لا يكاد يمر يوم إلا وتحمل لنا الأخبار قصة مواطنين وقعوا ضحايا لعمليات نصب تحت زعم توظيف أموالهم ومنحهم عوائد كبيرة مقارنة بتلك التى تمنحها البنوك أو فرص الاستثمار الأخرى. لكن هناك آلية نصب جديدة ازدهرت فى هذه الأيام، حيث تقوم بعض الشركات التى تتلاعب بعواطف البسطاء، بالإعلان عن بيع وحدات فاخرة فى منتجعات ساحلية أو مدن كبيرة بأسعار شديدة الانخفاض. بعض تلك الإعلانات يقدم أسعاراً لا تكاد تكافئ ثمن الأرض التى يُزعم البناء عليها، ورغم ذلك فإنه يبدو أن الراغبين فى الشراء يتدافعون على أصحاب هذه المشروعات، بغرض اقتناص تلك «الفرص» التى لا يوازيها أى عرض بيع آخر فى عالم الاستثمار الجاد. قبل أيام قليلة، طالعتنا الصحف بعدد من الأخبار عن حبس مسئولى بعض الشركات العقارية، التى حصلت على مبالغ من مواطنين، بزعم بيع وحدات سكنية أو شاطئية لهم، بعدما تبين لجهات التحقيق أن تلك الشركات لم تف بوعودها بتسليم الوحدات للمشترين، الذين وقعوا فى فخ الأسعار الخيالية التى أعلنت عنها تلك الشركات. وفى الوقت ذاته، نشرت الصحف أيضاً أخباراً جديدة عمن سمتهم ب«ذيول المستريح» أو «توابع المستريح» فى عدد من المحافظات، وهؤلاء ليسوا سوى مغامرين جدد استطاعوا إقناع بعض المواطنين باستثمار أموالهم مقابل عوائد تبلغ فى بعض الأحيان 20% شهرياً. إن قصص النصب اعتماداً على طمع الضحية قديمة جداً، وربما يعود أشهرها إلى العقد الأخير من القرن التاسع عشر، حين تفتق ذهن مهاجر أوروبى إلى الولاياتالمتحدة عن حيلة عبقرية لتحقيق الثراء، فى بلد عُرف منذ نشأته بأنه «أرض الأحلام» الواسعة ومجتمع «الفرص التى لا تنضب». استأجر هذا المغامر مكتباً فى إحدى البنايات، وطبع بعض الإعلانات، وقام بلصقها على جدران المدينة وتوزيعها على الحانات وبعض وسائل النقل. كانت كلمات الإعلان بسيطة ومباشرة: «احصل على دولار شهرياً مقابل كل دولار تدفعه لنا»، ثم عنوان الشركة، وصورة صاحبها، الذى تم وصفه بأنه «رجل الأعمال والمستثمر الكبير». الفكرة ببساطة أن هذا المغامر طرح على مجتمع المدينة التى استهدفها فرصة استثمارية بعائد يبلغ نحو 1200% سنوياً من أصل رأس المال، مع دفع الفائدة شهرياً، بحيث يكون العائد الشهرى بنسبة 100% من المدفوع، وهو عائد لم يكن مطروحاً من أى وعاء استثمارى، سواء كان خاصاً أو حكومياً، فضلاً عن كونه يعكس نسبة ربح خيالية، يعرف الجميع أنه لا توجد صناعة أو تجارة أو خدمة يمكن أن تحققها، بما فيها تجارة الأسلحة والمخدرات وحتى الرقيق الأبيض. لكن ثمة عوامل عززت فرص هذا المغامر فى جمع دولارات عدة من عدد من الطماعين والفضوليين وربما البلهاء؛ أولها أنه روّج عبر بعض المعاونين أنه اكتشف منجم ذهب، وأنه يحتاج إلى تمويل عاجل لدفع رشى وإتاوات وتشغيل عمالة وجلب معدات ومؤن لبدء استخراج المعدن النفيس وبيعه. وثانيها أن أوعية الاستثمار المأمونة فى ذلك الحين كانت محدودة وعوائدها منخفضة، وثالثها أن كثيرين من المهاجرين إلى «العالم الجديد»، كما عُرفت أمريكا آنذاك، كانوا يحلمون بالثراء السريع، والعيش الرغد، والربح السهل، انطلاقاً من صور وردت إليهم، عبر المحيط الأطلسى، عن مواطنيهم الذين عانوا شظف العيش فى القارة العجوز، قبل أن ينتقلوا إلى أمريكا، فيعانقهم الحظ، وينقلهم فجأة إلى خانة الأثرياء المنعمين. على أى حال، تلقى المغامر النصاب الدفعة الأولى من الدولارات، فسجلها فى دفاتره، وحرص عند انتهاء الشهر على تسليم كل مودع عائده، المتمثل فى نسبة 100% شهرياً مما أودعه. مرت شهور قليلة، فإذا بحجم إيداعات يتجاوز مئات الآلاف من الدولارات لدى الشركة، وهو رقم كبير بمعايير تلك الأيام، ولم تكد تمر شهور أخرى، حتى اتضحت الحقائق، ففر صاحبنا بما بقى من إيداعات لديه، بعدما توقف عن دفع إيجار المكتب، وباع أثاثه. لاحقاً أظهرت نتائج التحقيقات أن المغامر الأوروبى لم يكن سوى نصاب، استغل طمع المودعين وفساد بعضهم، فعمد إلى دفع العوائد من تدفقات يدفعها المودعون الجدد، من دون أن يكون لديه أى نشاط صناعى أو تجارى أو خدمى. الفكرة ذاتها تكررت كثيراً فى العديد من المجتمعات، وقد تجسدت فى مصر بوضوح فى عقدى الثمانينات والتسعينات من القرن الفائت، فيما عرف آنذاك بكارثة «شركات توظيف الأموال»، التى بات معروفاً أنها تعتمد على آلية واحدة لا تتغير: «سوق مهشمة مأزومة، وراغبون فى الاستثمار معظمهم طماع أو فاسد، وعوائد غير واقعية تدفع بانتظام لأوائل المودعين، وحملات ترويج وإعلان واسعة، ودفع أموال مودع كعائد لمودع آخر، ومغامر أفاك يغرق فى الثراء والمجد والمتع غير البريئة، وتواطؤ من مسئولين يعميهم بعض ما يجمعه، ودموع ندم يذرفها ضحايا بعد فوات الأوان». على الدولة أن تُفعّل آليات المتابعة والرقابة على مثل تلك الأنشطة بكل تأكيد، لكن المسئولية أيضاً تقع على عاتق هؤلاء الذين يعميهم الطمع أحياناً عن إجراء الحسابات البسيطة، وتفقدهم حاجتهم للكسب قدرتهم على التفكير المنطقى، فيقعون ضحايا لنصابين وأفاكين.