أذان فجر يوم جديد، الشمس تزيح الستار عن عتمة، ويبزغ ضوء النهار ليحرك سكون الليل، يوجه "الأرزوقية" نواصيهم من كل صوب وحدب نحو قبلتهم، يتحركون مع إيقاع حياة سريع لاهث، ليعقدوا مجلسا صباحيا يجتمع فيه أصحاب الحرفة الواحدة، ويتعالى ضجيجهم ليمتزج بصوت كركرة الشيشة، ونداء النادل على طلباتهم، تتحرك عقارب الساعة فيشتد الزحام، فلا تجد في المقهى موضعا لقدم، بين من يجلسون حول المناضد في مجموعات، ومن يتراصون أمام أبواب المقهى الزجاجية، وآخرون يقفون على رصيفها جيوبهم خاوية من حق المشاريب، وجميعهم في انتظار "بشرة الشيخ". عقارب ساعة الحائط المجاورة لإطار زجاجي "برواز" معلق يحفظ صورة صاحب المقهى، تشير للثامنة صباحا، يأتي من بعيد رجل طويل القامة، يرتدي جلبابا بلديا، ويضع يده في جيب الصديري، يقترب أكثر من المقهى القابع في حي باب الشعرية، تتضح معالم وجهه، رجل ستيني، الشعر الأبيض يغطي رأسه، وتجاعيد الزمن تبرز على وجهه، يعطيه الشارب وقارا وهيبة، إنه "سليم الشرقاوي"، شيخ القهوجية، الذي يحتفظ باللقب والوظيفة منذ ما يقرب من 25 سنة، بناء على خبرات سابقة "اشتغلت في المهنة دي من 60 سنة، فيها مصنعية 35 سنة، و25 سنة شيخ قهوجية، ومهمتي تشغيل عمال الكافتيريات والمقاهي بناء على خبرتي في المهنة". "الشرقاوي" الشيخ الخامس للقهوجية، يقول "المهنة دي من الجدود من أيام حسن علي والسيد السرجاني، ومن بعدهم توفيق وشحتة، بعدها جيت أنا سنة 90، و(جوهرة الميدان) مش أول قهوة نقعد عليها، كنا بنقعد الأول على قهوة في ميدان السواح بالزيتون، وبعدين جينا هنا سنة 95 في قهوة هنا في ميدان باب الشعرية، ومن ساعة الثورة وإحنا قاعدين هنا، وتنقلنا بين القهاوي بيكون حسب الراحة، أو نتيجة لمشاكل مع أصحابها، أو عدم استقرار الأوضاع الأمنية". "يومنا هنا يبدأ أول ما الصنايعية بتيجي من الساعة 7 الصبح، ونفضل شغالين لحد الساعة 12 ونص الضهر، وخلال الفترة دي يتم توزيع العمال على المقاهي"، هكذا يسرد "الشرقاوي" ل"الوطن" يومه، وطبيعة عمله، فيأتي أصحاب المقاهي إليه على المقهى، أو يهاتفونه على جواله، ليطلبوا "قهوجيا" للعمل ليوم واحد، "يكون صاحب القهوة الصنايعي بتاعه غايب يوم أو اتنين، وأول ما يرجع الأساسي يستغنى عن الصنايعي اللي كان شغال معاه"، متابعا حديثه "لينا فترة تانية مسائية في اليوم على القهوة، لأن أصحاب المحلات ساعات بيطلبوا قهوجي تاني في الفترة المسائي، عشان ضغط الشغل، وتعاملنا بيكون مع محلات من السيدة زينب، وباب الشعرية، والزيتون، والمطرية، وكمان بيجيلنا قهوجية من المحافظات كالشرقية ووجه بحري والصعيد، وكمان من مناطق القاهرة الكبرى زي المطرية والزيتون وحدايق القبة والجيزة". يعود "المعلم سليم" بذاكرته لما قبل 25 عاما مضوا، ويتحدث عن الاختلاف بين حال "القهوجية" في الماضي والآن، بقوله "يومية الصنايعي زمان كانت 10 جنيه، دلوقتي وصل عرقه 100 جنيه في ال24 ساعة، وطبعا ده قليل، وفي 80 جنيه، والصنايعي يواصل العمل 24 ساعة"، كما يرى الاختلاف أيضا في "ظهور الموبايل خلى الصنايعية يربطوا مع الزباين من غير علم الشيخ، ويتعدوا على وظيفته". "بيجي عيلنا مواسم زينا زي أي مهنة"، يتحدث شيخ القهوجية عن الأوقات التي تزدهر فيها الصنعة بقوله "بييجي علينا موسم زي العيد، بتبقى الصنايعية قليلة والحركة ماشية شوية، وطبعا موسم زي رمضان بناخده كله مفيش صنايعية خالص بتطلع، وبيفضل الصنايعي قاعد في البيت 30 يوم، عشان الناس الصايمة، بتكون فترة صعبة". وأثناء الحديث مع الشيخ على المقهى، يلتقط "حبشي محمود" الرجل الثلاثيني أطراف الحديث، ويحكي ل"الوطن" عن المهنة ومتاعبها "شغال قهوجي بقالي 22 سنة، أول ما اشتغلت في المهنة دي كان عندي 12 سنة، كنت شغال جرار، أنزل شيشة للزبون وأطلعله الشيشة وأغير له الشيشة، وكان أيامها العرق 12 جنيه في ال24 ساعة، فضلت أحوش منها لحد ما ربنا كرمني واتجوزت وربنا كرمنا بواحدة بنت حلال، وقعدت في أوضة في مصر القديمة إيجارها 4 جنيه ومعايا عيلين، بدأت شوية بشوية أشتغل على البوفيه، وأطلع طلبات للزباين، وبدأت الأجرة تزيد ل35 جنيه". يتابع "حبشي" حديثه عن المهنة وأسرارها، قائلا "الصنعة تخصصات، فيه حاجة اسمها جرار بينزل الشيشة للزباين، وبعد ما يخلص يشيلها ويغير المايه بتاعته، وكما في بوفيجي اللي بيقف على البوفيه (النصبة) يعمل طلبات، في حاجة اسمها (مرتجي)، ينزل طلبات ويحاسب الزبون". وكحال أي مهنة، لها متاعبها، يتحدث "النادل" الشاب عن مشاكله، فيقول "بنقعد أيام كتيرة ممكن أقعد بالأسبوعين مفيش شغل وبالشهر، لأن إحنا هنا أكتر من 120 صنايعي، فلو صنايعي مننا طلع النهاردة، خلاص يطلع زميله اللي مشتغلش، يعني نشيل بعضينا".