائف الرئيسى من يوم 25 يناير، فأى حراك شعبى يحدث على الأرض يضر بأوضاعها. وفى ظل عدم وجود مؤشرات جادة على الأرض -على الأقل فى الفترة الحالية- تؤشر إلى احتمالية وجود حراك ذى تأثير ضد السلطة الحالية، بإمكاننا أن نصف خوفها ب«النفسى» بامتياز. لكن من الضرورى الالتفات إلى أن حالة القلق تلك تدلل لك على أن ثورة يناير «حية ترزق». وتقديرى أن حالة القلق تلك لها أصل فى سكوت السلطة الطويل على عملية التشويه لثورة يناير، ودمغها، ومن قام بها، بالتآمر على بلدهم والوطن الذى يؤويهم، وقد أثمرت حملة التشويه تلك عن تفكيك تحالف 30 يونيو، ليخرج منه «الينايرجية»، بل بدأ بعضهم يردد أن 30 يونيو «ثورة مضادة». فالنظر إلى «يناير» كمؤامرة يعنى نظرة مقابلة إلى «30 يونيو» كثورة مضادة. وقد تنبّهت السلطة متأخرة إلى هذا الأمر، فبدأت تُعرب عن غضبها ممن يحاول شق المصريين إلى صفين: «صف الينايرجية» و«صف اليونيجية»، لكن التحرّك المتأخر لم يؤدِ إلى صدى ملحوظ على مجمل المشهد، خصوصاً أن الخطاب المشوّه ل«يناير» ما زال متواصلاً فى دروب الإعلام والسياسة. ورغم القلق الذى يعترى أفراد هذا الفريق كلما اقترب هذا اليوم، فإنك تجده لا يتوقف عن التسخين، ودمغ الملايين التى نزلت فى القاهرة ومحافظات مصر من قبليها إلى بحريها ب«المتآمرين». ويسقط ممارسات بعض المحسوبين على هذه الثورة على تلك الملايين، وينسى تلك المقولة الشهيرة التى تذهب إلى أن «الانتهازيين هم أكثر المستفيدين من الثورات». ومن الطبيعى جداً ألا يخلو منهم صف أو فريق. ولا ينسى أعضاء هذا الفريق أن يعلقوا فى يناير وثورة يناير وزر الوصول بالإخوان إلى الحكم، مهدرين -بجرأة يُحسدون عليها- السياق الذى أحاط بذلك، ومتناسين أن الإخوان جاءوا بانتخابات شعبية، وأطيح بهم فى مظاهرات شعبية عارمة، ويقفزون على حقيقة أن انتخابات الرئاسة عام 2012 انحصر التنافس فيها بين ممثل الإخوان وممثل النظام الفلولى. فهل كانوا سيطنطنون بهذا الكلام ويقولون إن الثورة جاءت بفل من فلول «مبارك» لو وصل أحمد شفيق إلى الحكم، ثم أطيح به فى ثورة شعبية؟
تبدو السلطة متوجّسة مما تصفه ب«عمليات النفخ الإعلامى فى التعذيب بأقسام الشرطة»، التى أدت إلى سقوط العديد من الضحايا، وزاد من توجُّسها استثمار «الينايرجية» لهذه المشاهد، فى تأكيد أن الأجواء الحالية التى تعيشها البلاد تتشابه مع الأجواء التى سبقت 25 يناير 2011، ورغم أن الرئيس نفسه أعلن رفض أى تجاوزات من جانب جهاز الشرطة، ووعد بمحاسبة المسئولين عن تعذيب المواطنين بالأقسام، فإنه أصر على الحديث عن أن واقعة أو واقعتى تعذيب داخل أقسام الشرطة لا تعنى بحال فساد الجهاز ككل، وهو كلام موضوعى مائة بالمائة، لكن المشكلة أن البعض قارن بين كلام الرئيس حول الطريقة المهينة التى تم القبض بها على أحد رجال الأعمال، وحديثه الحاسم فى هذا السياق، وكلامه عن الشرطة حين تسبّبت فى وفاة مواطنين عاديين فى الأقسام، ثم مصمصوا شفاههم وسكتوا! ولا خلاف على أن السماح باستمرار هذا الأسلوب فى الأداء الشرطى يخدم فكرة «إعادة الكرة الينايرية» مرة أخرى، خصوصاً أن من لا يعاين عودة الشرطة إلى نهجها القديم «نهج شرطة العادلى» فى الأقسام، يعاين ذلك بسهولة فى الشارع. المصريون واعون بالدور الذى تقوم به الشرطة فى مواجهة الإرهاب، هذا أمر مؤكد، لكن ذلك لا يعنى بحال، إمكانية قبول أو تفويت الممارسات القمعية ضد المواطن، وهو يعلم أن شرطة «العادلى» كانت تردد هى الأخرى أنها تواجه الإرهاب، ومع ذلك فقد انتفض ضدها فى يناير 2011، وكانت نقطة الضعف الرئيسية التى نفذت منها الثورة إلى إسقاط النظام برمته.
