إيران نفذت مخطط تغولها فى المنطقة عبر ما يمكن تسميته أحزاب ولاية الفقيه، وأرى أن هذا المصطلح دقيق جداً لأنه يجمع بين ما هو سياسى «الحزب» وما هو دينى «ولاية الفقيه». تجلى ذلك فيما يمكن تسميته «ظاهرة أحزاب الله» فى لبنان وفى العراق بنفس المسمى، وفى اليمن وفى البحرين بمسميات مختلفة، لكن المبدأ واحد. فكرة ولاية الفقيه التى استغلتها إيران ليست محل إجماع من الشيعة فعلماء الشيعة المستنيرون يرفضون إطلاق فكرة ولاية الفقيه الحالية بأنها قاعدة شيعية وإنما يسمونها نظرية خومينية أكثر منها شيعية، ويفرقون بين ولاية الفقيه كما يراها مثلاً المرجع الشيعى العراقى «على السيستانى» وبين ولاية الفقيه الخومينية. فولاية الفقيه السيستانية تقوم على مبدأ تفسير الفقه وفق ما هو موجود بلا أى تغيير. أما «ولاية الفقيه الخومينية» تقوم على مبدأ تغيير النصوص الشرعية بل ونسفها ووضع مكانها شرع آخر. هذا الإطلاق فى صلاحيات الولاية الخومينية يمتد مما هو دينى باعتبار الفقيه هو ممثل الإمام المهدى الغائب فى الأرض إلى ما هو سياسى، بمعنى أن الخومينى يرى أنه لا شرعية ولا إسلامية لأية حكومة لا تخضع لموافقة رجال الدين الذين يمثلون الإمام الغائب المهدى المنتظر، وفى هذا المبدأ مصطلح جديد يجمع التكفير الدينى والتكفير السياسى لأية حكومة لا تخضع لرضا المراجع. لذلك لم تكن ولاية الفقيه تبعاً للتصور الخومينى مقبولة من قبل مراجع الدين الشيعة فى إيران وفى العراق، بل لاقت معارضة شديدة من علماء أهم حوزتين شيعيتين «حوزة قم» فى إيران و«حوزة النجف» فى العراق، وظلت المعارضة قائمة حتى انتصر النموذج الخومينى وفرض تصوره بالقوة حين نجحت الثورة الإيرانية. لكن كيف كانت ولاية الفقيه قبل الخومينى؟ نعم لم يخترعها الخومينى، بل كانت موجودة فى الفقه الشيعى منذ العصر الصفوى والعصر القاجارى والبهلوى، لكن كانت ولاية الفقيه وقتها مقسمة بين «الشاه» باعتباره الحاكم و«الشيخ» باعتباره الفقيه. أما فى العهد الصفوى» صارت الولاية بين «الشاه وبين المرجع الدينى»، وكان الفصل قائماً بين ما هو دينى وما هو سياسى، لكن حين جاء الخومينى قال «أنا الشاه الحاكم وأنا الشيخ المرجع». وهنا برز سؤال كبير، لماذا رغم وجود أفكار لمراجع شيعية تخالف الفكر الخومينى لماذا هى غير ظاهرة؟ ولماذا لم تنتصر؟ الجواب لأنه لن ينجح أى فكر غير مسلح فى مواجهة فكر الخومينى المسلح القائم على الإخضاع بالخوف والترهيب، هذا ما انتهجه وأسس له الخومينى وهذا ما هو موجود حتى الآن، وهنا أذكر مثالاً واحداً لما حدث مؤخراً ل«آية الله سيد حسين بروجردى» الذى سجن وصدر بحقه حكم بالإعدام عام 2006 لأنه رفض ولاية الفقيه وطالب مراراً ومعه أتباع يصلون إلى سبعة عشر عالماً، بفصل السياسة عن الإسلام، طالبوا بحكومة متدينة وليس تديناً حكومياً. نزعة مخالفة «الولى الفقيه» انتشرت بين الملالى كما قال وحذر آية الله أحمد خاتمى القريب من خامنئى. من حزب الله إلى ميليشيات الحشد الشعبى فى العراق كان نجاح نموذج حزب الله اللبنانى القائم على نشر الفكر بالسلاح محفزاً ومحرضاً على نشر الفكرة فى بلدان أخرى، وخصوصاً العراق الذى ينظر إليه النظام الحالى