•• وأنا صغير، كنت أحلم ببكرة، ولما كبرت أصبحت أحلم بامبارح.. وهذا مايسميه هؤلاء الحالمون مثلى، بالشوق إلى الزمن الجميل، وهو مزيج بين الحنين لماضيهم ولذكرياتهم وبين الحنين للماضى المحيط وحنين للمناخ والمجتمع.. وهو حنين أيضا لمرحلة من العمر، مليئة بالحيوية، والديناميكية، والقوة.. فالزمن الجميل عندى قد يكون عبدالحليم وأم كلثوم والبيتلز، لكن هل الزمن الجميل عند أجيال سبقت هو الحنين إلى ألمظ وعبده الحامولى وعلى الكسار؟ ••«مصر فى القرن العشرين قررت أن تتفوق على نفسها».. الأستاذ محفوظ عبدالرحمن هو صاحب هذا التعبير الجميل. فمصر فى ذلك القرن عرفت عبقريات ومواهب فى شتى مناحى الحياة. وشهدت نهضة أدبية ومسرحية وفنية وثقافية ورياضية أيضا.. وكان الوقت فى تلك الفترة رحبا ومتسعا للتواصل وللتأمل وللتفكير وللاستمتاع وللاستماع، لم يقطعه ولم يفسده الهوس بالمال، والهوس بالتكنولوجيا، والهوس بالسرعة، والهوس بالصخب، والهوس بالموبايل؟! •• فى برنامجها «صاحبة السعادة» استدعت إسعاد يونس الماضى إلى الحاضر.. ونجحت فى اختيارها. أعادت جيلا إلى زمنه. وعرضت على أجيال تالية زمن هذا الجيل، وجعلته يعيشه وينغمس فيه.. فقدمت إسعاد حلقة عن البلاك كوتس، والبتى شاه. وهما فرقتان غنائيتان غربيتان اشتهرتا فى الستينيات من القرن الماضى، وكانتا متنافستين.. كلتاهما لها عشاقها ومريدوها. وكان إسماعيل الحكيم نجل الأديب توفيق الحكيم قائدا للبلاك كوتس، ومن إسماعيل الحكيم استلهم توفيق الحكيم تعبير صراع الأجيال، وهو الصراع الأبدى والقائم حتى اليوم.. بينما كان الفنان والموسيقار عمر خيرت من نجوم البتى شاه عازفا على الدرامز.. وعادت بنا إسعاد إلى بدايات فرق مصرية غنائية مثل الفور إم والمصريين.. واجتررنا معها زمن أم كلثوم وعبدالوهاب وزمن أطلال إبراهيم ناجى: «ياحبيبى كل شىء بقضاء.. ما بإيدينا خلقنا تعساء.. ربما تجمعنا أقدارنا.. ذات يوم بعدما عز اللقاء.. فإذا أنكر خل خله.. وتلاقينا لقاء الغرباء.. ومضى كل إلى غايته.. لاتقل شئنا وقل الحظ شاء».. •• كيف يمكن لإنسان أن يترجم هذه الكلمات إلى غناء منسوج فى لحن موسيقى جميل؟ •• لم تلعب إسعاد يونس على وتر الشجن وحده، ولكنها بثقافتها المتشعبة والإنسانية المتسعة غاصت فى أعماق كل ماهو شعبى من الطعام ومحبب للبسطاء، وتشتهيه كل الطبقات.. غاصت فى طبق الفول وفى أسراره، وفى ظاهرة عرباته التى انتشرت فى أحياء الجمهورية وباتت عملا مربحا للغاية.. والغوص امتد إلى قدرة الفول ذاتها وكيف وأين تصنع..؟ •• أدركت إسعاد يونس أن الناس ملت السياسة، وأحاديثها، وأزيد بأن الناس لم تعد تصدق الذين يتحدثون فى السياسة وهم يقرأون فى كتاب النظريات والمحاضرات.. وأدرك الكثير من أصحاب برامج التوك شو ذلك أيضا.. لكن يبقى لإسعاد يونس أنها بسيطة بساطة طبق الفول الشهى، وتلقائية لاتصطنع البساطة، ومثقفة لاتدعى بثقافتها ولاتعلنها، وسياسية لاتتحذلق فى خطابها، وفنانة فى اختيار أفكار برنامجها، وفى اختيارها للخروج من إطار السياسة إلى ساحة الناس، ومزجت بين الحاضر وبين الماضى، واستغلت النوستالجيا ببراعة، فجعلت من يعيشون حاضرهم يتنسمون عبير ماضيهم وشبابهم وذكرياتهم، ويتوكأون على الشجن الذى يثيره هذا كله، بينما جعلت شبابا يعيش حاضره ينظر إلى زمن مضى..؟!