تعلم السلطة أيضاً حجم الضغوط المعيشية التى يعانى منها المواطن، نتيجة ارتفاع معدلات التضخُّم، والتهاب الأسعار، وتخفّف الدولة من الدعم، وتخشى من أن يستغل البعض هذه المتاعب والأوجاع، للحشد ضدها فى يناير، وهى تتعامل فى مواجهة هذا الموقف بمعادلة تعتمد على حماية الفقراء وتوفير احتياجاتهم الأساسية، خصوصاً على مستوى المأكل (الاحتياجات الفموية)، من خلال النظام المستحدث للحصول على السلع التموينية، ونقاط الخبز، وتوفير منافذ لبيع سلع رخيصة السعر وغير ذلك، ولا خلاف على أن هذه الجهود تسهم فى امتصاص جانب كبير من احتقان الطبقة الفقيرة، لكن السلطة تغفل أمرين، وهى تعالج هذا الجانب: أولهما أنه بعد عام ونصف العام من ترؤس «السيسى» للدولة، بدت غير قادرة على تحريك رجال الأعمال فى الاتجاه الذى يخدم طموحاتها فى بناء الدولة، وإقالتها من عثرتها الاقتصادية، وثانيهما أنها تناست، وهى تحرص على الاحتياجات الفموية للطبقة الفقيرة، والاحتياجات النفسية لرجال الأعمال الذين يتحسبون لجرح مشاعرهم وجيوبهم، أن ثمة طبقة طويلة وعريضة بدأت تدفع وحدها ثمناً باهظاً لسياسات السلطة، وهى الطبقة المتوسطة، تلك الطبقة التى لا تقتصر احتياجاتها على الطعام، بل لها بنود استهلاك أخرى عديدة، بدأت تلتهب أسعارها بصورة غير مسبوقة. لا يستطيع أحد أن يغفل عن أن الطبقة الوسطى دفعت القسم الأكبر من فاتورة الأزمة الاقتصادية التى تعيشها البلاد، جراء حالة الاضطراب التى سادتها خلال السنوات الماضية، ومحاولات الإرهاب الفت فى عضد الدولة الاقتصادى، وتراجع الاستثمارات، وانهيار السياحة. فالارتفاعات المتوالية فى قيمة الضرائب والأسعار وتقليل فاتورة الدعم تتوجّه أوجاعها إلى هذه الطبقة أكثر من غيرها. ومن المعلوم أن الطبقة الوسطى كانت الفاعل الأول والأهم فى أحداث 25 يناير 2011، والشريحة التى تحركت منها فى هذه الثورة خرجت مدفوعة بإحساس بالغبن، وإحساس موازٍ بإهدار الكرامة، لكن طبيعتها كطبقة تهوى «الرقص على السلم» غلبتها، فجعلتها تتوقف عن خوض غمار رحلة التغيير، بعد أن سقط نظام «مبارك»، حين ظنت أن باقى الأمور ستتغير من تلقاء نفسها بعد سقوط رأس النظام، وهو ما لم يحدث بالطبع، لأن التغيير لا يحدث من تلقاء نفسه، بل بأيادى من يسعون إليه. تعرّضت بعد يناير 2011 لما يمكن وصفه بالعقاب، لأنها كانت الضلع الأهم فى الثورة، وهى الآن تعانى من قدر كبير من الإحباط الذى قد يحفّزها على النزول، لكن تقديرى أنها تتحسّب لهذه الخطوة كثيراً، وتخاف مما يمكن أن يترتب عليها من اهتزاز فى أوضاع الدولة تجعل الوضع الحالى المحبط الذى تعيشه هو الخيار الأفضل بالنسبة لها.
