أول فيديو لنعش الرئيس الإيراني ومرافقيه قبل تشييع جثمانهم    صعود مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    فلسطين.. طائرات الاحتلال تنفذ غارات على مخيم البريج وسط قطاع غزة    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    طلاب الشهادة الإعدادية بالإسماعيلية يؤدون امتحان مادتي العلوم والتربية الفنية    الاحتلال الإسرائيلي يشن غارات كثيفة شرقي مدينة رفح الفلسطينية جنوبي قطاع غزة    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    فرصة للشراء.. تراجع كبير في أسعار الأضاحي اليوم الثلاثاء 21-5-2024    مندوب مصر بالأمم المتحدة: العملية العسكرية في رفح الفلسطينية مرفوضة    تفاصيل طقس الأيام المقبلة.. ظاهرة جوية تسيطر على أغلب أنحاء البلاد.. عاجل    أحمد حلمي يتغزل في منى زكي بأغنية «اظهر وبان ياقمر»    وزير الصحة: 700 مستشفى قطاع خاص تشارك في منظومة التأمين الصحي الحالي    مفاجأة.. شركات النقل الذكي «أوبر وكريم وديدي وإن درايفر» تعمل بدون ترخيص    الصحة: منظومة التأمين الصحي الحالية متعاقدة مع 700 مستشفى قطاع خاص    «بيتهان وهو بيبطل».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على انتقادات الجماهير ل شيكابالا    وزير الصحة: العزوف عن مهنة الطب عالميا.. وهجرة الأطباء ليست في مصر فقط    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    اعرف موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 محافظة المنيا    سيناتور روسي: في غضون دقائق أوكرانيا ستكون بدون رئيس    أحمد حلمي يغازل منى زكي برومانسية طريفة.. ماذا فعل؟    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    محمود محيي الدين: الأوضاع غاية في التعاسة وزيادة تنافسية البلاد النامية هي الحل    هل يرحل زيزو عن الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية؟ حسين لبيب يجيب    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    مصطفى أبوزيد: احتياطات مصر النقدية وصلت إلى أكثر 45 مليار دولار فى 2018    7 مسلسلات وفيلم حصيلة أعمال سمير غانم مع ابنتيه دنيا وايمي    سائق توك توك ينهي حياة صاحب شركة بسبب حادث تصادم في الهرم    خط ملاحى جديد بين ميناء الإسكندرية وإيطاليا.. تفاصيل    التصريح بدفن جثمان طفل صدمته سيارة نقل بكرداسة    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    وزير الصحة: 5600 مولود يوميًا ونحو 4 مواليد كل دقيقة في مصر    "رياضة النواب" تطالب بحل إشكالية عدم إشهار22 نادي شعبي بالإسكندرية    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    وزير الرياضة يهنئ منتخب مصر بتأهله إلي دور الثمانية بالبطولة الأفريقية للساق الواحدة    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    كيف أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي؟.. مصطفى أبوزيد يجيب    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    على باب الوزير    «حماني من إصابة قوية».. دونجا يوجه رسالة شكر ل لاعب نهضة بركان    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    سعر الدولار والريال السعودي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«محدش كبير على التختة والسبورة»
«الوطن» فى فصول «محو الأمية»: التعليم يبدأ «بعد الستين».. أحياناً
نشر في الوطن يوم 27 - 06 - 2015

أوقفوا عقارب ساعاتهم ليقف قطار العمر عند سن السابعة، وقت بداية تعلم الأشياء، وتحسّس المواقف، والاطلاع على لغة البشر، بعيداً عن كتب سُطرت فيها معلومات غير ملمين بتفاصيلها، فلا يقدرون على نطق أحرفها أو تقدير معناها، بالكاد يتعرّفون على الحياة من خلال خبرات ارتسمت على تجاعيد وجوههم وتشققات كفوفهم المرتجفة حين تمسك بالقلم والورقة، محاولين رسم ملامح مستقبل سنوات قليلة متبقية فى حياتهم، بالحصول على شهادات تفيد باجتيازهم عهود الظلام إلى رحابة النور. فى صراع مع الزمن، يبدو أنهم، رغم تجاوز أعمارهم الستين بسنوات، لا يلتفتون إلى ما فاتهم، يحاولون عبور جسور العلم بعد أن ارتمت عليهم الحياة بجهلها، ولكل منهم علته، فهذه امرأة فاتها قطار العمر والتعليم، وكانت بالأمس القريب أمّاً ثم جدّة، فبحثت عن عائل من نوع آخر، وكان الكتاب الذى استندت إليه من غدر الدهر بعد انعزال الأبناء عنها، وانطوت على نفسها منغمسة فى عبادات كانت محرومة منها فى ظل أميتها السابقة، وهذا رجل كهل خاض تجارب قاسية مع الجهل، كان رب أسرة يتخبّط فى مشقات الحياة، يتوارى وراء عضلات يستخدمها لكسب الرزق وإنجاب أبناء يكملون المصير نفسه ويتخذون الجهل ميراثاً.
