إن افتتاح عصر جديد هو نتاج جهود ضخمة ومتعددة فى الغرب كله، كما انتهينا فى المقال السابق، لكن ميزة «ديكارت» أنه اختزل كل التيارات الصاعدة والأفكار الجديدة فى عبارة واحدة أعطت مفتاحاً جديداً لعصر جديد هو عصر العقل. والعبارة التى لخصت الفكرة الافتتاحية للعصر الجديد فى الغرب، هى: «أنا أفكر، إذن أنا موجود». ونحن بحاجة لهذه العبارة لا لنزين بها كلماتنا وخطبنا، لكن لتكون مفتاحاً لخطاب جديد يستعيد دعوة إبراهيم (عليه السلام) والأمر القرآنى الراسخ لإعمال العقل فى كل ما حولنا (ملكوت السموات والأرض)؛ والسموات هنا ليست ذلك الفضاء بمجراته ونجومه وأقماره فقط، بل أيضاً السموات كمقدس ورمز لكل ما هو إلهى، والأرض هنا ليست ذلك الكوكب الذى يدور حول الشمس فقط، بل أيضاً الأرض كرمز للحياة الدنيا. وبدون إعادة النظر فى هذا الملكوت السمائى الأرضى لا يمكن لنا أن نصل إلى خطاب دينى جديد نفتتح به عصر حداثتنا الذى لم يأتِ بعد. ومن ثمّ فالتجديد لا يأتى إلا بالنظر فى العالم (ملكوت السموات والأرض)، وليس بإعادة اجترار موروث يعبر عن عصور لم نعشها ولم نُخلق لها. إن هذه الفكرة المفتاحية «أنا أفكر» هى ما يسميه مؤرخو الأفكار «الكوجيتو الديكارتى»، ويوحى هذا الكوجيتو بأن «الفكر» له الأسبقية المنطقية فى الخروج من الشك والوهم إلى المعرفة الصحيحة والمنضبطة. إنها كما يقول ديكارت: «أهم وأوثق معرفة تعرض لمن يدير أفكاره بترتيب» (ديكارت، مبادئ الفلسفة، ص 56). إن المعرفة المنضبطة لا بد أن تكون نتيجة طبيعية لكل من يُعمل عقله بمنهج دقيق طبقاً لمعايير موزونة. وكان الشك المنهجى هو الأساس الركين الذى توصل منه ديكارت إلى «الذاتية الإنسانية الفردية العاقلة» التى صارت أساس كل تجديد، ونقطة البداية فى إعادة بناء عصر جديد، تلك الذات التى تأسست على «الأنا أفكر»، والتى اختصرت مطلع العصر كله واختصرت منهج ديكارت، وتلخص أساس تحمل الإنسان للمسئولية والتكليف فى الإسلام. ولا أريد هنا أن أقف عند مذهب ديكارت فى «ما بعد الطبيعة»، فهذا المذهب -ويا للمفارقة- لاهوتى على العكس من منهجه العقلى، وقد سبق فى كتابى «أقنعة ديكارت العقلانية تتساقط» أن أوضحت لاهوتية ديكارت فى المذهب، وكيف أن عقلانيته فى كتابه «المقال فى المنهج» تحولت فى «المذهب» إلى أقنعة يدارى بها اتجاهاته اللاهوتية التى ظهرت فى كتبه الأخرى مثل «مبادئ الفلسفة». ويجب أن نميز بين منهج ديكارت العقلانى، وبين مذهبه غير العقلانى فى جوانب كثيرة، والمنهج هو «خطوات التفكير الصحيحة من أجل الوصول إلى الحقيقة»، أما المذهب فهو «مجموعة الآراء والأفكار التى يقدمها المفكر عن العالم والإنسان والله». والمنهج الذى اقترحه ديكارت لا شك أنه منهج عقلانى، لكنه فى الواقع الفعلى لم يطبق هذا المنهج بشكل كامل على مذهبه. فهناك جوانب فى آرائه عن الله والعالم والإنسان تشتمل على عناصر غير عقلانية. ومع هذا النقد الشديد الذى وجهته إلى ديكارت فى المذهب، فلا يمكن إنكار ريادته فى «المنهج» وفضله على العصر الحديث. كما أن الأقنعة العقلية التى تقنّع بها فى المذهب، كان لها أثر إيجابى للغاية فى التأثير على الخطاب الدينى على الرغم من أنها مجرد أقنعة؛ حيث كان من حسن حظ الحداثة أنها فهمت القناع على أنه الوجه الحقيقى؛ ومن ثم أخذت تُمعن فى استخدام العقل! لكن لنكن نحن أكثر جذرية، ونعول على عقلانية المنهج، وندع المذهب وشأنه فقد أشبعناه نقداً فى كتابنا «أقنعة ديكارت»، فى الوقت الذى انتصرنا فيه للمنهج. ف«ديكارت» يصيب ويخطئ مثل أى بشر، لكن يظل المنهج من أهم منجزاته ذات الأثر فى العصر الحديث. إن هذا المنهج هو ما بقى من ديكارت حتى اليوم، وهو ما نحتاج إلى إعماله فى حياتنا. أقول هذا على الرغم من أنى أعى أن العقلانية الآن أصبحت أكثر نضجاً وتطوراً، وقد تجاوزت مناهجها ديكارت فى كثير من الجوانب. ومن أسف نحن ترجمنا ديكارت إلى لغتنا لكننا لم نستفد من عقلانيته إلا النزر اليسير، ولم نفتح نوافذنا لضوء كافٍ من أضواء العقلانية الحديثة. والمبدأ «أنا أفكر؛ إذن أنا موجود»، لم يصل إليه ديكارت اعتباطاً، بل هو نتيجة تجربة «الشك المنهجى» التى مر بها. وحتى تكون الصورة أكثر اتضاحاً أمام القارئ، فإن ديكارت شك، واستنبط من هذا الشك أنه يفكر؛ لأن الشك يعنى أن هناك كائناً يفكر، وهذا يعنى بالضرورة أنه موجود، وهذه أول حقيقة يصل إليها ديكارت ومنها يستنبط سائر الحقائق: «وجود الله»، ثم «وجود العالم». (حسب ظاهر منهجه لا حسب مذهبه الذى كشفنا عن لاهوتيته الباطنة فى كتاب أكاديمى). وما يعنينا هنا هو منهجه فقط الذى يقوم على «الشك المنهجى»؛ لأنه أكبر خطوة على طريق الحداثة على الرغم من أن ديكارت نفسه لم يستثمره لا فى الدين ولا فى السياسة، لكنه كان خطوة ضرورية جاء بعدها من المفكرين من وظفوه فى تجديد الخطاب الدينى، وأيضاً من وظفوه فى تجديد الخطاب السياسى. يتبع بإذن الله...