محافظة البحيرة تستقبل وفداً من جامعة الأزهر لتعزيز التعاون    الشعب سيد قراره.. رئيس الوطنية للانتخابات يدعو المصريين للمشاركة فى انتخابات الشيوخ    أشرف منصور: المتحف الكبير والعاصمة الإدارية والهوية البصرية رسائل للعالم    الأنبا إيلاريون يزور كنيسة الأنبا بولا ببشارة ويرسم 15 شماسًا في رتبة إبصالتس.. صور    13 أغسطس.. جامعة المنوفية تشارك في معرض مؤسسة أخبار اليوم للتعليم العالي    تراجع سعر الريال السعودي بختام تعاملات اليوم    رئيس الحكومة يتابع مع وزير الاستثمار جهود تطوير منظومة الإفراج الجمركي    وزير قطاع الأعمال ومحافظ الإسكندرية في جولة تفقدية لتطوير المعمورة «السياحية»    محافظة المنيا: تشغيل المجمعات الحكومية بالقرى لصرف المعاشات من خلال مكاتب البريد    المساعدات تتدفق.. الفوج الخامس يعبر كرم أبو سالم    وزير الخارجية الألماني: حل الدولتين السبيل الوحيد للعيش في سلام وكرامة    هيئة بث الاحتلال الإسرائيلي: سحب لواءي الاحتياط 646 و179 من قطاع غزة    الأمم المتحدة: سكان غزة على شفا المجاعة ويضطرون لالتقاط العدس المتناثر من الأرض    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    عمرو ناصر: رفضت عروضا أكبر من الزمالك.. وأحلم بالانضمام للمنتخب    إنفوجراف| 8 صفقات ل الزمالك في الصيف    سمير عبد المعز يتوج بالذهب ومهند ورحمة يتألقان في بطولة إفريقيا للبوتشيا    «رجعلي جثة».. أم يوسف تروي تفاصيل مقتل ابنها غدرًا بالمطرية| فيديو    "السكة الحديد" توضح حقيقة خروج قطار عن القضبان بعد اصطدامه برصيف محطة السنطة    ضبط المتهم بقتل شاب وإلقاء جثته وسط الزراعات في قنا    امتحانات الدور الثاني 2025.. جولة تفقدية لإدارة الساحل التعليمية بعدة مدارس    الداخلية تكشف ملابسات قيادة طفل لميكروباص بالشرقية    أشرف زكي يشارك في مراسم جنازة الفنان الكبير لطفي لبيب    عائلة دنيا سمير غانم ونجوم الفن في العرض الخاص لفيلم «روكي الغلابة» | صور    محسن جابر يشارك فى فعاليات مهرجان جرش ال 39    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    «كفتة البطاطس بالدجاج».. لمسة خفيفة على مائدة الصيف    كيف أتخلص من دهون البطن بدون رياضة؟    ڤويا Passion سيارة فارهة جديدة تنضم إلى السوق المصري.. أسعار ومواصفات    حمزة نمرة يتصدر الترند بأغنية "شيل الشيلة" بتوقيع الملحن محمدي    أسعار الأسماك بأسواق مطروح اليوم الخميس 31-7- 2025.. البورى ب 150 جنيه    تعليقا على دعوات التظاهر أمام السفارات المصرية.. رئيس حزب العدل: ليس غريبا على الإخوان التحالف مع الشيطان من أجل مصالحها    17 برنامجًا.. دليل شامل لبرامج وكليات جامعة بني سويف الأهلية -صور    منظمة التحرير الفلسطينية: استمرار سيطرة حماس على غزة يكرس الانقسام    4 تحذيرات جديدة من أدوية مغشوشة.. بينها "أوبلكس" و"بيتادين"    رئيس هيئة الأوقاف يوجّه مديري المناطق بالحفاظ على ممتلكات الهيئة وتعظيم الاستفادة منها    التصريح بدفن جثة طفل لقى مصرعه غرقا بقرية الجبيرات فى سوهاج    حرام أم حلال؟.. ما حكم شراء شقة ب التمويل العقاري؟    تقارير تكشف موقف ريال مدريد من تجديد عقد فينيسيوس جونيور    صفقة تبادلية محتملة بين الزمالك والمصري.. شوبير يكشف التفاصيل    انتخابات الشيوخ.. 100 ألف جنيه غرامة للمخالفين للصمت الانتخابي    ماذا يتضمن مشروع القانون في الكونجرس لتمويل تسليح أوكرانيا بأموال أوروبية؟    