لم تسنح لهم الفرص كغيرهم، شاءوا أم أبوا، نشأ معظمهم فى أعماق الريف وقرى الصعيد الفقيرة والمناطق الشعبية التى تؤمن بالمثل الشائع «بعد ما شاب ودوه الكتاب»، قليلون هم من ينفرون من هذه الأفكار العتيقة التى أوقعتهم فى شرور جهلهم سنوات عديدة، فاتجهوا بعزيمة صلدة إلى فصول محو الأمية المنتشرة فى ربوع الجمهورية ريثما تشرق شمس جديدة.
شهادة ميلادها تذكّرها جيداً أنها تخطت الستين بردح من الزمن، شاخصة أنظارها أمام مرآة مشققة مثل وجهها، ورأسها الذى اشتعل شيباً، ملىء بالتساؤلات، كان أبرزها «هاتعلم بعد فوات الأوان ليه؟»، دقائق قليلة، تعاود الجلوس على مكتب صدئ، ممسكة بورقة وقلم، تمعن فى كتاب، تفك رموزه على قدر فهمها، تلقيه جانباً بعد أن يئست من قراءته إلا قليلاً، ثم تشير إلى حفيدها الذى يستقر إلى جوارها: «أقراه إزاى ده يا وليد؟»، فلا يتردد الصبى ذو الخمسة عشر عاماً عن مساعدة جدته التى التحقت بفصول محو الأمية مؤخراً، القرار الذى تحدت به كل نظرات اللوم والعتاب من أشقائها ال6 من الأميين، وأبنائها أيضاً.
«هو انتى هتتعلمى ليه؟ هتشتغلى بعد العمر ده كله؟»، كان أحد التعليقات الذى ما زال وقعه يدوى بآذان «ثريا حسن إبراهيم» كلما توجهت إلى الفصل القريب من منزلها بمنطقة المرج: «انتى مش عارفة الناس تقول علينا إيه»، تبرير الأبناء الذين يحرصون على مظهرهم الاجتماعى، «اتجهى لربنا وسيبك من الكلام الفارغ ده»، تعليقات كثيرة شجّعت السيدة الستينية على مواصلة الطريق مهما تعثرت، «أهلى زمان ماعلمونيش، ودلوقتى عيالى عايزينى أكمل حياتى غرقانة فى الوحلة».
الوحل يعنى للسيدة -أسيرة الظروف القاسية- الجهل، فرغم حرصها على تعليم الأبناء، وانشغالها بهم عن الكون بأسره، لم تجد وقتاً لتحقيق حلم عمرها بأن تطلع على كتاب فتفك طلاسمه أو توقع أمام اسمها، وحين حانت الفرصة واجهت ظروفاً أخرى اجتمعت على حلم الخلاص من أميتها: «اتجوزت وأنا عندى 16 سنة، اتلهيت فى حياتى، بس قررت أعلم عيالى، لغاية ما طلعت واحدة مدرسة والتانية محامية، والتالتة معاها دبلوم تجارة، والرابع ليسانس آداب».
