ننهزم فقط عندما نستسلم، ولا شىء فى الدنيا يجعلنا نستسلم قدر مشاعرنا وذكرياتنا، تلك الجروح التى تمتدّ تحت معطف كل واحد منّا، جروح لم يصنعها سوى قلب تَمرّد على سطوة الوحدة، ووجع الإهمال والاحتياج.. وقرر أن يفكّ الحصار عن مشاعره. ففى لغة المجتمعات التى تمنع كل شىء وأى شىء، تخجل من كل شىء وأى شىء، ننفلت ونركض إلى أوّل يد تربُت على أحلامنا، وتطلق لنبض قلوبنا كل الفضاءات الرحبة لترتع فيها، ونسعى بكل ما فينا لتتذوق طعم الحياة.. فلا نخرج من مرحلة نضوجنا إلا بهذا الوجع الذى نُفنِى أعمارنا فى محاولات الشفاء منه، ولا نستطيع! نعم، فنحن بفعل فاعل نقع فى هذه المشاعر العاصفة فى مجيئها والموجعة فى رحيلها، نحمل أحلامنا العطشى إليها ونركض. نقبِّل الأرض أمام مَن نُحِبّ، نقسم أننا لن نحب سواهم، نذوب فى لذّة الخضوع لأحلامنا معهم وبهم إلى أن نفيق، فغالباً ما تنتهى هذه القصص بنهايات مأساوية تستنزفنا أوجاعها إلى أن نموت. سأَصْدُقكم القول.. المشكلة لم تعُد فقط فى أسباب هذا الاحتياج الذى سلّمَنا طائعين لتلك المشاعر التى بدورها أورثتنا وجع الفشل.. المشكلة الحقيقية التى نواجهها حقّا فى ما نعيشه بعد ذلك.. فهذا الألم يحكم علاقاتنا المقبلة مع مَن قررنا أن نكمل حياتنا إلى جوارهم، فنتحول إلى أحد الضدّين: إما نسعى لأن نجد الشبيه للحبيب الضائع إلى حد التطابق، وإما نهرب من كل مَن يحمل منه صفة أو شَبَهاً إلى حدِّ النفور، فتختلّ مقاييس اختياراتنا، ولا نرى إلا ما نريد وفق هذه المعادلة، فنفشل فى إقامة حياة سعيدة متّزِنة، مرة بعد مرة. نحن ببساطة نجهل كيفية التعامل مع فشل مشاعرنا، فتحكمنا قواعد الرغبة والرهبة ونعيش فى ظل الخوف من أن تحملنا قلوبنا إلى نفس المصير من جديد، فنقيدها أو نقتلها، أو نُقحِمُها فى تجاربَ فاشلة أخرى.. فلا نمنح الفرصة للوافد الجديد لأن يدخل إلى حياتنا وقلوبنا حقّاً. اسمحوا لى بأن أسألكم: هل قررتم أن تعيشوا هكذا حقّا؟ هل قررتم أن تتحكم ذكرياتكم فى مستقبلكم ومصائر بيوتكم؟ ألم يكفِنا ذنباً أنّ قلوبنا أحبّت تحت وقع الضغط والحرمان؟ إذن، لا تحرقوا بقايا مشاعركم بأيديكم، اغتسلوا من كل هذه الأوجاع.. عليكم فقط أن تدوِّنوا هذه التجارب بقسمها الحلو فى دفاتركم القديمة، واشكروا لمن صنعها لكم أنهم لو لم يكونوا فى حياتكم ما عشتم تلك السعادة يوماً.. وقبل أن تعودوا اتركوهم هناك، مجرّد أسماء وحكايات تنام على تلك السطور فى سكينة وسلام، بلا ألم.. نحن حقّا نحتاج إلى ذلك. وأنت يا صديقى الطيب، لا تنسَ أن حياتنا ما هى إلا تجارب، وبين النصر والهزيمة تتشكل هُوِيّاتنا وشخصياتنا وملامح مستقبلنا، أليست معادلة رابحة لك؟ هيا إذن اغتسلوا من وقع هذه الذكريات بعقولكم، تَحرّروا منها وعيشوا حياتكم كما هى الآن واتركوها تصل إلى أعمق ما فيكم، ابدؤوا من جديد، بكاملكم. وإذا أوجعتكم ألسِنَة الشوارع التى جمعتكم بهم فتصالحوا مع هذا الوجع وابتسموا، فهم لم يكونوا سوى بعض المارة الذين أتوكم زائرين، ورحلوا.. وسيبقون رسماً على جدران قلوبكم تحملون لهم فضل التجربة فى يوم ما فى حياتكم.. حتماً تعلمتم معهم أشياء كثيرة. ضعوا تجاربكم فى صندوق آمِن بداخلكم، واعلموا أنكم لستم مُطالَبين بأن تحْكُوا تجاربكم السابقة لشركاء مستقبلكم، فهى لن تفيدهم شيئاً، وما بداخل الصندوق لم يُخلَق للمشاركة.. أنت وحدك تستطيع حمله لأنك وحدك من تعرف ما عشته، وكيف كان، ولماذا.. ولن يشعر بك سواك. عليك فقط أن تفتح الباب من جديد، وتترك كل ما كان خلفك، فلا تحمِّل شخصاً وِزْر آخَر، نعم، ادخل من الباب من جديد كأنك ما أتيته قط، وابدأ من جديد، فهذا حقك، حمِّلْ قلبك أمنياتك البيضاء، واترك للسعادة حقّ الدخول إلى حياتك؛ أنت تستحق. ولا يليق بنا أن نحرق مستقبلنا بنار ماضينا، ابدؤوا من جديد، وشكراً لكل من علّمونا وأوجعونا، فمِن رَحِم الألم نتعلم فن الحياة. يقول صديق لى: النهايات مؤلمة، ولكنها حتماً تحمل بدايات جديدة أكثر جمالاً. فارحلوا عن أرض المقهورين، المستسلمين، المنتقمين، وابدؤوا حياتكم التى طالما تمنيتموها، فمن العبث أن ندخل هذه الدنيا ونخرج منها ونحن سجناء على عتبة أول تجربة عشناها.. فالنهر لن يتوقف يوماً، وهو لا يمشى إلا فى اتجاه واحد، فلن يغيِّر مساره مهما فعلت، ولن يسير إلى الخلف مهما كان.. فحافظوا على سنواتكم المقبلة، فأحلامكم ما زالت ممكنة، فاحرثوا هذه الأرض وامنحوها حقّ الحياة.. فأنتم تستحقون.