حبس بائع خردة تعدى على ابنته بالضرب حتى الموت في الشرقية    الشيخ أحمد خليل: من اتُّهم زورا فليبشر فالله يدافع عنه    النتيجة ليست نهاية المطاف.. 5 نصائح للطلاب من وزارة الأوقاف    خروج قطار عن القضبان بعد الاصطدام برصيف محطة السنطة دون إصابات    وزير الإسكان يتابع موقف مشروعات البنية الأساسية والتطوير بمدن بالصعيد    مسلسل «220 يوم» يتصدر التريند بعد عرض أولى حلقاته    الزمالك يواجه غزل المحلة وديًا اليوم    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر ويؤكد: المهم هو التحصن لا معرفة من قام به    وزير الخارجية يلتقي السيناتور "تيد كروز" عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي    المهرجان القومي للمسرح يكرّم الناقدين أحمد هاشم ويوسف مسلم    تويوتا توسع تعليق أعمالها ليشمل 11 مصنعا بعد التحذيرات بوقوع تسونامي    اليوم.. المصري يلاقي هلال مساكن في ختام مبارياته الودية بمعسكر تونس    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«محدش كبير على التختة والسبورة»
«الوطن» فى فصول «محو الأمية»: التعليم يبدأ «بعد الستين».. أحياناً
نشر في الوطن يوم 27 - 06 - 2015

أوقفوا عقارب ساعاتهم ليقف قطار العمر عند سن السابعة، وقت بداية تعلم الأشياء، وتحسّس المواقف، والاطلاع على لغة البشر، بعيداً عن كتب سُطرت فيها معلومات غير ملمين بتفاصيلها، فلا يقدرون على نطق أحرفها أو تقدير معناها، بالكاد يتعرّفون على الحياة من خلال خبرات ارتسمت على تجاعيد وجوههم وتشققات كفوفهم المرتجفة حين تمسك بالقلم والورقة، محاولين رسم ملامح مستقبل سنوات قليلة متبقية فى حياتهم، بالحصول على شهادات تفيد باجتيازهم عهود الظلام إلى رحابة النور. فى صراع مع الزمن، يبدو أنهم، رغم تجاوز أعمارهم الستين بسنوات، لا يلتفتون إلى ما فاتهم، يحاولون عبور جسور العلم بعد أن ارتمت عليهم الحياة بجهلها، ولكل منهم علته، فهذه امرأة فاتها قطار العمر والتعليم، وكانت بالأمس القريب أمّاً ثم جدّة، فبحثت عن عائل من نوع آخر، وكان الكتاب الذى استندت إليه من غدر الدهر بعد انعزال الأبناء عنها، وانطوت على نفسها منغمسة فى عبادات كانت محرومة منها فى ظل أميتها السابقة، وهذا رجل كهل خاض تجارب قاسية مع الجهل، كان رب أسرة يتخبّط فى مشقات الحياة، يتوارى وراء عضلات يستخدمها لكسب الرزق وإنجاب أبناء يكملون المصير نفسه ويتخذون الجهل ميراثاً.
لم تسنح لهم الفرص كغيرهم، شاءوا أم أبوا، نشأ معظمهم فى أعماق الريف وقرى الصعيد الفقيرة والمناطق الشعبية التى تؤمن بالمثل الشائع «بعد ما شاب ودوه الكتاب»، قليلون هم من ينفرون من هذه الأفكار العتيقة التى أوقعتهم فى شرور جهلهم سنوات عديدة، فاتجهوا بعزيمة صلدة إلى فصول محو الأمية المنتشرة فى ربوع الجمهورية ريثما تشرق شمس جديدة.
شهادة ميلادها تذكّرها جيداً أنها تخطت الستين بردح من الزمن، شاخصة أنظارها أمام مرآة مشققة مثل وجهها، ورأسها الذى اشتعل شيباً، ملىء بالتساؤلات، كان أبرزها «هاتعلم بعد فوات الأوان ليه؟»، دقائق قليلة، تعاود الجلوس على مكتب صدئ، ممسكة بورقة وقلم، تمعن فى كتاب، تفك رموزه على قدر فهمها، تلقيه جانباً بعد أن يئست من قراءته إلا قليلاً، ثم تشير إلى حفيدها الذى يستقر إلى جوارها: «أقراه إزاى ده يا وليد؟»، فلا يتردد الصبى ذو الخمسة عشر عاماً عن مساعدة جدته التى التحقت بفصول محو الأمية مؤخراً، القرار الذى تحدت به كل نظرات اللوم والعتاب من أشقائها ال6 من الأميين، وأبنائها أيضاً.