الإيرانى باعتباره منطقة نفوذه الأكبر أو معركته الصغرى قبل معركته الكبرى فى مكة كما هو موجود فى الفكر الخومينى. لذا منذ احتلال العراق عام 2003 كان هناك حرص إيرانى على إدارة صراع إيرانى أمريكى ثم إيرانى عربى، ونجح الإيرانيون فى صراعهم الأمريكى وانسحب الأمريكيون وتركوا لهم العراق يديره نورى المالكى حتى وقت قريب ثم يديره حيدر العبادى أحد المقربين من «نورى المالكى»، وليس بعيداً عن فكر إيران وفكر إبراهيم الجعفرى مؤسس الطائفية فى العراق. ثم بعدها نجحوا فى معركتهم مع العرب التى لم تكن موجودة أصلاً نظراً لموت العرب فى هذا التوقيت ولعل فى ذبح السفير المصرى فى العراق وخطف سفراء دول الخليج، رسالة واضحة ضد الوجود العربى ما بعد الاحتلال. لم يأت تأسيس حزب الله العراق بشكل مباشر وصريح فى البداية وإنما بدأ عبر مجموعة من الكتائب تم دمجها بعد ذلك، بدأت بكتيبة «أبوالفضل العباس» ثم كتيبة «كربلاء» ثم كتيبة زيد بن الحسين، ثم اندمجت كل هذه الكتائب فى مسمى «حزب الله العراقى». وعملت إيران على تسليحه بشكل متدرج حتى أعطته كامل التسلح من خلال أحدث أنواع الصواريخ وتحديداً بعد حادثة تفجير قبة الإمامين العسكريين التى يؤرخ بها على احتلال كامل العراق من قبل إيران. أيضاً الاهتمام بنموذج حزب الله العراقى جاء بعد حرب تموز، مستفيدين من معركتهم مع إسرائيل التى أدارها حزب الله اللبنانى فيما عرف بحرب تموز 2006 وعلى أثر هذه المعركة تم افتتاح مجمع أراك النووى، بعد أن كانت إسرائيل تسلط عليه صواريخها وتهدد بنسفه لو افتتح. عام 2006 كان عام ولاية «أحمدى نجاد» وانتصار نظرية الصقور الإيرانية وهزيمة تيار خاتمى. حزب الله العراقى مع الوقت تفرع ليكون واحداً ضمن فصائل متعددة أطلق عليها مؤخراً «ميليشيات الحشد الشعبى» التى ارتكبت فظاعات ضد أهل السنة أثناء تحرير «تكريت» ولعل ما يؤكد ذلك تصريحات رئيس مجلس محافظة صلاح الدين عن تلك الفظاعات و«هيومان رايتس ووتش» التى قالت «إن ميليشيات الحشد التى انتشرت مؤخراً تمثل خطورة كبيرة على العراق». الانتهاكات التى تمارسها ميليشيات الحشد الشعبى ضد السنة باسم الدين مخيفة، وهذا ما جعل علماء وشيوخ عشائر الأنبار يرفضون مشاركة تلك الميليشيات فى معركة تحرير الأنبار المنتظرة. سطوة هذه الميليشيات زادت مع عملية عاصفة الحزم التى شنها التحالف العربى ضد الحوثيين، أنصار إيران فى اليمن. حزب الله فى العراق لم تسع إيران لجعله حزباً سياسياً وإنما أرادته ميليشيا مسلحة تحمى وجوداً سياسياً موالياً لها بالكامل وهو حكومة حيدر العبادى ومن قبلها نورى المالكى. نموذج حزب الله اللبنانى التجربة الإيرانية الناجحة كثير من المؤرخين يرون أن تجربة حزب الله بدأت بريئة ثم تم ركوبها من قبل إيران عبر مجىء أحد عملائها وهو حسن نصرالله. بدأ تأسيس الحزب عام 82 بأفكار «محمد حسين فضل الله» كرد فعل لاجتياح إسرائيل للبنان لذا كان أول أهدافه مقاومة المحتل الإسرائيلى وكانت أولى عملياته نسف مقر القوات الأمريكية والفرنسية فى أكتوبر عام 83 التى أسفرت وقتها عن مقتل 300 جندى أمريكى وفرنسى، ومن هنا اكتسب الحزب شعبية عروبية كبيرة وظل هكذا نقياً مخلصاً للرؤية اللبنانية