«نفسى أمشى فى الشارع أعرف أقرا اليُفط وماتوهش فى العناوين تانى»، أمل عزيز لم يغب عن «ثريا» لتمحو ذكريات مؤلمة علقت فى ذهنها: «بامشى فى الشارع زى الأعمى اللى محتاج حد يسنده، صحيح العلم نور»، سنوات مرّت على هذه الحالة لا تبرح منزلها إلا بمرافق حتى لا تضل طريقها، وتكمل: «التعليم كمان حرية».
أيام مريرة عاشتها «سماح عبدالهادى» أو «أم إبراهيم» كما تود أن يلقبها البعض، السيدة الخمسينية التى أفلتت من ضياع ما تبقى من عمرها خلف أسوار السجن بأعجوبة، بعد اضطرارها إلى الختم على إيصال أمانة بمبلغ 20 ألف جنيه مقابل سداد قيمة ثلاجة وبوتاجاز دون الاطلاع على فحواه، استغل معها صاحب محل الأجهزة الكهربائية، حاجة السيدة البائسة وقلة حيلتها، علاوة على جهلها: «كنت هاتحبس بسبب جهلى، لولا أولاد الحلال سددوا لى الفاتورة»، لم تشعر بقيمة التعليم إلا بعد أن اجتازت المرحلة الأولى من فصول محو الأمية: «أخدت شهادة، ونفسى أحصل على الابتدائية».
أبناء الحاجة «سماح» دعموها لاتخاذ هذه الخطوة ووصفوها ب«المتأخرة»، فهم وحدهم من ذاقوا وبال جهلها: «عمرى ما حسستهم بالجهل من ناحيتى»، هكذا تدافع عن نفسها، لكنها ترى العتاب واللوم فى عيونهم: «عشت فى بيت يسكنه 18 عيل، إحنا 9 أشقاء، غير أولاد عمى»، ظروف البيئة التى تعايشت معها سابقاً أجبرتها على الزواج فى سن ال16 عاماً، والانشغال فى هموم الحياة المتلاحقة.
تغط فى سباتها العميق حتى أفاقت على صوت ابنها «خالد» يحثها على الاستيقاظ للإدلاء بصوتها قبل انتهاء فرصتها فى يوم الاقتراع بالانتخابات الرئاسية السابقة، هرولت «كريمة مصطفى» بسعادة الأطفال، رغم تجاوزها الستين بقليل، قصدت لجنتها الانتخابية، وبمجرد أن توقفت أمام دورها، جاءها صوت من الخلف: «هتمضى ولّا تبصمى يا حاجة؟!»، فأجابت بإيماءة من رأسها: «أنا بابصم يا باشا»، وأمام الكشف الانتخابى، أشارت أمام الرمز الانتخابى وعيونها لم تُرفع قّط من الأرض، وقلبها يحدثها بضرورة التوقيع فى الكشف الانتخابى فى المرات المقبلة.
رغم مرور الموقف، فإن «كريمة» شعرت بغصة لم تمحُها الأيام التالية: «لما أروح أى حتة، واطلع الختم علشان أبصم باكون مكسوفة»، ترنو السيدة الستينية إلى الخلاص من وصمة الجهل التى لازمتها سنوات مضت، وربما كانت ستكمل معها سنواتها المتبقية لولا روح التحدى التى تملكتها: «أحفادى بيطلبوا منى أفهمهم أى جملة، مش باعرف»، الجدة تمكنت من كفاح سنوات مضت أن تحث أولادها الثلاثة على الحصول على شهادة يواجهون بها الأيام: «سيد معاه معهد كهرباء ضغط عالى، ومحمد دبلوم صنايع، وعاطف أخرس بس دخلته مدرسة داخلية فى حلوان، ولما اتعلم علم أولاده».
«كان نفسى أنطق وأكتب وكمان أقرا قرآن»، قالتها «كريمة» وقلبها يعتصر حسرة، مؤكدة أن فرصتها أفضل من أشقائها الذين يعيشون فى محافظة الفيوم ولم ينالوا حظاً من التعليم: «اخواتى اللى لسه عايشين نصهم أميين، فى بلدنا عيب الست تتعلم، خاصة لو كبيرة فى العمر أو عندها أحفاد».