«هو انتى هتتعلمى ليه؟ هتشتغلى بعد العمر ده كله؟»، كان أحد التعليقات الذى ما زال وقعه يدوى بآذان «ثريا حسن إبراهيم» كلما توجهت إلى الفصل القريب من منزلها بمنطقة المرج: «انتى مش عارفة الناس تقول علينا إيه»، تبرير الأبناء الذين يحرصون على مظهرهم الاجتماعى، «اتجهى لربنا وسيبك من الكلام الفارغ ده»، تعليقات كثيرة شجّعت السيدة الستينية على مواصلة الطريق مهما تعثرت، «أهلى زمان ماعلمونيش، ودلوقتى عيالى عايزينى أكمل حياتى غرقانة فى الوحلة».
الوحل يعنى للسيدة -أسيرة الظروف القاسية- الجهل، فرغم حرصها على تعليم الأبناء، وانشغالها بهم عن الكون بأسره، لم تجد وقتاً لتحقيق حلم عمرها بأن تطلع على كتاب فتفك طلاسمه أو توقع أمام اسمها، وحين حانت الفرصة واجهت ظروفاً أخرى اجتمعت على حلم الخلاص من أميتها: «اتجوزت وأنا عندى 16 سنة، اتلهيت فى حياتى، بس قررت أعلم عيالى، لغاية ما طلعت واحدة مدرسة والتانية محامية، والتالتة معاها دبلوم تجارة، والرابع ليسانس آداب».
«نفسى أمشى فى الشارع أعرف أقرا اليُفط وماتوهش فى العناوين تانى»، أمل عزيز لم يغب عن «ثريا» لتمحو ذكريات مؤلمة علقت فى ذهنها: «بامشى فى الشارع زى الأعمى اللى محتاج حد يسنده، صحيح العلم نور»، سنوات مرّت على هذه الحالة لا تبرح منزلها إلا بمرافق حتى لا تضل طريقها، وتكمل: «التعليم كمان حرية».
أيام مريرة عاشتها «سماح عبدالهادى» أو «أم إبراهيم» كما تود أن يلقبها البعض، السيدة الخمسينية التى أفلتت من ضياع ما تبقى من عمرها خلف أسوار السجن بأعجوبة، بعد اضطرارها إلى الختم على إيصال أمانة بمبلغ 20 ألف جنيه مقابل سداد قيمة ثلاجة وبوتاجاز دون الاطلاع على فحواه، استغل معها صاحب محل الأجهزة الكهربائية، حاجة السيدة البائسة وقلة حيلتها، علاوة على جهلها: «كنت هاتحبس بسبب جهلى، لولا أولاد الحلال سددوا لى الفاتورة»، لم تشعر بقيمة التعليم إلا بعد أن اجتازت المرحلة الأولى من فصول محو الأمية: «أخدت شهادة، ونفسى أحصل على الابتدائية».
أبناء الحاجة «سماح» دعموها لاتخاذ هذه الخطوة ووصفوها ب«المتأخرة»، فهم وحدهم من ذاقوا وبال جهلها: «عمرى ما حسستهم بالجهل من ناحيتى»، هكذا تدافع عن نفسها، لكنها ترى العتاب واللوم فى عيونهم: «عشت فى بيت يسكنه 18 عيل، إحنا 9 أشقاء، غير أولاد عمى»، ظروف البيئة التى تعايشت معها سابقاً أجبرتها على الزواج فى سن ال16 عاماً، والانشغال فى هموم الحياة المتلاحقة.
تغط فى سباتها العميق حتى أفاقت على صوت ابنها «خالد» يحثها على الاستيقاظ للإدلاء بصوتها قبل انتهاء فرصتها فى يوم الاقتراع بالانتخابات الرئاسية السابقة، هرولت «كريمة مصطفى» بسعادة الأطفال، رغم تجاوزها الستين بقليل، قصدت لجنتها الانتخابية، وبمجرد أن توقفت أمام دورها، جاءها صوت من الخلف: «هتمضى ولّا تبصمى يا حاجة؟!»، فأجابت بإيماءة من رأسها: «أنا بابصم يا باشا»، وأمام الكشف الانتخابى، أشارت أمام الرمز الانتخابى وعيونها لم تُرفع قّط من الأرض، وقلبها يحدثها بضرورة التوقيع فى الكشف الانتخابى فى المرات المقبلة.
