لم تتوقف عن البكاء من لحظة أن التقيتُها فى هذا المقهى الساحلى المجاور لبيتى، والذى اعتدت أن أقابلها فيه من وقت إلى آخر على فنجان قهوة «صباحى». تضاءلَت قدرتى على تحمُّل ما كانت فيه مع كل جملة كانت تنطق بها، دفعها قلبها الموجوع إلى الحديث المتواصل الممتلئ بالأسئلة، فقد اتخذت لتوّها قرار الابتعاد عن شخص ما زالت تحبّه، بعدما فشلت كل مساعيها للاحتفاظ به. نظرَت إلىّ تلتمس إجابة، وسألَت بكل ما فيها: لماذا لا نتخلص من الحب بنفس السهولة التى نقع فيه بها؟! مسحَت دموعها وأمعنَت النظر فىّ تلتمس إجابة. قلت لها: أعتقد أن الحب يأتينا فى لحظة ما ليحتلّ قلوبنا فقط، ولكننا لا ندرى أننا عندما نسكنه ذلك المكان نمنحه الفرصة -رغماً عنا- ليصل إلى كل مكان فينا مع كل نقطة دم طازجة يرسلها هذا القلب الصغير إلى كل أطراف أجسادنا فيسكنها. هنا تأتى صعوبة انتزاعه من كل مكان وصل إليه وتوطّن فيه، وليس من القلب فقط. بذلتُ أقصى ما أستطيع حتى أهدئ حالها، ثم ركبتُ سيارتى متجهة إلى البيت. لم أتوقف عن التفكير فيما قلته لها. انتبهت إلى أغنية فى راديو السيارة لأحد أباطرة فن الأرابيسك فى تركيا (الأغانى ذات الطابع العربى) اسمه «سلامى شاهين»، من أُمّ مصرية وأبّ تركى. كنت قد قدمتُ حفلاته الأسبوعية على مسرح «تقسيم» الشهير قبل أن أتفرّغ تماماً لبرنامجى ال«صباحى». صوته عربى دافئ رغم أنه لم يُغَنِّ العربية إلا فى هذه الحفلات. استمعت إليها وكأنها المرة الأولى لى: «التعوّد أصعب من الحب.. التعوّد فى داخلى جرح ينزف دماً.. فى غيابك تحتضن ذراعاى الفراغ.. تعوّدتُ يا وحيدتى.. تعوّدتُ عليكِ». الأمر هكذا إذن يا عزيزى سلامى شاهين، المشكلة ليست فى الحب، هو التعوّد إذن الذى يدمينا فى داخلنا آلاف المرات عندما نبتعد عمن أحببناهم وتعودنا أن نلتقيهم دائماً، فقد صنعوا لنا ذكرياتنا، نراهم فى كل شىء وكل مكان!! كيف يمكننا أن نطهّر أنفسنا من هذا الوجع إذن؟ أعرف جيداً أن مسألة تحمّل الغياب هذه ستختلف حسب موقع هذا الشخص فى حياتك، سأتحدث هنا فقط عن قصص الحب التى تملأ حياتنا، وندمنها حتى نتصور أننا لن نحيا يوماً بعدها. قبل أن نبحث معاً عن حل المشكلة.. أريدك أن تعرف فى البداية أن الزمن سيغيِّر كثيراً بداخلك لدرجة يمكن أن تفاجئك.. تذكّر جيداً هذه الجملة. ولكن هناك خطوات سحرية، أعتقد أنها يمكن أن تساعدك حتى تصل إلى برّ الأمان الذى تتمناه الآن. أولاً: ابدأ يومك وأنت تتجمّل لاستقباله، وقل لنفسك كل صباح إنك أقوى مما تمر به الآن، وإنه سينتهى قريباً. ارتدِ الشخصية التى تتمناها وابتسم فى وجه الحياة، فليس هناك ما يستحق أن يمر يومك فى حزن. هو يوم من عمرك أنت ولن يعود، فلا تهدره.. وكن واثقاً بأنك ستستطيع فعل ذلك. ثانياً: غيّر عاداتك فوراً، وبلا نقاش. فقط لفترة قصيرة افعل أشياء أخرى غير تلك التى اعتدتها معهم. مثلاً إن كنت تشاركهم القهوة كل صباح، اذهب وشارك عائلتك الإفطار، غيِّر.. لا تتردد، فأنت تستطيع. ثالثاً: اصنع ذكريات سعيدة جديدة مع أشخاص جدد مع الوقت. احذر يا صديقى أن تحصرها فى شخص واحد، فقد تقع فى مشكلة أخرى مع الوقت، وهذا ما لا ترغب فيه بكل تأكيد. رابعاً: راقب مشاعرك كل يوم حتى تستقر واسترجع كل ما حدث. اسأل نفسك كيف ترى الأمر الآن، هل تراهم كما كانوا من قبل؟ هل لديك نفس الألم؟ حتماً هو لم ينتهِ تماماً الآن ولكنه سيزول قريباً. خامساً: هذه الخطوة ستحتاج منك إلى جرأة، فلا تفعلها إلا وأنت قادر عليها، عندما توقن أن مشاعرك استقرّت ولم تعُد فى مرحلة الفوَران من الوجع، وإن كانت لديك الإمكانية لتلتقيهم من جديد، افعلها.. قابلهم وجهاً لوجه، تحدث إليهم فى أى مواضيع أخرى غير ما كان يجمعكم، راقبهم جيداً، تأملهم الآن.. كيف تراهم؟ غالباً ستجد أنك لم تعُد تراهم كما كنت تراهم من قبل، فقد أسبغت عليهم صفات من خيالك. صدّقنى، إن كانوا أحبّوك فعلاً ما كانوا آلموك. خطوة المواجهة هذه ستحمل لك الشفاء التام، فلا تفعلها إلا فى الوقت الصحيح. يا صديقى المتعب.. لا تخجل من ضعفك فى مراحلك الأولى، فهذا أمر طبيعى حتماً ستواجهه، لا تخجل.. فكلنا هذا الضعيف أمام مشاعرنا.. الأهم الآن بعد أن تشفى أن تنتبه جيداً إلى المقبل. تذكّر وأنت تبدأ من جديد أن هناك ما هو أصعب من الحب. أرجوك، لا تتعوّد على أن تشارك الأشياء مع من تتوقع رحيله. شارك فقط من توقن أنه سيظل إلى جوارك مهما كان، ولا تنسَ أنك كلما تعوّدت على شىء، فقدتَ حرّيتك فى فعل غيره، فلا تُضِعها إلا فى ما يستحق، مع من يستحق.