سنوات ثقيلة مرت على «فاتن عبده» تتألم من ضنك العيشة، فالزوج الذى كان يعمل فى شركة رحلات، أصابه مرض أقعده فى المنزل، قوت السيدة، التى أتمت ال60 منذ أيام، من صدقات الجيران والأقارب، نظراً لحرمانها من فرصة استكمال التعليم: «خرجت من سنة أولى ابتدائى علشان ماحبتش المدرسة، وعيلتى فرحت، همّ واتشال من عليهم»، الأيام قست عليها وأحكمت قبضتها، فتمنت الموت ألف مرة، عاشت فى منزل يسكنه عائل مريض بالكبد وحفنة أبناء أشقياء تمنت ألا يلقوا مصيراً مماثلاً لها: «عيالى طلعوا مش متعلمين بسبب قلة الفلوس».
جهل الأم وقف حائلاً أمام احتياجها إلى العمل فى ظل رغبتها فى الإنفاق على الأبناء «كل ما أطلب شغلانة فى وقتها من 35 سنة، يقولوا لازم الشهادة، أنا باعرف أفك الخط»، شعور بالضيق والمهانة انتهى بقرار الرضا بما تيسر، كبر الأبناء واستقل كل منهم بحياتهم وتوفى الزوج، وبقيت رهينة الجهل: «خلاص مش عايزة أشتغل، بس على الأقل معايا شهادة، علشان محدش يضحك على».
«آمال صالح قطب» تطوعت بإحدى الجمعيات الخيرية بفصول الهيئة القومية لتعليم الكبار، خاضت معارك فى منزلها للتفرّغ لهذه المهمة التى اقتطعت لها 8 ساعات يومياً: «أمى كانت غير متعلمة وعانيت من المأساة دى، فقررت أعلمها فى فصول محو الأمية، وأنزل معاها أعلم الناس اللى فى سنها»، الفتاة التى حصلت بالكاد على دبلوم التجارة غيّرت مسار حياتها: «نحمد ربنا، بقيت مدرسة فى فصول محو الأمية».
الفتاة جالسة على مقربة من منضدة خشبية، تشرد محاولة استرجاع صورة والدتها الكادحة التى كانت تعمل نهاراً وتعود فى المساء لتتولى مسئولية حثهم على الاستذكار، «أمى كانت جاهلة صحيح بس أنا أهوه برد لها الجميل، بتتعلم على إيدى زى ما علمتنى فى صغرى»، يكتنف خلجاتها الفخر كلما قطعت والدتها شوطاً فى التعليم على يدها، «مش هخليها تسيب التعليم غير لما تاخد الإعدادية، دلوقت بتقرا وتكتب بشكل جيد».
للعام الثانى على التوالى تخرج من فصلها عشرات العجائز سناً، والشباب قلباً، ممن تسلموا شهاداتهم فى فصول محو أمية بالجمعية التى تنتمى إليها، «دى تانى سنة لى، اتخرج حوالى 34 شخص سنهم من 60 إلى 87 سنة، كلهم يواظبوا فى الحضور والامتحان، ولكل واحد هدف فى التعليم فى السن دى».
«كل دورة على غرار الفصل الدراسى لها مناهج مختلفة تخلو من الحساب واللغات» بحسب آمال، مضيفة «الفصل الواحد فيه عدد من 8 إلى 12 طالباً تخطوا السن أو من المتسربين من التعليم، 4 دورات كل سنة، فى نهاية كل واحدة امتحان شفهى وتحريرى تابع لهيئة تعليم الكبار، والمناهج فى منتهى السهولة»، وأبدت حزنها من عدم اهتمام الوزارة بتطوير المناهج، «الكتب أغلبها تافهة فى المواد التعليمية، محتاجة تعديل وتجويد».