رغم مرور الموقف، فإن «كريمة» شعرت بغصة لم تمحُها الأيام التالية: «لما أروح أى حتة، واطلع الختم علشان أبصم باكون مكسوفة»، ترنو السيدة الستينية إلى الخلاص من وصمة الجهل التى لازمتها سنوات مضت، وربما كانت ستكمل معها سنواتها المتبقية لولا روح التحدى التى تملكتها: «أحفادى بيطلبوا منى أفهمهم أى جملة، مش باعرف»، الجدة تمكنت من كفاح سنوات مضت أن تحث أولادها الثلاثة على الحصول على شهادة يواجهون بها الأيام: «سيد معاه معهد كهرباء ضغط عالى، ومحمد دبلوم صنايع، وعاطف أخرس بس دخلته مدرسة داخلية فى حلوان، ولما اتعلم علم أولاده».
«كان نفسى أنطق وأكتب وكمان أقرا قرآن»، قالتها «كريمة» وقلبها يعتصر حسرة، مؤكدة أن فرصتها أفضل من أشقائها الذين يعيشون فى محافظة الفيوم ولم ينالوا حظاً من التعليم: «اخواتى اللى لسه عايشين نصهم أميين، فى بلدنا عيب الست تتعلم، خاصة لو كبيرة فى العمر أو عندها أحفاد».
سنوات ثقيلة مرت على «فاتن عبده» تتألم من ضنك العيشة، فالزوج الذى كان يعمل فى شركة رحلات، أصابه مرض أقعده فى المنزل، قوت السيدة، التى أتمت ال60 منذ أيام، من صدقات الجيران والأقارب، نظراً لحرمانها من فرصة استكمال التعليم: «خرجت من سنة أولى ابتدائى علشان ماحبتش المدرسة، وعيلتى فرحت، همّ واتشال من عليهم»، الأيام قست عليها وأحكمت قبضتها، فتمنت الموت ألف مرة، عاشت فى منزل يسكنه عائل مريض بالكبد وحفنة أبناء أشقياء تمنت ألا يلقوا مصيراً مماثلاً لها: «عيالى طلعوا مش متعلمين بسبب قلة الفلوس».
جهل الأم وقف حائلاً أمام احتياجها إلى العمل فى ظل رغبتها فى الإنفاق على الأبناء «كل ما أطلب شغلانة فى وقتها من 35 سنة، يقولوا لازم الشهادة، أنا باعرف أفك الخط»، شعور بالضيق والمهانة انتهى بقرار الرضا بما تيسر، كبر الأبناء واستقل كل منهم بحياتهم وتوفى الزوج، وبقيت رهينة الجهل: «خلاص مش عايزة أشتغل، بس على الأقل معايا شهادة، علشان محدش يضحك على».
«آمال صالح قطب» تطوعت بإحدى الجمعيات الخيرية بفصول الهيئة القومية لتعليم الكبار، خاضت معارك فى منزلها للتفرّغ لهذه المهمة التى اقتطعت لها 8 ساعات يومياً: «أمى كانت غير متعلمة وعانيت من المأساة دى، فقررت أعلمها فى فصول محو الأمية، وأنزل معاها أعلم الناس اللى فى سنها»، الفتاة التى حصلت بالكاد على دبلوم التجارة غيّرت مسار حياتها: «نحمد ربنا، بقيت مدرسة فى فصول محو الأمية».
الفتاة جالسة على مقربة من منضدة خشبية، تشرد محاولة استرجاع صورة والدتها الكادحة التى كانت تعمل نهاراً وتعود فى المساء لتتولى مسئولية حثهم على الاستذكار، «أمى كانت جاهلة صحيح بس أنا أهوه برد لها الجميل، بتتعلم على إيدى زى ما علمتنى فى صغرى»، يكتنف خلجاتها الفخر كلما قطعت والدتها شوطاً فى التعليم على يدها، «مش هخليها تسيب التعليم غير لما تاخد الإعدادية، دلوقت بتقرا وتكتب بشكل جيد».
للعام الثانى على التوالى تخرج من فصلها عشرات العجائز سناً، والشباب قلباً، ممن تسلموا شهاداتهم فى فصول محو أمية بالجمعية التى تنتمى إليها، «دى تانى سنة لى، اتخرج حوالى 34 شخص سنهم من 60 إلى 87 سنة، كلهم يواظبوا فى الحضور والامتحان، ولكل واحد هدف فى التعليم فى السن دى».
