ميزة أبى الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) أنه -قبل أن يأتيه الوحى الإلهى- مارس التفكير المنهجى، ورفض الواقع القديم بناءً على هذا التفكير، لكنه لم يكتف بهذا مثل التفكيكيين والشكّاك الجذريين وطائفة من الثوريين الذين لا يملكون سوى الثورة على واقع موجود لا تأسيس واقع جديد، ولا يستطيعون إلا الرفض والهدم، لكنهم غير قادرين على بناء واقع بديل، فيكون ضررهم أكثر من نفعهم، بل انطلق عليه السلام بعد الشك المنهجى وهدم القديم، إلى اليقين وبناء واقع جديد. وكانت الصعوبة كبيرة فى المرحلتين: مرحلة الثورة على الواقع القديم، ومرحلة بناء واقع جديد. والواقع القديم كان صعباً فى زمن إبراهيم، وكان معقداً فى زمن ديكارت. وفى حالة ديكارت نجده درس العلوم الموروثة، ووجد تنازعاً كبيراً وتناقضات لا حصر لها، وهناك كهنوت وعقائد كنسية مسيطرة، وفرق تعيش فى أجواء العصور الوسطى المظلمة، وتيارات متصارعة، وعدد كبير من الفلسفات المختلفة بعدد الفلاسفة، واختلاط بين الأوهام والعقائد والمعارف العلمية. ووجد ديكارت صعوبة التمييز، فأراد أن يخرج من هذه الحالة المضطربة، وأن يحل التناقض، ويصل إلى المعارف الواضحة والمتميزة من بين هذا الركام الضخم المتلاطم من الأفكار والعقائد فى عقله، وهنا سأل نفسه: ماذا لو لدينا «سلة تفاح» مليئة بالتفاح السليم والفاسد؟ أليس تفاحة واحدة فاسدة تستطيع إفساد سلة التفاح كاملة؟ أليس أفضل طريقة للتخلص من التفاح الفاسد هو إخراج كل التفاح من السلة، ثم فحص كل التفاح.. تفاحة تلو الأخرى. ولا نعيد أى تفاحة منها مرة أخرى إلى السلة إلا إذا تيقنا من أنها سليمة تماماً؟ وكانت الإجابة هى نعم. ومن هنا كان لا بد من طرح كل الأفكار القديمة التى تحشو عقولنا خارج هذا العقل، ثم اختبار وفحص كل فكرة من البداية إلى النهاية حتى نتأكد من سلامة كل فكرة.. الواحدة بعد الأخرى. ولا نقبل بعد ذلك إلا الأفكار الواضحة والمتميزة التى قام البرهان على سلامتها كلية. ومما ساعد ديكارت على الشك فى كل الأفكار هو افتراض أنه قد يوجد شيطان خبيث ذو قدرة يخدع البشر بتعمد وبشكل منتظم، ونتيجة لذلك قد لا نفْهَم الكون وأجزاءه بصورة واضحة، ولا يمكن لنا أن نكون على يقين من المعارف التى نتوصل لها. يقول «ديكارت»: «سوف أفترض عندئذ، ولا أقصد هنا الله الذى هو الخير الأسمى وينبوع الحقيقة، وجود شيطان خبيث يتمتع بالنفوذ والخداع قد حشد كل طاقاته لخداعى» (ديكارت، تأملات فى الفلسفة الأولى). وإذا كان ديكارت افترض وجود شيطان يتلاعب بعقله، فهو يعنى ذلك «الكائن الغيبى المخادع المضلل»، أما فى عصرنا فربما يكون هذا الشيطان هو «إنسان يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة» ويستطيع أن يخدع ويتلاعب بالعقول بما يملك من «كاريزما» أو أدوات «سحر العقول»، لا سيما مع عقول تربت على الحفظ والتلقين، والعلم عندها هو حفظ المعلومات وليس إنتاج العلم، والحكم على الناس عندها بالظاهر و«الخَنفة» والتشدق بالألفاظ، وهى عقول رسخت فيها أفكار غير قابلة للحذف أو التعديل بسبب «ماكينة التفكير» التى لم تعرف يوماً طرق التفكير الدقيق! وربما يكون ذلك الشيطان الخبيث الذى يتمتع بالنفوذ والخداع ويحشد كل طاقاته لخداعنا فى عصرنا هو الآلة الإعلامية الضخمة التى يتحكم فيها المال الأجنبى فيمكنها أن تسقط شعوباً ودولاً! من هنا يجب ألا نصدق كل ما نسمع أو حتى نشاهد؛ فالتلاعب الشيطانى لا يمارسه إبليس فقط، بل انضمت إليه جوقة طويلة. وقد طرح «ديكارت» افتراضه عن وجود شيطان ماكر بعد مناقشاته الثلاث الأخرى المهمة حول شك البشر فى معتقداتهم (أى غياب الثقة، وإمكانية الحلم، وإمكانية وقوع الخطأ عند استخدام التفكير الرياضى)، ووصل بالشك المنهجى إلى أبعد الحدود. ويشير «ديكارت» فى نظريته الجذرية إلى ضرورة «الشك فى كل ما يمكن الشك فيه»، كما يرى أن المعتقد الوحيد الذى ينجو من مكر الشيطان هو وعى الإنسان بوجوده الحالى، وهنا قال قولته الشهيرة: «أنا أشك، إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود (cogito ergo sum)»، التى تعتبر نقطة البداية لثبوت المعرفة. فهل يمكن أن نخرج كل التفاح (=الأفكار) من السلة (=العقل)، ثم نعيد فحص الفكرة الواحدة تلو الأخرى؟ ولا نعيد أى فكرة منها مرة أخرى إلى عقلنا إلا تلك التى قام البرهان على سلامتها كلية؟ أليس إعمال العقل النقدى دعوة قرآنية أصيلة فى مقابل العقل الجامد الحاضن لنصوص القدماء والمفسر لها حرفياً بعيداً عن الواقع المتجدد وبعيداً عن النظر فى الآفاق وفى الأنفس وفى الكتاب؟ هل يمكن أن نقوم لله مثنى وفرادى ثم نتفكر؟ هل يمكن أن يكون التفكير المنهجى فرض عين على كل فرد بذاته فى استجابة سريعة وفورية لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (سبأ: 46)؟ أزعم أنه بدون ذلك لا يمكن أن نبدأ عصراً دينياً جديداً. يتبع بإذن الله.