يتشعبون فرقًا وقت جلستهم تماشيًا مع طبيعة "القهوة العالية"، التي تمتاز بفصل زبائنها بدرجات سلم معدودات، يتمازحون حتى يصل الضحك ذروته فتغمض أعينهم سهوًا، وهم يضعون أياديهم على صدورهم خشية انقطاع التنفس، بلمس جسدهم يتذكروا أن كفوفهم خالية من "عِدة الشغل"، وأنهم مازالوا قابعين على "قهوة الجمل" بميدان السيدة عائشة، على مرمى بصر جميع الوافدين إلى الميدان، من السابعة صباحًا كعادتهم دون أن يجاورهم "زبون". مثلما تحتفظ "قهوة الجمل" بطرازها القديم شكلًا في كراسيها الخشبية والسواعد الحديدية التي توضع عليها "المشاريب"، وتزين جدرانها ب"البلاط" البني، تمسك "المبلطون" الجالسون عليها بتقاليد "الصنايعي الأصيل" كما قال الكتاب، الذي يجلس على القهوة التي اعتادوها حتى اشتهرت ب"قهوة المبلطين" في انتظار الزبائن. "القهوة دي مصدر رزقنا، منعرفش نقعد على حتة غيرها".. يعبر حسن علي إبراهيم الشهير ب"الشرقاوي"، مبلط أرضية، عما تعنيه القهوة بالنسبة له ولزملاء المهنة من "مبيضيين ومبلطين رخام وسيراميك" ،الذي يجلسون معه من السادسة صباحًا في انتظار "زبون"، ومغادرتها في الواحدة ظهرًا إذا لم يكن من العمل بُد، ولم يأتهم أحد. على سبيل التفاخر بالماضي، يروي "الشرقاوي" ما عايشه سابقًا ويتذكره حاليًا وهو في قلبه غُصة من تقلب الأوضاع، عائدًا إلى وقت كان يأتي "الزبون" ويُرشح له صاحب القهوة "الصنايعي اللي مش شغال"، ويتعهد أمام صاحب الشقة بأنه المسؤول عن العامل إذا أخطأ لأنه يثق في تمكنه من صنعته، محفزا إياه بإعطائه "عربونا" على ضمانته، ثم تلتفت عيناه على الحاضرين حين يُكمل بأن الآن "الصنايعية بتضرب في بعضيها". مهنة بلا شيخ.. هكذا ينطبق على "المبلطين" الذين لم يفعلوا كغيرهم بتعيين شيخ للمهنة يكون همزة الوصل بينهم وبين الزبائن، متكلين على أن "شيخنا ربنا، هو اللي يرزقنا، مسلمينها له"، وكباقي المهن الحرة وعمال "اليومية" لا يملكون نقابة تحفظ حقوقهم. في عهد الرئيس الراحل أنور السادات كان العرب يعرفون مكان "قهوة الصنايعية"، وأنهم سيجدون ما يحتاجونه من صنايعية في هذه المهنة هناك، يتجهون إليهم ب"عربون" السفر لتجهيز أنفسهم دون أن يدفعوا شيئًا، حتى تنتظرهم العربية التي ستقلهم إلى البلدة المتجيهن إليها أو المطار أمام القهوة في ميدان السيدة عائشة، وتعيدهم إليها بعد انتهاء عملهم في المدة المحددة. هذه الأوقات يتذكرها القابعون على "قهوة الجمل" ويتحسرون على أيام ولَّت كانت الفلوس لا تنقطع عن أيديهم، يعملون بالخارج ويعودون، قبل أن تُفرض عليهم مصاريف سفر يحددها أي مكتب سفريات بعد رحيل "السادات" تصل إلى 5 آلاف جنيه لا يحتكم عليهم العمال، وزاحم "الصعايدة والفلاحون" صنايعية المنطقة في أكل عيشهم، ويقبلون العمل بأقل من الأُجرة المعروفة التي لا يقبل بغيرها "الشرقاوي" وزملاؤه بمعدل النصف، ليجدوا الوافدين يعملون في كل ما أوتي دون أن يكونوا من فقهاء المهنة، ما يضطر "الزبون" للعودة إلى "صنايعية قهوة الجمل". يروي الرجل الأربعيني أحوالهم التي تعثرت منذ الثورة في 2011 بسبب توقف حركة البلد، وحتى الآن، بسبب خوف المستثمرين من البناء، وكل مَن يملك أموالًا يحتفظ بها خوفًا من حدوث أي شيء، كذلك قدوم نواب مجلس الشعب إلى القهوة لشراء الأصوات و"بعد ما ينجحوا خلاص"، ويعود العمال في انتظار رأسمالهم "اليومية". العاطل "بطَّال"، هكذا يطلق الصنايعية على مَن لا عمل له منهم، مطالبين الحكومة بتنظيم "صندوق زمالة"، حتى يكون بمثابة تأمينات، تعوضهم عن حلم النقابة الذين لا يفقهون كيفية تحقيقه، ولا يعرفون غير أنهم إذا رقدوا في الفراش، لأي سببب مرضي، لن يجدوا مصدر رزق يفتح بيوتهم ويُطعم أطفالهم.