الالتحاق بفصل محو الأمية وتعليم الكبار كان حصنها ضد عوز الزمان، لم تخل من معاناة أخرى مع أبنائها لرفضهم التعليم، «هما اللى اتعلموا أخدوا إيه؟»، وجهة نظر فلذات أكبادها التى أصابتها بالصدمة، فقررت أن تلقنهم درساً فى أهمية التعليم، «قلت أذاكر معاهم فى البيت علشان يتشجعوا هما كمان وياخدوا لهم شهادة»، «زينب هاشم» سيدة خمسينية، التحقت بقطار التعليم مؤخراً، بعد يئسها من أبنائها غير الراغبين فى التعليم، «نفسى أحمد يطلع دكتور، ومحمد يطلع مهندس»، دعوات الأم المكلومة «ابنى الكبير فى تانية إعدادى والصغيرة فى أولى إعدادى، بياخدوا السنة فى سنتين، ومش ملتفتين لشهاداتهم».
يحدث نفسه عن عمر مضى فى جهل وظلام، لم يحرص على إلحاق أبنائه بالمدارس، «البلد كلها فلاحين»، لم يشعر الرجل الستينى بالندم إلا حين عاش حياة مشابهة لكل أهالى قريته فى سمالوط بمحافظة المنيا، تزوج فأنجب، زرع وحصد، لم يخطر بباله أن العلم قوة، ودرع وسيف للزمان، تتردد هذه العبارات فى التلفاز فيأخذها بمأخذ المزاح.
«بعرف أبصم، وأعد من 1 ل10»، بصوت صعيدى جهورى، يتباهى الرجل الستينى بما تيسر له من التعليم، لكن محاولة الاحتيال عليه تبقى الغصة التى عكرت عليه صفو حياته، «رحت قسم الشرطة وبلغت عن النصاب لكن بعد فوات الأوان»، ومثلما حدث مع الفنان الراحل إسماعيل ياسين فى فيلم «العتبة الخضرا» أعاد «محمد الطيب» التجربة إلى قريته «كان هيبيع لى حتة الأرض اللى حيلتى، بتمن قيراطين».
وبما أن القانون لا يحمى المغفلين فإنه لا يعترف أيضاً بالجهلاء، «علشان ببصم أقضى بقية حياتى فى السجن، أخدت 6 شهور وطلعت بكفالة، وضاعت الأرض»، السبب الذى دفعه للتوجه إلى فصول محو الأمية التابعة لجمعية «صناع الحياة»، ولم يكتف بذلك بل حث أبناءه على اتخاذ نفس المسلك مع الأحفاد، «عندى 16 حفيد، لحقوا المدرسة فى الآخر، علشان ما يتنصبش عليهم».
بدا الجميع داخل أحد فصول محو الأمية مجتمعين على هدف واحد، «اقرأ» أول كلمات القرآن الكريم، الذى يحفظه عم «على حسن» عن ظهر قلب، لكنه وحتى هذه اللحظة لا يعلم معنى معظم الآيات التى وردت فيه، يرددها ويتلوها بصوته العذب الملىء بالشجن، تدمع عيناه، يعاود محاولة فهمها، «ماليش ذنب أهلى خرجونى من المدرسة قبل ما آخد الابتدائية، وعلى أيامنا التعليم فى الفلاحين كان على ما تفرج».
الرجل السبعينى يدرك سنوات عمره بصعوبة بالغة، «هو أنا مواليد الأربعينات، بس مش عارف إمتى بالضبط، الناس زمان كانوا جاهلين ما بيحبوش يسجلوا العيال بشهادات ميلادهم»، الجهل يورث فى القرى، وفيما يذكر كان سبباً فى إصابة شقيقين له بأمراض مختلفة، «اتولدت فى مركز أبوكبير الشرقية، وعشت فيه طول عمرى، لكن معرفش إيه اللى خلانى أفكر فى تعليم عيالى اللى اتحرمت منه زمان»، يسترجع عم «على» وقت أن كان فى الثامنة من عمره، وإلحاحه على والده لحفظ القرآن والوقوف فى مسجد قريتهم للخطبة فى الناس، «أول ما اتفتحت فصول محو الأمية فى البلد رحت على طول قدمت فيها».