«كل دورة على غرار الفصل الدراسى لها مناهج مختلفة تخلو من الحساب واللغات» بحسب آمال، مضيفة «الفصل الواحد فيه عدد من 8 إلى 12 طالباً تخطوا السن أو من المتسربين من التعليم، 4 دورات كل سنة، فى نهاية كل واحدة امتحان شفهى وتحريرى تابع لهيئة تعليم الكبار، والمناهج فى منتهى السهولة»، وأبدت حزنها من عدم اهتمام الوزارة بتطوير المناهج، «الكتب أغلبها تافهة فى المواد التعليمية، محتاجة تعديل وتجويد».
الالتحاق بفصل محو الأمية وتعليم الكبار كان حصنها ضد عوز الزمان، لم تخل من معاناة أخرى مع أبنائها لرفضهم التعليم، «هما اللى اتعلموا أخدوا إيه؟»، وجهة نظر فلذات أكبادها التى أصابتها بالصدمة، فقررت أن تلقنهم درساً فى أهمية التعليم، «قلت أذاكر معاهم فى البيت علشان يتشجعوا هما كمان وياخدوا لهم شهادة»، «زينب هاشم» سيدة خمسينية، التحقت بقطار التعليم مؤخراً، بعد يئسها من أبنائها غير الراغبين فى التعليم، «نفسى أحمد يطلع دكتور، ومحمد يطلع مهندس»، دعوات الأم المكلومة «ابنى الكبير فى تانية إعدادى والصغيرة فى أولى إعدادى، بياخدوا السنة فى سنتين، ومش ملتفتين لشهاداتهم».
يحدث نفسه عن عمر مضى فى جهل وظلام، لم يحرص على إلحاق أبنائه بالمدارس، «البلد كلها فلاحين»، لم يشعر الرجل الستينى بالندم إلا حين عاش حياة مشابهة لكل أهالى قريته فى سمالوط بمحافظة المنيا، تزوج فأنجب، زرع وحصد، لم يخطر بباله أن العلم قوة، ودرع وسيف للزمان، تتردد هذه العبارات فى التلفاز فيأخذها بمأخذ المزاح.
«بعرف أبصم، وأعد من 1 ل10»، بصوت صعيدى جهورى، يتباهى الرجل الستينى بما تيسر له من التعليم، لكن محاولة الاحتيال عليه تبقى الغصة التى عكرت عليه صفو حياته، «رحت قسم الشرطة وبلغت عن النصاب لكن بعد فوات الأوان»، ومثلما حدث مع الفنان الراحل إسماعيل ياسين فى فيلم «العتبة الخضرا» أعاد «محمد الطيب» التجربة إلى قريته «كان هيبيع لى حتة الأرض اللى حيلتى، بتمن قيراطين».
وبما أن القانون لا يحمى المغفلين فإنه لا يعترف أيضاً بالجهلاء، «علشان ببصم أقضى بقية حياتى فى السجن، أخدت 6 شهور وطلعت بكفالة، وضاعت الأرض»، السبب الذى دفعه للتوجه إلى فصول محو الأمية التابعة لجمعية «صناع الحياة»، ولم يكتف بذلك بل حث أبناءه على اتخاذ نفس المسلك مع الأحفاد، «عندى 16 حفيد، لحقوا المدرسة فى الآخر، علشان ما يتنصبش عليهم».
بدا الجميع داخل أحد فصول محو الأمية مجتمعين على هدف واحد، «اقرأ» أول كلمات القرآن الكريم، الذى يحفظه عم «على حسن» عن ظهر قلب، لكنه وحتى هذه اللحظة لا يعلم معنى معظم الآيات التى وردت فيه، يرددها ويتلوها بصوته العذب الملىء بالشجن، تدمع عيناه، يعاود محاولة فهمها، «ماليش ذنب أهلى خرجونى من المدرسة قبل ما آخد الابتدائية، وعلى أيامنا التعليم فى الفلاحين كان على ما تفرج».