حتى تولى «صبحى الطفيلى» رئاسته عام 1989، ثم أعلن العصيان المدنى ضد الحكومة اللبنانية مما جعل الحزب نفسه يطيح به لأنه يرفض أن تكون قوة الحزب موجهة ضد اللبنانيين. بعدها تولى عباس الموسوى أمانة الحزب حتى اغتاله الإسرائيليون عام 1992 ثم جاء «حسن نصرالله» وسرق الفكرة كاملة ليضعها فى حضن إيران، ويصبح هو الذراع العسكرية ليس فى لبنان فقط بل فى المنطقة، وبسببه تورط الحزب فى كل ما حدث فى لبنان منذ اغتيال رفيق الحريرى وحتى احتلال بيروت فى 2008 فيما عرف بأحداث «آيار» وقتها تأكد للجميع أن سلاح نصرالله ليس موجهاً ضد الإسرائيليين بقدر ما هو موجه ضد اللبنانيين المختلفين معه بغض النظر عن انتمائهم؛ سنة أو حتى علماء دين شيعة مثل السيد على الأمين، الذى اعتدت عليه ميليشيات حزب الله وطردته من الجنوب ودمرت مقر عمله؛ لأنه عارض تصرفات نصرالله واحتلاله لبيروت. ولما قامت الثورة السورية لعب نصرالله الدور الأكبر فى لخبطة أوراق الثورة السورية ليحولها إلى معركة طائفية بامتياز حين دخل الأراضى السورية وارتكب مجازر بشعة ضد السنة هناك، مما دفع الطرف السنى الآخر المتشدد للدخول لمقاتلة نصرالله، ومن وقتها والثورة السورية تعيش حالة ارتباك كبيرة لكن كل المؤشرات الآن تشير إلى أن عمر النظام قد اقترب من السقوط ونصرالله نفسه تم تلجيمه. الحوثيون فى اليمن أنصار الله بلا حزب حتى لو كان اسمهم حركة أنصار الله، فهم أبناء فكرة حزب الله، واليد التى صنعتهم واحدة، رغم أن كثيرين يؤكدون أن بدايتهم لم تكن مرتبطة بإيران، فالحوثيون نسبة إلى «الحوثى» كعائلة واحدة من العائلات التى تؤمن بالمذهب الزيدى نسبة إلى زيد بن على، هم يختلفون عن المذهب الاثنى عشرى الإيرانى، إذ إنهم يومنون بالأئمة حتى الإمام السابع فقط، أى أنهم لا يؤمنون بالإمام الثانى عشر، وهو المهدى المنتظر ولا يؤمنون بعودته، وبذلك هم أقرب إلى أهل السنة والجماعة. «بدر الدين الحوثى» أحد فقهاء المذهب الزيدى شن معارك كثيرة ضد الحنابلة فى اليمن، مما فُسر على أنه معركة ضد السنة فى المطلق ووقتها قيل إنه يأتمر بأوامر إيران الخومينية رغم أنه نفى هذا الاتهام مراراً. تطور الأحداث ودخول الحوثيين فى صراعهم ضد على عبدالله صالح وبعدها ضد السعودية 2009 جعل هناك تأكيداً على أن هناك معركة تديرها إيران مع السعودية عبر حليفهم فى اليمن وهم الحوثيون، وظهر ذلك حين اعترضوا على المبادرة الخليجية التى اقترحتها السعودية وإدارتها وخرج على أثرها على عبدالله صالح من الحكم، لكن حين تم انقلابهم على عبدربه منصور واحتلالهم صنعاء وعدن، تم تأكيد ما كان شكاً فى السابق بأن إيران تقف وراءهم بالدعم والسلاح وبدأت الطائرات الإيرانية تهبط فى مطار صنعاء علانية تزودهم بالسلاح بعدها شنت السعودية ومعها دول الخليج ما عدا سلطنة عمان حرباً جوية سميت بعاصفة الحزم اعتبرت حرباً عربية لأنها لم تقتصر على دول الخليج فقط بل شاركت فيها مصر والأردن والسودان، لذا فسرها البعض على أنها حرب عربية إيرانية بامتياز. عاصفة الحزم أرخ كثير من العارفين باعتبارها بداية تحجيم ظاهرة أحزاب ولاية الفقيه الإيرانية التى اعتبرت وسيلة للتغول الإيرانى فى المنطقة.