ووسط نماذج من عتمة الجهل وتبعاته على المجتمع، من فقر وتراجع فى معدلات التنمية، تتبنى الدولة والأفراد والمؤسسات الاجتماعية مبادرات وحملات قومية لمحو أمية الكبار، محاولات حثيثة تمخض عنها جهل وراء جهل، إذ بلغت نسبة الأمية، بحسب إحصائيات حديثة للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، 17 مليون نسمة بإجمالى 24% من سكان مصر، معظمهم ممن تجاوزوا سن الستين.
«ياسمين حسن» متطوعة بإحدى الجمعيات المجتمعية المهتمة بمحو أمية الكبار، تعتبر أهم أسباب الفقر وقلة الحيلة فى المجتمع هو الجهل فى المقام الأول «لو كل أم حصلت على قسط كافى من التعليم، من الطبيعى إنها هتكون حريصة على تعليم أولادها»، الفتاة التى لم تتجاوز ال17 بعد، تمسك بالطبشور وتخط الحروف الأبجدية على السبورة، وتحيط بها طالبات العلم فى الستين من أبناء مناطق شعبية وقادمات من قرى بعيدة، «موجود فى الجمعية 5 فصول محو الأمية، من 10 إلى 15 شخص، نصفهم قدموا بشهاداتهم للحصول على الإعدادية، منهم والدتى، وعدد من أقاربى».
«الإمكانيات اللى توفرها وزارة التربية والتعليم محدودة جداً» قالها «ثابت بشير» رئيس إحدى الجمعيات الاجتماعية، مطالباً بتهيئة ظروف الفصول والمدرسين الذين يتقاضون أجوراً رمزية علاوة على الكتب، بحسبه «باقى المستلزمات فى الفصول بنجمعها بصورة تطوعية من أهالى المنطقة، بنوفر الأقلام والكشاكيل ونشرات التوضيح للكتب، وكل سنة الهيئة بتفتح مدرسة جديدة فى إحدى المناطق الشعبية أو النائية، لكن بالطبع غير كافى لاستيعاب العدد الإجمالى، خاصة فى ظل قلة عدد الميسرين، أى المدرسين القائمين على إنجاح عملية محو الأمية».
ووفقاً لبروتوكول تعاون بين الجمعية وهيئة تعليم الكبار، تم افتتاح 6 فصول للمتسربين من التعليم، تبلغ نسبة المتقدمين فيها ممن تجاوزوا الستين حوالى 10%، لأسباب يعللها «نظرة المجتمع للرجال أو النساء من كبار السن الراغبين فى الالتحاق بالفصول مخجلة فى معظم الأحيان، والحالات تحاول التعلم وفقاً لظروف طرأت على حياتها فجأة، أو الفراغ أو عقدة نفسية من التعليم فى الصغر، يتداركونها فى كبرهم».
الدكتور سالم الرفاعى، خبير مناهج والمواد التعليمية بمركز تطوير المناهج بوزارة التربية والتعليم، انتقد عدم توحيد الجهود فى الجمعيات المجتمعية، علاوة على عدم اهتمامها جدياً بالقضية بصورة جدية، لافتاً إلى أن المناهج التى يدرسها طالب يمحو أميته فى سن ال17 تختلف عن ال40 وما فوق 60 سنة، فضلاً عن عدم إعداد المدرس الذى يعلم وفود الأميين بصورة جيدة، مشيراً إلى ضرورة إخضاعه لدورات تدريبية مكثفة ودروس علم نفس التربوى.
ونصح «سالم» من أجل تطبيق وإنجاح مبادرة الرئيس عبدالفتاح السيسى التى أطلقها فى عيد العلم بعنوان «مجتمع يفكر.. ويتعلم.. ويبتكر»، بضرورة وضع المناهج وفقاً للبيئات المختلفة والفئات العمرية لكل طالب، مشيراً إلى أن الدولة تستطيع أن تخطط لجمع المبادرات تحت لوائها وتضع امتحانات جيدة ب3 مراكز بحثية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.