رسالة الإسلام رسالة إنسانية جاءت تحمى الإنسان من تسلط أخيه عليه باسم الدين، كما جاءت لتكرم الإنسان بتمكينه من فهم خطاب الله على الوجه المقنع له دون وصاية من أحد، وعندما بعث الله محمداً -صلى الله عليه وسلم- فى مكة، كانت العقبة الكئود أمام إعادة تحرير الإنسان وتكريمه على وجه مراد الله سبحانه وتعالى هى فضول الانتهازيين فى تلك الجاهلية والذين نصبوا من أنفسهم أوصياء على الناس وأوهموهم بأنهم وكلاء الله للإخبار عن الأحكام الواجب اتباعها وكيف تقدم القرابين والتبرعات له، وعندما تعارضت مصالح هؤلاء الانتهازيين مع بعضهم ابتكروا فكرة تعدد الآلهة والرمز لها بالأصنام حتى لا يتزاحموا على قرابين الإله الواحد. جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برسالة التوحيد التى تعيد رشد الإنسان إلى نفسه وتفيقه إلى عقله ليتحرر من ظلام هذا الشرك ويعلم بأن الله عز وجل إله واحد، لم يتخذ شريكاً ولا وكيلاً ولا وصياً ولا ولياً فى الدين مع الناس، وإنما أرسل إليهم رسولاً يبلغهم عن الله ولا يحملهم إليه. يذكرهم بالله ولا يسوقهم إليه؛ لأن الإله الحق هو من يعدل بين خلقه، ومقتضى هذا العدل أن يكون البشر جميعاً عبيداً لله حتى الأنبياء والرسل منهم، فلا وجه أن يكون أحدهم وصياً دينياً على الآخرين، وهذا هو طريق تحرير الإنسان من استعباد بعضه بعضاً الذى تحقق قبل الهجرة، وظهر هذا التحرير بعد عشر سنين لمقاومة كهنة الأصنام الذين كانوا يستخفون برسالة التوحيد فيما حكاه القرآن من قوله سبحانه: «أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشىء عجاب» (ص: 5). ثم جاءت الهجرة لتحقيق المقصد الثانى للإسلام وهو تكريم الإنسان باحترام فهمه وعقله للتشريع الذى يرتضيه بقلبه الإيمانى دون زعزعة ثقته فى نفسه، فأنزل الله عز وجل أحكامه التشريعية فى المدينةالمنورة فى صورة خطاب لفظى عربى محفوظ فى الكتاب والسنة بما يحتمل أوجهاً متعددة وربما تكون تلك الأوجه متناقضة مثل قول النبى صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضاً ميتةً فهى له» أخرجه الترمذى وأبوداود بإسناد صحيح عن سعيد بن زيد، فهذا نص واحد فهم منه الحنفية ضرورة استئذان ولى الأمر حتى لا يتغالب الناس، بينما فهم جمهور الفقهاء أن هذا النص إذن شرعى لوضع اليد على الأرض الخراب من أجل تعميرها ولا حاجة لاستئذان ولى الأمر فى ذلك. ويظهر التكريم الإنسانى فى هذا المثال بأن الإسلام ترك الفقهاء يختلفون فى فهم النص ومنع تغالبهم، فلا يجوز لجمهور الفقهاء أن يبطل قول مخالفهم؛ لأن الحق المطلق مستور إلى يوم لقاء الله للمخطئ منهم أجر وللمصيب أجران، وهذا تكريم لكل فقيه جزاء اجتهاده، أما عوام الناس فلهم الحق فى اختيار أحد الأقوال الفقهية فى المسألة بكل حرية وبحسب نظرتهم ولو كانت متواضعة بحثاً عن المصلحة دون الالتزام بقول الجمهور، ومن يزعم بأن قول الجمهور هو الأصوب دائماً هو أحد أعداء التكريم الإنسانى لأنه يستقوى باسم الجمهور لحشد الناس على ما يريد هو وليس لتمكين الناس من استفتاء قلوبهم كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم وابصة بن معبد وقال له: «استفتِ قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك» أخرجه أحمد بإسناد حسن، وهكذا كانت الهجرة إشراقة لتأصيل التكريم الإنسانى لكون أكثر النصوص التشريعية قد نزلت بعد الهجرة وأن الإنسان هو الذى يفسرها عن طريق الفقهاء، كما يختار الإنسان الوجه الذى يمتثل به ويعبد الله به من الأوجه التى استنبطها الفقهاء عن طريق استفتاء القلوب ولو من العامة.