ويبقى أن التعويل على خوف الشريحة الثائرة من أبناء الطبقة الوسطى من «البديل الأسوأ» يجب ألا يطول، ولا بد أن تستند السلطة إلى سياسات عادلة توازن بين العبء الثقيل الذى تلقيه على هذه الطبقة والعبء الخفيف الملقى على عاتق الطبقة المخملية ورجال الأعمال، وأن تبادر إلى تهيئة الأوضاع الاقتصادية والسياسية التى تقلل من إحباط هذه الطبقة وإحساسها بالغبن، هذا على مستوى الطبقة الأخطر أثراً والأكثر غضباً من وجهة نظرى، وثمة مسارات أخرى لا بد أن تسلكها السلطة الحالية للتخفيف من حالة الاحتقان العام التى تسيطر على شرائح عديدة مؤهلة للانفجار فى أى لحظة. المسار الأول يرتبط بإعادة الاعتبار إلى المواطن أمام جهاز الشرطة، وضرورة أن يكون للرئاسة دور فى التأسيس لفكر جديد يحكم جهاز الشرطة، خصوصاً أن لديها مستشاراً لشئون الأمن هو اللواء أحمد جمال الدين، ولست أدرى ما هى وظيفته ولا أدواره حتى الآن؟! المسار الثانى يرتبط بتحديد «انحيازات السلطة»، فأمر محمود أن تظهر مؤشرات عن انحياز الرئاسة إلى الطبقة الفقيرة، لكن محورة الانحياز فى «الاحتياجات الفموية» فقط أمر لا يكفى، فمن المهم أن تتفهم السلطة الاحتياجات الصحية والتعليمية والتوعوية لهذه الطبقة، لأن التسكين بالطعام وحده لن يسكن غضب هذه الطبقة، ولن يقلل من العذاب الذى تجده عند البحث عن العلاج أو تعليم الأبناء، أو عندما تقع فريسة أفكار يسهل عليها تقبّلها بسبب غياب الوعى. المسار الثالث يتعلق بالتصالح مع الشباب، ذلك القطاع الذى شكّل المحرك الأول لثورة يناير بموجاتها المختلفة. جانب من التصالح يرتبط بالطمأنة، وأساسها حسم موقف السلطة من عدد من الأمور، من بينها أوضاع الشباب المحسوبين على ثورة يناير، الذين يبيتون منذ شهور طويلة وراء جدران السجون، وتعديل قانون التظاهر بالشكل الذى يتفهّم الفارق بين مفهوم ضبط الأوضاع ومفهوم الحريات العامة، يضاف إلى ذلك تحديد موقف السلطة من الأصوات التى تجتهد فى تشويه وجه ثورة يناير، والتى تهين الشعب المصرى، أكثر مما تنال من الثورة.
أجد أنه من المفيد للسلطة التى تخشى «يناير» أن تسعى إلى تصحيح الأوضاع على هذه المسارات بأعلى درجات السرعة، وما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وعليها ألا تطمئن كثيراً إلى أن فكرة الخوف من «البديل الأسوأ» ستظل تصرف الشرائح الاجتماعية الغاضبة من النزول ضدها، لأن المصريين يمكن أن يتحركوا فى أى لحظة. وفى المقابل على الخائفين على «يناير» أن يعلموا أن الكثير من المؤرخين عجزوا عن تحديد الأوقات والقوانين التى تحكم حركة المصريين. هذا الشعب يتحرك لأسبابه وبمعرفته وفى التوقيتات التى يقررها. يتحرك فى التوقيت الذى يجد أنه مطالب بالتحرك فيه، دون أن يدعوه أحد إلى النزول. ولو قرر المصريون النزول، فسيفاجئون الجميع، فى توقيت محدد، ولحظتها لن يستطيع أحد الوقوف فى وجوههم. أيها الخائفون على «يناير» أو الخائفون منها: خذوا حذركم!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.