«قد أختلف معك فى الرأى، لكننى أدفع حياتى ثمناً لحقّك فى التعبير عن رأيك».. عبارة شهيرة قالها أحد زعماء الثورة الفرنسية، وأحد كبار الكتاب والفلاسفة التنويريين فى العالم فى القرن الثامن عشر. اسمه «فرانسوا مارى أرويه»، واشتهر باسم «فولتير». أديب كبير وشاعر وكاتب مسرحى له أكثر من ألفى كتاب ومخطوط، وأكثر من عشرين ألف خطاب، وعديد المناظرات الفكرية الملهمة، ولم يترك حقلاً إبداعياً كتابيّا إلا وخاضه ونبه فيه، فضلاً عن دوره الريادى فى حقل الإصلاح الاجتماعى والذود عن الحريات الفكرية والعَقَدية ومحاربته لهيمنة الكنيسة الكاثوليكية وسيطرتها على الشعب الأوروبى آنذاك. وكان لكتاباته، إلى جانب جون لوك وجان جاك روسّو ومونتسكيو، الدور الأبرز فى انبثاق عصر التنوير فى أوروبا. حين جاء أجله عام 1778 قال: «أنا الآن على شفا الموت وأنا أعبد الله، وأحبّ أصدقائى، ولا أكره أعدائى، وأمقت الخرافات». وحين جىء له بالكاهن ليدلى له باعترافه الأخير قبل الموت، حسب الطقس المسيحى، قال فولتير للكاهن: «هل معك توكيل من الله لأبوح لك بأسرارى التى لا يعرفها إلا الله؟». فى كل زمان ومكان بشر مغرورون يوهمون البسطاء، وأنفسهم أيضاً لأنهم من البسطاء فكراً وعقلاً، بأن معهم توكيلاً من الله بإدانة عباد مثلهم! شهدنا تلك المهازل فى الأيام القليلة الماضية ضمن الحملة مسنونة الأسنان التى يتعرض لها الباحث «إسلام بحيرى» لأنه «تجرأ» ورفض أن يجعل من البشر آلهةً فوق النقد! اتفقْ مع طرحه أو اختلفْ، فالاتفاق العاقل والاختلاف العاقل كلاهما أمر صحىّ يشى بأن لنا عقولاً تفكر وتعقل وتقبل وترفض. يشى بأن عقولنا غير معطلة وتعمل بكفاءة. يشى بأننا عباد صالحون نستخدم أهم أجهزة أجسامنا البشرية التى صنعها الله بعبقرية وإبداع: «المخ البشرى»، وبأن هذا المخ يعمل وينتج أفكاراً ويحلّل ويتدبر، كما أوصانا الله فى كل موضع: «اقرأ- اعقلْ- تدبر، تفكّر- افقه ...». اتفقْ معه واختلفْ، لكن إياكَ أن تجعل من نفسك إلهاً مع الله فتهدر دماً، أو تدين، أو ترمى بالكفر، فتلك حيلة العجزة تجار الدين فى القرون الوسطى، وتجار الدين الراهنين من الإخوان والوهابيين ومن سلك مسلكهم، وهم الأقل عقلاً وإيماناً والأكثر غروراً وخمولاً، والأبعد عن الله الذى منحنا، بمنتهى التحضر، الحريةَ كاملة غير منقوصة فى أن نؤمن به أو نكفر، وله «وحده» حقّ الحساب وحقّ الغفران أو الإدانة. من العيب، والمخجل، أن نفعل فى القرن الواحد والعشرين ما فعله الأوروبيون منذ ستة قرون وثاروا عليه وباتوا يخجلون منه الآن حين يتذكرونه. من المخزى أننا ما زلنا نقطع الألسن ونكمم الأفواه نجعل من أنفسنا آلةً تقيّم بشراً مثلنا ونحاكمهم وننصب لهم المقاصل على أفكارهم، صائبةً كانت أم خاطئة. الوليد بن رشد، تجاوز هذه المحنة فى القرن الثانى عشر، وأقسم أنه لو عاد للحياة ورأى ما نصنع ببعضنا بعضاً لندم على عمره الذى أفناه فى إثبات أن العقلَ فوق النقل، وأن الحجّة لا تقارَع إلا بالحجّة. هذا المقال ليس دفاعاً عن إسلام بحيرى أو إبراهيم عيسى أو سيد القمنى أو نفسى، وسوانا ممن قالوا فأدينوا، فجميعنا لسنا بحاجة لدفاع أحد، إنما هو دفاع عن حرية الكلمة، وإدانة لحرية الضغط على الزناد. الإدانة الوحيدة التى أنتصر لها هى إدانة القتل والانتهاك والإيذاء والخوض فى الشرف والتفتيش فى الضمائر. هلا شققتم عن قلوبنا لتروا بأمّ أعينكم أن الله يسكنها ويملؤها إيماناً وتقى؟ وإلا، هلا أريتمونا التفويضَ الذى منحكم الله إياه لتدينونا وتحاسبونا على الأرض لأننا فكرنا وعبّرنا، فى حين تصمتون حين يقتل القتلة ويذبح الذابحون!