الرجل السبعينى يدرك سنوات عمره بصعوبة بالغة، «هو أنا مواليد الأربعينات، بس مش عارف إمتى بالضبط، الناس زمان كانوا جاهلين ما بيحبوش يسجلوا العيال بشهادات ميلادهم»، الجهل يورث فى القرى، وفيما يذكر كان سبباً فى إصابة شقيقين له بأمراض مختلفة، «اتولدت فى مركز أبوكبير الشرقية، وعشت فيه طول عمرى، لكن معرفش إيه اللى خلانى أفكر فى تعليم عيالى اللى اتحرمت منه زمان»، يسترجع عم «على» وقت أن كان فى الثامنة من عمره، وإلحاحه على والده لحفظ القرآن والوقوف فى مسجد قريتهم للخطبة فى الناس، «أول ما اتفتحت فصول محو الأمية فى البلد رحت على طول قدمت فيها».
ووسط نماذج من عتمة الجهل وتبعاته على المجتمع، من فقر وتراجع فى معدلات التنمية، تتبنى الدولة والأفراد والمؤسسات الاجتماعية مبادرات وحملات قومية لمحو أمية الكبار، محاولات حثيثة تمخض عنها جهل وراء جهل، إذ بلغت نسبة الأمية، بحسب إحصائيات حديثة للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، 17 مليون نسمة بإجمالى 24% من سكان مصر، معظمهم ممن تجاوزوا سن الستين.
«ياسمين حسن» متطوعة بإحدى الجمعيات المجتمعية المهتمة بمحو أمية الكبار، تعتبر أهم أسباب الفقر وقلة الحيلة فى المجتمع هو الجهل فى المقام الأول «لو كل أم حصلت على قسط كافى من التعليم، من الطبيعى إنها هتكون حريصة على تعليم أولادها»، الفتاة التى لم تتجاوز ال17 بعد، تمسك بالطبشور وتخط الحروف الأبجدية على السبورة، وتحيط بها طالبات العلم فى الستين من أبناء مناطق شعبية وقادمات من قرى بعيدة، «موجود فى الجمعية 5 فصول محو الأمية، من 10 إلى 15 شخص، نصفهم قدموا بشهاداتهم للحصول على الإعدادية، منهم والدتى، وعدد من أقاربى».
«الإمكانيات اللى توفرها وزارة التربية والتعليم محدودة جداً» قالها «ثابت بشير» رئيس إحدى الجمعيات الاجتماعية، مطالباً بتهيئة ظروف الفصول والمدرسين الذين يتقاضون أجوراً رمزية علاوة على الكتب، بحسبه «باقى المستلزمات فى الفصول بنجمعها بصورة تطوعية من أهالى المنطقة، بنوفر الأقلام والكشاكيل ونشرات التوضيح للكتب، وكل سنة الهيئة بتفتح مدرسة جديدة فى إحدى المناطق الشعبية أو النائية، لكن بالطبع غير كافى لاستيعاب العدد الإجمالى، خاصة فى ظل قلة عدد الميسرين، أى المدرسين القائمين على إنجاح عملية محو الأمية».
ووفقاً لبروتوكول تعاون بين الجمعية وهيئة تعليم الكبار، تم افتتاح 6 فصول للمتسربين من التعليم، تبلغ نسبة المتقدمين فيها ممن تجاوزوا الستين حوالى 10%، لأسباب يعللها «نظرة المجتمع للرجال أو النساء من كبار السن الراغبين فى الالتحاق بالفصول مخجلة فى معظم الأحيان، والحالات تحاول التعلم وفقاً لظروف طرأت على حياتها فجأة، أو الفراغ أو عقدة نفسية من التعليم فى الصغر، يتداركونها فى كبرهم».
الدكتور سالم الرفاعى، خبير مناهج والمواد التعليمية بمركز تطوير المناهج بوزارة التربية والتعليم، انتقد عدم توحيد الجهود فى الجمعيات المجتمعية، علاوة على عدم اهتمامها جدياً بالقضية بصورة جدية، لافتاً إلى أن المناهج التى يدرسها طالب يمحو أميته فى سن ال17 تختلف عن ال40 وما فوق 60 سنة، فضلاً عن عدم إعداد المدرس الذى يعلم وفود الأميين بصورة جيدة، مشيراً إلى ضرورة إخضاعه لدورات تدريبية مكثفة ودروس علم نفس التربوى.
ونصح «سالم» من أجل تطبيق وإنجاح مبادرة الرئيس عبدالفتاح السيسى التى أطلقها فى عيد العلم بعنوان «مجتمع يفكر.. ويتعلم.. ويبتكر»، بضرورة وضع المناهج وفقاً للبيئات المختلفة والفئات العمرية لكل طالب، مشيراً إلى أن الدولة تستطيع أن تخطط لجمع المبادرات تحت لوائها وتضع امتحانات جيدة ب3 مراكز بحثية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.