«النوستالجيا» مصطلح يستخدم عادة لوصف الحنين إلى الماضى، والكلمة يونانية الأصل.. لقد تم وصفها على أنها حالة مرضية أو شكل من أشكال الاكتئاب فى بدايات الحقبة الحديثة، ثم أصبحت بعد ذلك موضوعاً ذا أهمية بالغة فى فترة الرومانتيكية. فى الغالب النوستالجيا هى حب شديد للعصور الماضية بشخصياتها وأحداثها.. يبدو أن كثيرين أصبحوا يحتاجون لمعرفة تلك المعلومات!! فلقد أصبح من الملحوظ فى الآونة الأخيرة أن تعتمد معظم البرامج الحوارية فى القنوات المختلفة على استدعاء ذكريات الماضى أكثر من مناقشة الأحداث الحالية.. فقد تفوق فريق عمل برنامج «صاحبة السعادة» على نفسه.. ونجحت إسعاد يونس فى إسعاد معظم مشاهديها بالعديد من الحلقات المميزة.. كان آخرها تلك التى قدمتها مع مطربى التسعينات والتى سمتها «شريط كوكتيل».. فلم ينافسها سوى زميلتها على نفس القناة منى الشاذلى والتى استضافت نادية مصطفى فى نفس الأسبوع.. وكأن المنافسة أصبحت على قدرة كل برنامج على استعادة نجوم الماضى!.. إنها النوستالجيا التى أصبحت عنوان المرحلة.. فمن واقع سياسى يذكرنا بستينات القرن الماضى بصورة مريبة.. بدأ بجو ناصرى وانتهى بحرب اليمن.. لظروف عربية وعالمية تعيدنا إلى زمن له ما له وعليه ما عليه.. حتى نصل إلى أغانى وأفلام الماضى التى أصبحت الورقة الإعلامية الرابحة هذه الأيام! لقد بات واضحاً أن الشعب المصرى بأكمله يعانى من هذه الحالة الغريبة.. فالكل يسترجع ذكرياته القديمة.. ويتذكر ما كان وهو يبتسم بحسرة.. وكأننا جميعاً نجذب الماضى إلينا.. بعد أن رفض عقلنا الباطن واقعنا الحالى.. فنحاول أن نستحضر أياماً أخرى.. أو حتى لننسى أياماً حاضرة..! ربما يكون صحياً أن نتذكر ما كان جميلاً فى الماضى.. فهو إحساس يجعلنا نشعر -فى خضم الأزمات- بأن الحياة ما زال بها ما يستحق.. وإنما ليس صحياً أن تستمر الحالة إلى أن ننعزل عن الواقع بذكريات الماضى.. فالظاهرة تتحول تدريجياً إلى مرض قد يصعب معه العلاج! المشكلة أن معظم من يعانون من هذا المرض الآن لم يصلوا لذلك العمر الذى يمكن وصفه بالعجز.. فالشعيرات البيضاء التى بدأت فى الظهور على رأسهم لم تتمكن من إخفاء لونه الحقيقى بعد.. فالشباب لم يغادرهم بعد.. ولكنهم يتصرفون وكأنهم قد بلغوا من العمر أرذله.. فالأمر لم يعد هروباً من مسئوليات الواقع.. بقدر ما هو هروب من الواقع نفسه!! لقد وجدت الأمر يستحق التأمل.. حين جاءتنى دعوة للاشتراك فى إحدى صفحات موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» وتحمل عنوان «عشاق الثمانينات والتسعينات».. ولأننى بالفعل من عشاق تلك الفترة.. فقد قبلت الدعوة.. لأكتشف أن الصفحة قد وصل عدد أعضائها إلى أكثر من سبعين ألفاً فى أربعة أيام.. وأنها تستقبل ما يفوق 10 «بوستات» فى الدقيقة الواحدة.. فوجدتنى أسترجع الكلمة الشهيرة «إحنا مش لوحدنا.. ده إحنا كتير أوى». الطريف فى الأمر.. أن الماضى لم يكن جميلاً كما نتخيله الآن.. فستينات القرن الماضى لم تكن أياماً سهلة.. وثمانينات نفس القرن كانت عصراً ذهبياً لأزمات اقتصادية طاحنة.. بالإضافة إلى شبكات متهالكة من المواصلات والاتصالات.. فالزمن الحالى يعتبر أفضل بكثير من تلك الأيام.. لقد اختبأنا فى الماضى ليس لأنه كان جميلاً كما نحاول أن نقنع أنفسنا الآن.. بل لأننا نرفض الحاضر.. ولا نرى مستقبلنا واضح المعالم.. ولأن جيل الوسط -الذى تخطى سنوات الشباب الأولى- فقد إحساسه بمتعة الحياة.. وقرر أن يتقمص دور العجوز.. ويكتفى بذكريات الماضى.. الذى قرر أنه كان جميلاً!! فلتنقذوا هذا الوطن من الانغماس فى ذكرياته.. فالنوستالجيا مرض بالتعريف.. وتأثيره شديد الخطورة على شباب هذا البلد الطيب.. فلتصنعوا لهم واقعاً يقبلونه.. فأحلامهم قد توقفت تقريباً.. واستبدلوها بالحنين إلى ماض ولى.. ومن لا يحلم بالمستقبل.. حتماً لا يصنعه!!