فى العقد الأخير من القرن التاسع عشر، تفتق ذهن مهاجر أوروبى إلى الولاياتالمتحدة عن حيلة عبقرية لتحقيق الثراء، فى بلد عُرف منذ نشأته بأنه «أرض الأحلام» الواسعة ومجتمع «الفرص التى لا تنضب». وعلى الفور بدأ هذا المغامر فى تنفيذ خطته؛ فاستأجر مكتباً فى إحدى البنايات، وطبع بعض الإعلانات، وقام بلصقها على جدران المدينة وتوزيعها على الحانات وبعض وسائل النقل. كانت كلمات الإعلان بسيطة ومباشرة: «احصل على دولار شهرياً مقابل كل دولار تدفعه لنا»، ثم عنوان الشركة، وصورة صاحبها، الذى تم وصفه بأنه «رجل الأعمال والمستثمر الكبير». الفكرة ببساطة أن هذا المغامر طرح على مجتمع المدينة التى استهدفها فرصة استثمارية بعائد يبلغ نحو 1200% سنوياً من أصل رأس المال، مع دفع الفائدة شهرياً، بحيث يكون العائد الشهرى بنسبة 100% من المدفوع، وهو عائد لم يكن مطروحاً من أى وعاء استثمارى، سواء كان خاصاً أو حكومياً، فضلاً عن كونه يعكس نسبة ربح خيالية، يعرف الجميع أنه لا توجد صناعة أو تجارة أو خدمة يمكنها أن تحققها، بما فيها تجارة الأسلحة والمخدرات وحتى الرقيق الأبيض. لكن ثمة عوامل عززت فرص هذا المغامر فى جمع دولارات عدة من عدد من الطماعين والفضوليين وربما البلهاء؛ أولها أنه روّج عبر بعض المعاونين أنه اكتشف منجم ذهب، وأنه يحتاج إلى تمويل عاجل لدفع رشى وإتاوات وتشغيل عمالة وجلب معدات ومؤن لبدء استخراج المعدن النفيس وبيعه. وثانيها أن أوعية الاستثمار المأمونة فى ذلك الحين كانت محدودة وعوائدها منخفضة، وثالثها أن كثيرين من المهاجرين إلى «العالم الجديد»، كما عُرفت أمريكا آنذاك، كانوا يحلمون بالثراء السريع، والعيش الرغد، والربح السهل، انطلاقاً من صور وردت إليهم، عبر المحيط الأطلسى، عن مواطنيهم الذين عانوا شظف العيش فى القارة العجوز، قبل أن ينتقلوا إلى أمريكا، فيعانقهم الحظ، وينقلهم فجأة إلى خانة الأثرياء المنعمين. على أى حال، تلقى المغامر الأفاق الدفعة الأولى من الدولارات، فسجلها فى دفاتره، وحرص عند انتهاء الشهر على تسليم كل مودع عائده، المتمثل فى نسبة 100% شهرياً مما أودعه. بعض المودعين شعر بجدوى هذا النوع من «الاستثمار»، فضاعف دولاراته، أو رفض الحصول على العائد، طالباً ضمه إلى رأس المال. مرت شهور قليلة، فإذا بحجم إيداعات يتجاوز مئات الآلاف من الدولارات لدى الشركة، وهو رقم كبير بمعايير تلك الأيام، ولم تكد تمر شهور أخرى، حتى اتضحت الحقائق، ففر صاحبنا بما بقى من إيداعات لديه، بعدما توقف عن دفع إيجار المكتب، وباع أثاثه. لاحقاً أظهرت نتائج التحقيقات أن المغامر الأوروبى لم يكن سوى نصاب، استغل طمع المودعين وفساد بعضهم، فعمد إلى دفع العوائد من تدفقات يدفعها المودعون الجدد، دون أن يكون لديه أى نشاط صناعى أو تجارى أو خدمى. الفكرة ذاتها تكررت كثيراً فى العديد من المجتمعات، وقد تجسدت فى مصر بوضوح فى عقدى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت، فيما عرف آنذاك بكارثة «شركات توظيف الأموال»، التى بات معروفاً أنها تعتمد على آلية واحدة لا تتغير: «سوق مهشمة مأزومة، وراغبون فى الاستثمار معظمهم طماع أو فاسد، وعوائد غير واقعية تدفع بانتظام لأوائل المودعين، وحملات ترويج وإعلان واسعة، ودفع أموال مودع كعائد لمودع آخر، ومغامر أفاق يغرق فى الثراء والمجد والمتع غير البريئة، وتواطؤ من مسؤولين يعميهم فتات مما يجمعه، ودموع ندم تذرفها ضحايا بعد فوات الأوان». لم يفعل نبيل البوشى، الذى جمع من «ضحاياه» نحو 350 مليون دولار، أكثر مما فعل المهاجر الأوروبى، ولم تخرج آليات عمله عن تلك التى استخدمتها شركات «الريان» و«السعد» وغيرها، ولم يستهدف مودعين من الجهلة أو محدودى الدخل أو الوعى، ولم يشع بينهم أنه وضع يده على منجم ذهب أو بئر بترول، ورغم ذلك فقد جمع منهم هذا المبلغ الضخم. والواقع أن البوشى لم يكن محتاجاً لمثل هذه الشائعات لإقناع المودعين بدفع تلك الملايين، إذ توافرت له العوامل اللازمة كلها لتحقيق أغراضه دون أى مجهود أو عنت: دولة نائمة إلا عن أمنها، وفساد عميق أنتج أموالاً مكدسة تحتاج غسيلاً واستثماراً بعيداً عن السبل المعلنة، وطبقة من الطماعين الذين لا تزيدهم أموالهم إلا شراهةً وتطلباً، ومجتمع عشوائى يحتقر المنطق وفكرتى الجهد والعمل، ويُحل محلهما مزيجاً من الاستعباط والشراهة والفهلوة.